أكثر من 200 يوم على "طوفان الأقصى".. جبهات المقاومة أكثر إيلاماً

على مدار 200 يوم، قدّم محور المقاومة لوحة استراتيجية عن عمله، وعما قام به من مراكمة للقوة ولنقاط التقدم في المواجهة العسكرية القائمة على الاستنزاف، ليؤكد أنه منظومة إقليمية جيوبولوتيكية موجود بقوة.

  • استطاع المحور أن يشكل جبهات مساندة لغزة تمنع العدو من الاستفراد بالمقاومة فيها
    استطاع المحور أن يشكل جبهات مساندة لغزة تمنع العدو من الاستفراد بالمقاومة فيها

نفذ محور المقاومة خلال 200 يوم من "طوفان الأقصى" والعدوان الإسرائيلي على غزة نحو 1998 عملية في كل الجبهات من لبنان واليمن والعراق، حيث قام حزب الله بـ1637 عملية ضد المواقع العسكرية والمستوطنات الإسرائيلية، فيما قام اليمن بـ118 عملية موزعة بين عمليات بحرية وأخرى لاستهداف الأراضي المحتلة، بينما قامت المقاومة العراقية بـ243 عملية موزعة بين القواعد الأميركية في سوريا والعراق وبين قصف أهداف حيوية للعدو الإسرائيلي في الأراضي المحتلة. 

طرحتُ هذه الأرقام التي صدرت عن الإعلام الحربي لهذه الجبهات العسكرية حتى كتابة هذا المقال، لكي انطلق منها لتقييم عمل محور المقاومة في مساندة قطاع غزة بعد مرور 200 يوم على "طوفان الأقصى"، خاصةً أن هناك مستجدات دخلت في الكم والنوع على عمليات المحور، بالإضافة إلى عوامل أخرى أبرزها دخول الجمهورية الإسلامية الإيرانية مباشرة على خط الصراع مع العدو الإسرائيلي، عقب الرد على الاعتداء الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق. 

وفق ما تقدم، سوف نقوم هنا بالإجابة عن السؤال المطروح حول ما يقوم به المحور؟ وذلك من خلال تقسيم هذه الجبهات كلاً على حِدة، علماً أن ما يقدمه المحور من تضحيات وشهداء في مقابل السعي الأميركي-الإسرائيلي لتقويض عمله وعدم توسيع الحرب معه هو خير دليل على تطوره ومجهوده العسكري، وبالتالي سوف نبدأ بالحديث عن هذه الجبهات بتقسيمها إلى ثلاث: الجبهة اللبنانية ثم الجبهة اليمنية فجبهة المقاومة العراقية.

أولاً: حزب الله.. معضلة استراتيجية

منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023 ينفذ حزب الله عمليات عسكرية ضد المواقع العسكرية الإسرائيلية، حيث تخوض المقاومة في جنوب لبنان معركتها الإشغالية الخاصة مع العدو الإسرائيلي التي تبقى دون الحرب المفتوحة، وهو ما يشكل عامل استنزاف كبير للعدو على مدار كل هذه الأيام، وبالتالي تشكّل معضلة كبيرة يضج بها كل الكيان من كبار مسؤوليه إلى أصغرهم في المستوطنات الشمالية.

وبشكل يومي، تقوم المقاومة بإشغال "جيش" العدو مساندة للشعب الفلسطيني، مستهدفةً المواقع العسكرية والمستوطنات، وقد تطور حزب الله في عمله لناحية توسيع العمق الجغرافي في الكثير من الأحيان كما حصل مؤخراً في استهداف ثكنة شراغا شمال عكا، ولناحية استهداف مراكز حساسة للعدو بدأت تزيد معها خسائره المادية والبشرية كما في عملية عرب العرامشة، مع ملاحظة السلاح المستخدم في بعض العمليات ودخول أسلحة دقيقة تُكشف للمرة الأولى، نظير "فلق" بأجياله المختلفة و"ألماس" والمسيرات، فضلاً عن رصده الدقيق ومعلوماته الاستخبارية وقدرته على تنفيذ عمليات مركبة ومتعددة، حيث استطاع حزب الله في هذه الحرب أن يؤرق قيادات العدو ويهجّر مستوطني شمال فلسطين المحتلة.

