7 أكتوبر... بداية رسم خريطة عالم جديد

لم تعد القضية الفلسطينية في حاجة إلى حدث ما لتعود إلى الواجهة، فتاريخ السابع من أكتوبر، مع كل ما حمله من أحداث ونتائج إلى اليوم، كان وسيبقى كفيلاً بترسيخ الوحشية الإسرائيلية، وإبراز حق الفلسطينيين في الأرض.

  • ما بعد السابع من أكتوبر.
    ما بعد السابع من أكتوبر.

لم تكن الحرية يوماً هدفاً سلمياً، فمن يسلب الحقوق، ويحتل الأرض، ليس طرفاً يمكن التفاوض معه فقط بالحوار، بل يجب أن تكون البندقيّة حاضرة على الطاولة.

15 أيلول/سبتمبر 2020.. التاريخ المشؤوم

لن ينسى الفلسطينيون هذا التاريخ، فقد كان وصمة عار في سجل بعض الأنظمة العربية التي حملت القضية الفلسطينية، طوال عقود خلت، عبر الشعارات فقط، وعملت في الغرف المغلقة ضدها تماماً.

في إحدى غرف "البيت الأسود" في واشنطن، جمع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في ذلك الحين، رئيس وزراء كيان الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير خارجية الإمارات العربية المتحدة عبد الله بن زايد ووزير خارجية البحرين عبد اللطيف الزياني. ونصّت الاتفاقية على إقامة علاقات دبلوماسية طبيعية بين الأطراف الثلاثة.

وبعد 3 أعوام من هذه الاتفاقية سارع ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، إلى الإعلان، في مقابلة مع شبكة "فوكس نيوز" الأميركية، أن المملكة "تحقق تقدماً" في اتجاه التطبيع مع "إسرائيل"؛ التطبيع الذي سيكون بمنزلة تعزيز موقع الكيان الصهيوني في المنطقة، وتثبيته في الشرق الأوسط.

ومع تسارع الأحداث، وعلى الرغم من الدعاية الإسرائيلية المروجة للتطبيع والسلام المزعوم، فإن الشعوب العربية بقيت على موقفها الداعم للقضية الفلسطينية، ولم ترضخ لكل ما تقوم به الحكومات من أجل جعل هذا الكيان الغاصب جزءاً طبيعياً في منطقتنا العربية.

ما قبل السابع من أكتوبر

في الثالث عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2022، كلف رئيس الاحتلال الإسرائيلي هرتسوغ رئيس الوزراء السابق (حينها) بنيامين نتنياهو تشكيل حكومة جديدة، بعد أن تصدّر الانتخابات التشريعية الإسرائيلية، التي أُجريت في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر، مع حلفائه في اليمين المتطرف.

شكّل نتنياهو الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ الكيان الإسرائيلي، والتي أثارت كثيراً من المخاوف داخل الكيان وخارجه، علماً بأن الصهيونيّة ليست حركة يمكن أن تتأثر بما يسمّى "يميناً" أو "يساراً"، فكلاهما سيّان، والوجه المشترك لهما هو الإرهاب.

شرع نتنياهو في تأليف حكومته الغوغائيّة، وكانت أولى لمساته تعيين إيتمار بن غفير وزيراً للأمن القومي في كيان الاحتلال؛ الرجل المحاصّر بأكثر من خمسين لائحة اتهام، تحمل ثمانٍ منها الصفة الجنائيّة. ووصفت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية آنذاك فوزه مع حزبه في انتخابات الكنيست لعام 2022 بأنه "اليوم الأسود في تاريخ إسرائيل".

كانت الفترة الزمنية، التي سبقت السابع من أكتوبر، مليئة بمشاهد اقتحامات باحات المسجد الأقصى من جانب مئات المستوطنين في مدينة القدس المحتلة، و لم تهدأ يوماً الدعوات المتكررة، في كل عام، من جانب ما يسمى "جماعات الهيكل" الاستيطانية - وعلى رأسها جماعة "حوزريم لهار"، أي "العودة إلى جبل الهيكل" – في ذبح "قربان عيد الفصح" داخل المسجد الأقصى، هذا عدا نشرها إعلاناً باللغة العربية في البلدة القديمة في القدس، وفي مواقع التواصل، تطلب فيه إلى القاطنين قرب المسجد الأقصى تخزين القرابين في مقابل أجر مادي.

