"الجيش" دخل المعركة برجل "ناقصة"

لِمَ استثنت قوات النخبة العمل خارج السياج "وجهاً لوجه مع العدو" كمطلب ابتدائي للمشاركة في أيّ نشاط عملياتي في جنوب لبنان؟ تماماً بخلاف ما ينصّ عليه مبدأ الفوز بالمعركة الأولى؟ 

  • محاولة قوات الاحتلال التوغل جنوبي لبنان.
    محاولة قوات الاحتلال التوغل جنوبي لبنان.

إذا كان هدف العملية البرية يستدعي "الفوز بالمعركة الأولى"، للخروج سريعاً بانتصار "نفسي" شرطاً للوصول إلى "انتصار ميداني" بحسب نائب رئيس الأركان الحالي والقائد السابق للمنطقة الشمالية أمير برعام، فلِمَ استثنت إذاً قوات النخبة العمل خارج السياج "وجهاً لوجه مع العدو" كمطلب ابتدائي للمشاركة في أيّ نشاط عملياتي في جنوب لبنان؟ تماماً بخلاف ما ينصّ عليه مبدأ الفوز بالمعركة الأولى؟ 

عندما صمّم برعام هذا المبدأ على قياس ما تراكم في عقلية جنوده، "ليكون بمثابة ضربة نفسية للعدو" تمنح القوات الثقة التي تحتاجها في "كسر الحاجز النفسي الذي زرع في أذهان المقاتلين والقادة"؛ لم تكن قد اجتازت قدم أيّ من جنوده الحدود اللبنانية بعد، وبما أن الفرق الـ 5 بألويتها وكتائبها عجزت بعد أسبوعين من العملية البرية المتواصلة والمكثّفة من تثبيت قدمها داخل السياج، فإن لحظة الصفر هذه للفوز "بالمعركة الاولى" قد تاهت من "الجيش" حتماً.

ليس لأن القوات لا ترغب في تثبيت نفسها داخل أراضي "العدو" بل لإنها دخلت في الحقيقة برجل واحدة، فهي تريد مواجهة "العدو" لكن بغطاء حماية، تريد الانتصار من دون الاقتراب من الحافة صفر، على أن مبدأ السيطرة على الأرض يتطلّب قدمين ثابتتين واستجابة متكاملة مدفوعة بروح قتالية وجاهزية غير مشروطة.

وجد "الجيش" الإسرائيلي نفسه داخل حلقة إشكالية في موضعين مختلفين بالحيثيثة متساقين بالمسار، في الواقع لم تبدأ التعقيدات من قاعة الطعام في قاعدة غولاني (في ريغافيم) لكنها تمظهرت إعلامياً إلى الواجهة بعد هذه العملية، فظهرت قوة غولاني المفترض أن ساعات قليلة فقط كانت تفصلها عن أكثر الجبهات إيلاماً وتعقيداً، وسط حالة من الذهول التام، لم يتمكّن معها الجنود من التعامل مع الحدث باستجابة فورية و"تردّدوا في الاقتراب من الجثث والجرحى" حسبما نقل موقع والا.

أما في المستشفيات فكان الوضع أشدّ تأزّماً وأكثر صمتاً، كان الجرحى تحت تأثير الاصطدام النفسي مع الواقع، تروي غاليت والدة أحد الجنود في مستشفى هيلل يافي: "كان ابني يجلس مع ثلاثة من الجنود الذين قتلوا وبقي هو على قيد الحياة، إنه لا يتكلم كثيراً، لا يزال يرى المشاهد الصعبة والمحزنة، أتمنى أن يتمكّن من التعافي نفسياً"، ويكمل والد أحد الجنود واصفاً المشهد نقلاً عن ابنه: "انزلقوا على الأرض بسبب كمية الدماء، لقد كان الأمر أكثر من مروّع".

يَسوق هنا الجنود مجدداً مبدأ الاشتراط إلى المعركة؛ الاستعداد المقنّع للتضحية "فقط" في حال التزام المؤسسة العسكرية بتأمين الجو من مسيّرات حزب الله، وضمان عدم الاختراق الاستخباراتي إلى طاولة الطعام مثلاً، فعلى مبدأ "صفر ثغرات أمنية وعسكرية" جرى بناء المستوى الإدراكي لهؤلاء الجنود، لذا كانت الضربة بمثابة اصطدام عملي مع التهديدات الواقعية، ومفاجأة لهوية "العدو الذي يواجهونه"، حتى الصورة الكمالية للجانب الذي يحاربونه لأجله "تغبّشت"، يعود ذلك إلى خطاب السقف العالي للقادة كنهج معتمد تخوّفاً من التأثير على دافعية الجنود في حال نقل الحجم الواقعي للمخاطر، بالتالي نشأت فجوة نفسية صعُب على القوات القفز عنها واستيعاب ما جرى. 