 ولمعرفة أهمية هذه الجبهة، علينا ملاحظة كمية التصريحات الإسرائيلية المهددة للبنان، والتي تتحدث عن ضرورة عودة المستوطنين بشكل آمن إلى المستوطنات ما يبيّن أن الوعي الإسرائيلي تغيّر حيث بدأ يعيش حالة رعب من العودة إلى المستوطنات ويرى أن الكيان غير آمن.

ويمكن الركون هنا أيضاً إلى ما يقوله معهد الأمن القومي الإسرائيلي في تقييمه لجبهة الشمال، إذ يرى أن دراسة التوازن الحالي للقتال في المنطقة تظهر أنه على الرغم من طبيعته المحدودة، يستطيع حزب الله أن يسجل لنفسه سلسلة من الإنجازات، التي "يتباهى بها نصر الله في خطاباته"، ويعدّد الإنجازات بأنها "إحكام الحصار على الجيش الإسرائيلي على الجبهة الشمالية في محاولة لإرهاقه، الإضرار بمواقع الجيش الإسرائيلي وقواعده، إسقاط عدد من الطائرات الإسرائيلية من دون طيار، تدمير البنية التحتية والمباني المدنية والمنشآت الزراعية على طول الحدود، وخسائر في الأرواح.

لكن أعظم إنجازات حزب الله ينبع على وجه التحديد من القرار الإسرائيلي بإخلاء 43 مستوطنة على طول الحدود" وهذا ما جعل رؤساء مستوطنات الشمال يحمّلون نتنياهو مسؤولية ما يحصل في مستوطناتهم، بعد أن أصبحوا أمام مجتمع استيطاني مفكك.

ويبدو واضحاً كيف أن حزب الله أتقن لعبة الحرب المحدودة ومنع العدو من فرض وقائع تسمح له بتحقيق أهداف استراتيجية، وبالتالي استطاع أن يشكل مسار ضغط على مؤسسة القرار و"الجيش" الإسرائيلي فضلاً عن الرأي العام في كيان العدو، بعد أن استطاع تقويض صورة الردع الاستراتيجي في مقابل تعزيز صورة المقاومة التي تأخذ المبادرة في مواجهة العدو، ويؤكد معهد أبحاث "الأمن القومي" الإسرائيلي أن "حزب الله يقاتل في سياق الأهداف الاستراتيجية للحفاظ على توازن القوى واستثمار ذلك في اليوم التالي"، وبالتالي هناك مشكلة في تحقيق الأهداف الاستراتيجية.

لقد أظهر حزب الله خلال 7 أشهر من القتال، شيئا قليلاً من قدراته العسكرية، ولكن ذلك عكس ما تملكه المقاومة من قدرات عسكرية بعد 18 سنة على حرب تموز 2006، كيف راكمت أوراق القوة، وبالتالي استطاع بعد هذه المدة أن يردع العدو من القيام بحرب واسعة ضد لبنان لأنه يعرف مدى كلفتها على "إسرائيل"، كما ينطلق حزب الله في عمله بالاتكاء على القدرة، بالإضافة إلى الثبات والصمود والعمل الحثيث في الميدان واليقين بالنصر.