تُضاف إلى ذلك مسيرة الأعلام التي كانت تجوب مدينة القدس المحتلة، بصورة مستمرة، والتي كانت تذخر بشتم المسلمين والعرب والتحريض على قتلهم، والاعتداء على الفلسطينيين في البلدة القديمة، والسعي المتكرر لتدنيس المسجد الأقصى، بحماية مشددة من آلاف عناصر الشرطة المدججين بالسلاح.

السابع من أكتوبر.. الطوفان

ما لا شكّ فيه أن المقاومة الفلسطينيّة كانت تحضّر عسكرياً، وأمنياً، ولوجستياً، وإعلامياً، منذ أعوام، لهذا اليوم المجيد، لكنها لم تغفل عن انتقاء التسمية الملائمة لهذا اليوم.

إنه الطوفان، الذي أخذ الاحتلال على حين غرّة، ورسم خريطة جديدة على مستوى فلسطين، ومستوى المنطقة، وحتى على مستوى العالم، بوصلتها الأساس الأقصى.

لم تكُن مستوطنات غلاف غزة المتضررة الوحيدة من ملحمة طوفان الأقصى، ولم يكن المستوطنون وضباط جنود الاحتلال الأسرى الوحيدين في هذه الحرب، بل استطاعت المقاومة الفلسطينية أسر العالم كلّه في هذه العملية.

انطلقت آلة الحرب الإسرائيلية بصورة مجنونة، لتحاول ضبط إيقاع الجغرافيا قبل أن يصل زحف المقاومين من حدود غزّة إلى حدود الخليل في الضفة الغربية. أمعن الاحتلال في القتل، ولم يستطع حسم أي شيء في الأيام الأولى للحرب. جل إنجازاته كان الدمار المهول للبنى التحتية لقطاع غزة، المحاصَر أصلاً، وإهدار دم الأطفال والنساء والشيوخ، ليقوم باجتياح بري بعدها، كلّفه ما لم يكن في حسبانه أبداً.

سارعت الحكومات الغربية في العالم إلى دعم كيان الاحتلال بكل الوسائل، من الأسلحة والذخائر، إلى الأموال التي أغدقت بالمليارات، وصولاً إلى تقديم الوجبات السريعة إلى ضباط الاحتلال وجنوده، مجاناً. وفي المحصلة، خرجت تظاهرات واحتجاجات في عدد من دول العالم دعماً لفلسطين, أبرزها كان في اليمن والعراق والأردن و‌المغرب و‌تونس عربياً، و‌المملكة المتحدة ودول أوروبية متعددة و‌الولايات المتحدة و‌أستراليا وكندا غربياً، الأمر الذي أثار سخط بعض الحكومات، كفرنسا مثالًا، والتي قررت حظر جميع التظاهرات الداعمة لفلسطين، وحددت عقوبة خرق هذا الحظر في الحبس 6 أشهر، وغرامة مالية مقدارها 7500 يورو. أمّا في ألمانيا، فقررت شرطة برلين حظر إقامة أي تظاهرات داعمة لفلسطين أو متضامنة مع الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.

وعلى رغم كل العراقيل والقمع فإن عدة عواصم شهدت احتجاجات ومطالبات بوقف إطلاق نار فوري.

طوفان الصحوة الشبابية

بالنسبة إلى جيل الشباب، أو gen z، كان له الحصة الأسد في الحضور والتاثير عالمياً. كثر تعرّفوا إلى فلسطين بعد السابع من أكتوبر واكتشفوا ان فلسطين بلد عربي محتل منذ 75 عاماً، شهدت فيها كل أنواع القمع والتهجير والقتل التنكيل، وكانت نتيجتها آلافاً من اللاجئين في العالم، في ظل ازدياد للعنف والإجرام من جانب الكيان الصهيوني.

والـ gen z يتميزون بأنهم وُلدوا في عصر الإنترنت وثورة المعلومات والاتصالات، ويستمدون معلوماتهم من مواقع التواصل الاجتماعي. وبدأت الأمور تخرج من أيدي صنّاع القرار وصنّاع الرأي.

فهناك قوة في أيدي أشخاص عاديين ينشرون آراءهم بسهولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يؤدي إلى تأثير أقوى قد يكون أكبر من تأثير قنوات الفضائيات الكبرى. وظهرت هشاشة الحكومات الغربية في مقابل شعوبها عبر الإحصاءات والدراسات التي أجرتها عدة مراكز وجامعات، كجامعة هارفارد وشركه هارس بول، بحيث نشرت استطلاعاً للرأي داخل المجتمع الأميركي تجاه ما يحدث في غزة، وكانت النتائج صادمة، إذ إن 51% من الشبان الأميركيين، بين 18 و24 عاماً، يعتقدون أن حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لن يكون إلا بنهاية "دوله إسرائيل".