لكن إذا ما افترضنا أن هؤلاء قد خرجوا حديثاً من التدريب القتالي، ماذا بشأن حدث أشدّ انزلاقاً في خطورته وفي تأثيره المباشر على مجريات العملية البرية؟ صُدّر إعلامياً على أنه "توترات داخل وحدة إيغوز" لكنه يسبق في خارطته الزمنية كمين بليدا إلى بداية العملية البرية، ولا ينحصر في خارطة تشكيلاته بوحدة إيغوز فقط التابعة للواء كوماندوس، بل تشترك في الحدث جنود من ألوية أخرى، أشارت إليهم صحيفة "إسرائيل اليوم" بـ "مجموعة من الجنود الذين يقاتلون في جنوب لبنان".

الأصح، أن ما حصل لم يكن حدثاً، بقدر ما هو ثغرة بنيوية، بالرجوع إلى عناصر القضية، إذ إنّ هناك فرقاً بين تقييم فشل عملياتي وتجاوزه خلال الحرب، وبين أن يطلّ التمرّد برأسه حاجزاً بين الجنود وقادتهم الميدانيين، بدأ الأمر بعد قرار باقتحام أحد المباني في بليدا، تبيّن لاحقاً أنه لم يكن إلا كميناً معدّاً مسبقاً رغم أخذ القادة إجراءات المسح والتأمين، مما جعل الجنود في مواجهات من المسافة صفر، وتسبّب بمقتل قائد المهمة وعرّض الجنود لخطر الأسر، خاضت خلاله قوات الإنقاذ عملية معقّدة جداً اتسمت بالإرباك وضعف في القدرات التنسيقية والتشغيلية.

فبدلاً من أن تخضع عمليات صنع القرار للترميم والتقييم، تمّ ترحيل الإشكالية إلى مربّع خطير: اهتزاز الثقة بقرارات القادة، ومطالبات بتغيير السياسات، وصلت حدّ التهديد بالتوقّف عن المشاركة في المهمات القتالية، اضطرّ بعدها قائد الوحدة لإخضاعهم إلى تدريبات في يوم "عيد الغفران" فقط لأجل ضبطهم.

قد لا يعني ذلك بالضرورة تمدّد الأزمة، إلا أنه حتماً يشي باختلال المبدأ الأول في مبادئ الحرب في "الجيش" الإسرائيلي أي "الالتزام بالمهمة" بحسب اللواء المتقاعد يعقوب عميدور و"التي غالباً ما تتيح إمكانية إدراك علاقات القوة الموجودة بين الجيش الإسرائيلي وأعدائه". ثانياً، إن عدم ثقة الجنود بقرارات الرأس باعتبارها أهم قواعد الاستجابة السريعة والمرنة لتحييد المخاطر وخلق فرص للخروج، قد يُبعد مسافة الوصول إلى الإنجازات التكتيكة الميدانية.

إلا أن ثمة حقيقة لا تقبل الشك، أن لدى هؤلاء تهيّباً نفسياً، وامتناعاً علنيّاً عن الالتحام المباشر مع عناصر حزب الله، بالإضافة إلى الالتصاق بالقيود الميدانية وانخفاض الجرأة والدافعية لمواجهة الخصم. كما تكشّف لدى قوات النخبة قصور في الاستعداد النفسي والمعنوي لتقبّل الأثمان مقابل ارتفاع منسوب الحساسية تجاه القتلى، في مفهوم يتعارض هو الآخر مع مبدأ "الجيش" الإسرائيلي بكون "الروح القتالية هي التي تحدّد النتيجة" مع ما يعني ذلك من ثوابت "الاستعداد لتحمّل الخسارات والصعوبات" كصفة جوهرية عند الجندي الإسرائيلي.

لتوضيح المشهد نقلت صحيفة "إسرائيل اليوم" حول تأثير كمين بليدا بالقول: "منذ الحادثة، كان الجنود والقادة في وحدة إيغوز يتجوّلون بمشاعر صعبة للغاية، وبالنسبة لهم، كانت الحادثة القشة التي قصمت ظهر البعير"، قد تتجاوز وحدة إيغوز ومعها لواء الكومندوس البعد الظرفي للقضية، لكن الثغرة ستعيد تشكيل نفسها في حال تكرار أحداث مثل هذا النوع، كالكمين المماثل الذي وقع فيه لواء غولاني (مثلّث القوزح- عيتا- راميا) بعد أيام فقط من كمين بليدا، مما قد يوسّع رقعة الزيت حدّ الانزلاق في منحدر يصبح معه الاستمرار في العملية البرية تحدّياً بحدّ ذاته.