ثانياً: جبهة اليمن.. إغلاق المضائق

من دون أدنى شك، لا تقل جبهة اليمن عن الجبهة اللبنانية، لكن طبيعة تقييم الجبهة اليمنية يختلف من حيث تكتيكات الاستهداف لا من الناحية الاستراتيجية، وذلك لبعدها عن خطوط التماس المباشرة مع العدو كما الحال في لبنان أو غزة، وهذا ما يعطيها دوراً قوياً أحياناً، فضلاً عن أن مفاعيلها الاستراتيجية سوف تستمر حتى بعد انتهاء العدوان على غزة، لأنها أسست لمرحلة جديدة من الصراع في المنطقة، انطلاقاً من موقعها الجغرافي والمجال الحيوي الاستراتيجي لليمن، وهو ما يعمق الأزمة على الكيان الإسرائيلي وداعميه، ويضعه أمام صعوبة التعامل مع قوى محور المقاومة، خاصةً أن معظمها ينطلق من حرب لا تناظرية تخوضها قوى "لا دولتية" في الكثير من الأحيان.

وينطلق تأثير هذه الجبهة من أهمية الموقع اليمني على البحر الأحمر، حيث يتمتع بموقع إستراتيجي مميز، إذ يصل بين القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأوروبا، ويربط المحيط الهندي وخليج عدن وبحر العرب بالبحر الأبيض المتوسط.

كما أن للبحر الأحمر أهمية اقتصادية وعسكرية وأمنية، إذ يمر عبره أحد أكثر طرق الملاحة البحرية الدولية حيوية في العالم، وتعدّ الدول المشاطئة له من أهم المراكز العالمية لإنتاج الموارد الطاقوية، وتمثل مضائقه وجزره نقاطاً إستراتيجية أمنية، ما جعله موضع صراع إقليمي، ومحل تنافس بين القوى العالمية الكبرى، ومركزاً لاحتشاد القواعد العسكرية الأجنبية. كذلك تنطلق أهمية الموقع اليمني على البحر الأحمر من مشاطأة اليمن لمضيق باب المندب، والذي يفصل البحر الأحمر عن خليج عدن والمحيط الهندي كما يفصل قارتي أفريقيا وآسيا، وتحدّه من الجانب الأفريقي جيبوتي ومن الجانب الآسيوي اليمن. 

وتأتي أهمية الجبهة اليمنية من خلال منع دخول السفن التجارية والعسكرية إلى الكيان الإسرائيلي عبر مضيق باب المندب وصولاً إلى المحيط الهندي، وهذا ما جعل اليمن يظهر كقوة إقليمية رئيسية ووازنة، ليصبح فاعلاً إقليمياً مؤثراً في الأمن الإقليمي والعلاقات الاقتصادية الدولية، ويضع نفسه في مواجهة الغرب وعلى رأسه واشنطن.

في المقابل، عملت أميركا على فرض إجراءات متعددة ضد اليمن، منها ما هو اقتصادي عبر فرض عقوبات اقتصادية بعد وضع حركة أنصار الله على لائحة الإرهاب، ومنها السياسي الذي يتعلق بالضغط السياسي على اليمنيين عبر مقاطعة أميركية غربية سياسية وتحميل اليمنيين مسؤولية ما يحصل بالملاحة في البحر الأحمر، بالإضافة إلى التصعيد العسكري عبر استهداف اليمن بغارات جوية تحت مسمى الضربات المحدودة، ومواجهة القوات اليمنية في البحر، وذلك من أجل استعادة الردع المفقود، حيث فشلت كل الإجراءات الأميركية في منع قوة حركة أنصار الله الصاعدة عن استهداف سفن الكيان الإسرائيلي والداعمين له، وفشلت سياسة الاستجابة للمخاطر الاستراتيجية التي تعمل وفقها الولايات المتحدة الأميركية والغرب، بعد اعتبار أن ما يقوم به اليمنيون يفرض تداعيات سلبية على سلاسل الإمداد، ويهدد أمن الملاحة البحرية. 

