أرض النحارير.. تكتب حكاية التاريخ
يسير الجنوبيون بسيقان متصلبة باتجاه قراهم، إلى الحد الذي يجعلهم يشعرون بأن رياح العالم كله لن تستطيع هزيمتهم أوالوقوف في وجههم، فهم أكثر من يُدرك أن الحل الوحيد لاستعادة الأرض هو بدحر العدو منها
وإن أكن قاطناً أرض العراق ففي
أرض النحارير لي قلبٌ بلا بدن
يصفُ بيت الشعر حال كل مواطن عربي شهد "أيام التحرير الجنوبي" لتسكن في عينيه مشاهد لا يريد توديعها أبداً، هي مشاهد كانت كفيلة في تنمية عاطفة امتزجت مع مشاعر العز والفخر تجاه هذه البقعة الجغرافية، سواء انتمى إليها ووطأت قدماه أرضها أم لا.
هي أرضُ جبل عامل تنجح مجدداً في انتشال الإنسان العربي المحاط بواقع مرير يسعى بكل قسوة واستبداد لفرض نفسه على هذه الأُمة. فيأتي الجنوب اللبناني ليكون أيقونة المقاومة بكل ما تجسّده الكلمة من معنى، كل ما على هذه الأرض يقاوم، الشجر والحجر والهواء والطيور في السماء، المواشي والمنازل ومآذن الجوامع. هي ملحمة مقاومة طويلة، ولو كان باستطاعة الناس أن يروا ما حدث بأعينهم طيلة فترة الحرب، لرأوا تلك الخدوش العميقة في جسد الهواء الجنوبي.
هي أرضٌ اختارت مصير جارتها ليكون مصيرها هي الأخرى، فعاشت فلسطين المحتلة والجنوب اللبناني المصير نفسه عند كل منعطف حتى اللحظات الأخيرة، حتى في مشهد العودة إلى الأرض، كان مشهد عودة الجنوبيين إلى قراهم والفلسطينيين إلى قطاع غزة كافياً لجعل المعنويات مرتفعة إلى الحد الذي يسمح بمناطحة الصخر نفسه.
يسير الجنوبيون بسيقان متصلبة باتجاه قراهم، إلى الحد الذي يجعلهم يشعرون بأن رياح العالم كله لن تستطيع هزيمتهم أوالوقوف في وجههم، فهم أكثر من يُدرك أن الحل الوحيد لاستعادة الأرض هو بدحر العدو منها، لا يخرج المحتل إلا بهذه الطريقة، هذا هو إيمانهم التام. فكانوا صوت المقاومة العالي في وجه العدو الإسرائيلي والاتفاقيات الصهيو-أميركية التي يسعون لفرضها.
يتحدث "أبو محمد" إلينا ويقول: "ألا يعرف هؤلاء الذين يعتون علينا ماذا حل بالمحتل قبلهم؟ اسمعوا هذه الحكاية من حكايات قريتنا":
"عندما قررت الدولة العثمانية، سنة 1856، جعل ملكية الأرض خاصة، يؤدي عنها مالكها الضرائب، بدأ فلاّحو هذه القرية، يمتلكون قطع الأرض التي كانوا يستثمرونها بالحصة، من الإقطاعي وصارت تُسجل بأسمائهم بموجب سند يُسمى "سند خاقاني".
وكان في ذلك الوقت ضابط تركي يتولى إجراءات تسجيل الأرض، ويفرض أخذ مبلغ من المال له على كل معاملة يسجلها. كان الفلاحون يدفعون له متذمرين، ثم ضاعف المبلغ، وراح يرسل جنوده للاستيلاء على الدجاج والبيض والحبوب، ثم صار يأتي إلى القرية، ويفرض إقامة المآدب له وجنوده، وكان الناس يشكون معاناتهم من معاملته الفاسدة للمختار والوجهاء، ويفكرون في ما ينبغي عمله للتخلص من الضابط المستبد الذي لا يشبع.
وازدادت نقمة أهل القرية عندما بات يذهب إلى قرب العين ويتحرّش بالفتيات اللواتي يأتين لملء جرار الماء وحملها على رؤوسهن إلى بيوتهن.
لم يعد الوضع يُحتمل، فذهب المختار الحاج محمد الساهر آنذاك للتحدث معه فغضب المختار وثار وهدّد، وقال: "عرب ما بينفع معو مليح.. بكرا بيشوف شو بيعمل.."
في صباح اليوم التالي، جاء خبر إلى المختار بأن الضابط يحاول خطف فتاة جميلة من فتيات القرية تُدعى فاطمة، فحمل المختار عصاه وامتطى حصانه واتجه نحو العين، لحق به الكثيرون يحملون عصيّهم ويصرخون مهدّدين، قال المختار للضابط عندما رآه: "أنا ناويلك من زمان" وتلقى الضابط ضربة على رأسه من عصا المختار.
اشتبك الرجلان لساعات انتهت بمقتل الضابط ودفنه في المكان الذي قُتل فيه، وسُمّي ذلك المكان بـ"قبر الأرنويط" نسبةً إلى لقب الضابط "الأرنويطي". جاء الأتراك بعدها يسألون عن "ضابطهم" واكتفوا بسماع ما أجمع الناس على قوله: "سرق أموالنا واختفى".
أنهى الحاج حكايته وقال: راح الأتراك، وبقينا، وهؤلاء الذين يقصفون سيروحون ونبقى، الهمة همتكم يا شباب."
لا فرق بين ماضي الجنوب وحاضره، منذ الأسبوع الماضي وحتى هذا الأسبوع، امتلأت ذاكرة الجنوبيين وذاكرتنا بمشاهد مواجهة الجنوبيين بأجسادهم التي تحمل روح المقاومة والكرامة المحتل على مسافة صفر، بعتاده وسلاحه و"ميركافاته"، وقفت أمامه السيدة ممدودة الذراعين، وارتقى 22 شهيداً في يوم التحرير الأول، وما زال السير على طريق الجنوب مستمراً، وما زال تحرير القرى والأراضي مستمراً، والوقوف بقامة صلبة في وجه "مشروع الشرق الأوسط الجديد" مستمراً..
اللبنانيون وخصوصاً الجنوبيين منهم على موعد مع تكرار مشهد الأحد الماضي، في الحشد والسير نحو القرى الحدودية، بدعم شعبي من مختلف المناطق اللبنانية التي ترى في الجنوب أصل الحرية والكرامة، وقد انتشرت دعوات شعبية باسم أهالي بلدات كفركلا ومارون الراس وعيترون وبليدا وميس الجبل وحولا ومركبا والعديسة، داعيةً إلى التوجه نحو مداخل البلدات وإزالة السواتر الترابية التي نصبها "جيش" الاحتلال الإٍسرائيلي، الذي بدوره يتخوّف من هذه الدعوات وما يمكن أن تنتج عنه.
اليوم، غداً وكل يوم سيكون العدو الإسرائيلي على موعد مع "النحارير"، و"النحرير" هو الحاذق الفطن البصير العاقل القوي والشجاع... ولأجل هذه الخصال التي اجتمعت في الجنوبيين، سُمّيت أرض جبل عامل بـ"بلاد النحارير، بحسب التاريخ القديم..