أمّا عربياً، فأظهر استطلاع حديث أجراه معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى أن 96% من السعوديين يعتقدون أن الدول العربية، بما فيها تلك التي طبّعت علاقاتها بـ"إسرائيل"، يجب أن تتراجع احتجاجاً على الحرب المستمرة على غزة، بحسب ما ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز".

وفي سياق الصحوة التي أتت مع بداية طوفان الأقصى، ودعم الشعوب العربية والغربية لحق الفلسطينيين في أرضهم، فقدَ مؤثرون ومشاهير وظائفهم وأعمالهم لمجرد إعلان تضامنهم مع ضحايا العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وأحدث من تعرض لهذه الإجراءات الناشطة الفرنسية ذات الأصول الفلسطينية، ريما حسن، بحيث علقت شركة "لوريال" العالمية المتخصصة بمستحضرات التجميل، عضويتها في المجلس الاستشاري العالمي للتنوع والإنصاف والشمول، والتابع للمؤسسة.

وكانت الفنانة الفلسطينية صفاء حتحوت، المقيمة بمدينة عكا، تعرضت لحملة تحريض شرسة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي أدى إلى فصلها من عملها السابق، وفق ما أفادت مواقع محلية.

كما تسببت شركة الملابس الصينية الشهيرة شي إن في إحداث موجة غضب شديدة في "إسرائيل"، بسبب دعمها الجانب الفلسطيني في الأحداث الأخيرة، وأنهت شراكتها مع المؤثرين الإسرائيليين.

هذا أول الغيث.. والويل من طوفاننا

كشفت ملحمة طوفان الأقصى الوجه الحقيقي لـ"لبلد الاكثر ديمقراطية في الشرق الأوسط"، كما يسميه الغرب، والذي اتضح أنه مسخ يسعى لإبادة شعب بالكامل. فالعدوان الأخير والمستمر، منذ أكثر من 120 يوماً، أسقط كل الدعايات التي ضُخَّت من أجل تجميل الكيان الصهيوني. فقصف المستشفيات، والمساجد، وتدمير الكنائس والمدارس على رؤوس النازحين، من الأطفال والنساء، عكسا صورة الكيان الحقيقية أمام العالم.

وفي السياق، غردت رئيسة جمعية التضامن الفرنسية مع فلسطين، وقالت "إن الهدف تدمير كل شيء، وهدم كل شيء. كل شيء يجب أن يختفي!".

ومع انقضاء الشهر الرابع للعدوان، ما زال جنود الاحتلال يبحثون عن صورة انتصار، تشبه تلك الصورة القديمة لدخول الدبّابات الأميركيّة، في عام 2003، «ساحة الفردوس» في قلب بغداد، ليقولوا إنهم انتصروا، لكنّهم لم يجدوا في غزّة ضالّتهم.

وكل غزّة، كما كانت منذ قرون، كانت عصيّة على الغزاة، وسداً منيعاً أمام كل المتغطرسين في هذا العالم من النَيل من كرامة شعب فضل الموت بكرامة على العيش بذل. وسيبقى السابع من أكتوبر صورة الانتصار التي حفرتها المقاومة في صدر آلة القتل الإسرائيلية، ومدرسة للأجيال المقبلة، ومفادها أنّ ما أُخذ بالقوّة لا يُسترد إلّا بالقوة.

‎في المحصّلة، لم تعد القضية الفلسطينية في حاجة إلى حدث ما لتعود إلى الواجهة، فتاريخ السابع من أكتوبر، مع كل ما حمله من أحداث ونتائج إلى اليوم، كان وسيبقى كفيلاً بترسيخ الوحشية الإسرائيلية، وإبراز حق الفلسطينيين في الأرض، وأكّد للجيل الجديد أن كل ما كانت تسعى لبثَه الفضائيّات، ومواقع التواصل، على مدى أعوام، من تلطيفٍ لصورة الكيان الإرهابي، ذهب هباءً وإلى غير رجعة، ليحفر عميقاً في ذاكرته، في بضعة أشهر، شكل الوعي الإنساني الجديد، كاسراً القيود بين عالم الشمال وعالم الجنوب.