ثالثاً: عمليات المقاومة العراقية

لا ينفصل ما تقوم به المقاومة في لبنان وكذلك في اليمن، عما تقوم بها المقاومة في العراق وسوريا، كطرف مساند وداعم لأهالي قطاع غزة، حيث نفذت المقاومة العراقية ـ243 عملية موزعة بين القواعد الأميركية في سوريا والعراق وبين قصف أهداف حيوية للعدو الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، وكان أبرز تلك العمليات تلك التي قتل فيها ثلاثة جنود أميركيين وأصيب آخرون في هجوم بطائرة مسيرة على موقع عسكري بالأردن يحمل اسم "البرج 22".

وقد قامت المقاومة الإسلامية في العراق باستهداف القواعد الأميركية المنتشرة بين العراق وسوريا، ودخلت في صراع مباشر مع القوات الأميركية، وذلك انطلاقاً من أن الولايات المتحدة الأميركية هي الداعم الرئيسي للحرب على قطاع غزة، وتقوم بإعطاء "إسرائيل" الضوء الأخضر لقتل الشعب الفلسطيني، فكانت هذه الجبهة أيضاً عاملاً مؤثراً في القوات الأميركية والموقف الأميركي، ما جعل الأميركيين يشنون ضربات ضد مواقع المقاومة العراقية في سوريا والعراق، وبالتالي الضغط على الحكومة العراقية وتهديدها لوضع حد لهذه العمليات، لا سيما بعد عملية البرج 22 في الأردن.

وعلى الرغم من ذلك، لم توقف المقاومة العراقية عملياتها ضد الكيان المحتل، وكان أبرزها عملية ميناء حيفا الاستراتيجية، بالإضافة إلى عمليات أخرى في تل الرشراش والجولان المحتل، وذلك للضغط على الكيان الإسرائيلي، وإظهار قدرات المقاومة للولايات المتحدة الأميركية التي تخشى أن تشتعل الحرب الإقليمية بسبب الحرب الدائرة في القطاع وتؤثر في المصالح الأميركية.

الخاتمة:

على مدار 200 يوم، قدّم محور المقاومة لوحة استراتيجية عن عمله، وعما قام به من مراكمة للقوة ولنقاط التقدم في المواجهة العسكرية القائمة على الاستنزاف، ليؤكد أنه منظومة إقليمية جيوبولوتيكية موجود بقوة لرسم الخارطة الجيوساسية للمنطقة، خاصةً بعد دخول إيران في الصراع مباشرة مع العدو الإسرائيلي، ما أعطى العدو رسائل واضحة تمنعه من التفرد بأحد أضلع المحور أو بتوسيع رقعة الحرب، وبالتالي رسم معادلة ردع جديدة. 

وكما ظهر خلال هذه المدة من العدوان على غزة، فإن المحور يعمل بشكل متكامل متضامن، ويتدخل بحسب حاجة الجبهات وفتحها في وجه الاحتلال الإسرائيلي، وهو حين يرى أن هناك حاجة استراتيجية لفتح الجبهات الأخرى كاملةً؛ بمعنى الحرب الشاملة، سيقوم بفتحها، وبالتالي هو قادر على تحقيق الأهداف التكتيكية الآنية وكذلك الاستراتيجية البعيدة المدى، وبوسائل مختلفة وبخيارات متعددة. 

لقد استطاع المحور أن يشكل جبهات مساندة لغزة تمنع العدو من الاستفراد بالمقاومة فيها، وتشتت مجهوده العسكري، وتقلل من قدراته الاستخبارية والمعرفية، وتعوق تحقيقه للأهداف من خلال الحسم السريع، وتجعل مستوطناته فاقدة للأمن وتعيش التهديد الدائم، كما ردعته عن القيام بحروب موسعة في جبهات أخرى، فضلاً عن الخسائر التي لحقت بالكيان على كل النواحي العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية، والتي كشفت الصورة الحقيقة للردع الإسرائيلي أمام العالم، بعد أن كانت "إسرائيل" تتبجح أن "جيشها" الأقوى في المنطقة.