ما لم تحقّقه "إسرائيل" في غزة في شهرين هل تحققه بمزيد من الوقت؟
هل أميركا في منطقتنا هي شيء آخر مغاير عن "إسرائيل"؟ ألا تشير الأرقام المعلنة، وما خفي أعظم، إلى أن "الجيش" الإسرائيلي هو جيش رديف للقوات الأميركية في المنطقة والعالم.
يبدو أن العقل العسكري الإسرائيلي يعاني نقصاً حادّاً في الخطط وشحاً في الإبداع، وهذا يظهر جلياً في بلادة العقل المخطِّط الذي يعتمد حتى الآن على قوة صواريخه المستوردة من الولايات المتحدة الأميركية وشدة تدميرها، وما عدا ذلك فإننا نرى جيشاً كاملاً أشبه بفرق الكشافة يتساقط كالبط في ميدان المعركة.
ما يحدث لا يمكن تفسيره إلا بوجهين من الأوجه: إمّا أن المقاومة الفلسطينية أقوى كثيراً مما نتخيل، وإمّا أن الجيش الإسرائيلي أضعف كثيراً مما نتصور.
إن هيمنة "إسرائيل" تتلخص في تكنولوجيا عظيمة ووحشية منقطعة النظير، وعدم اكتراث أو احترام لأي قانون على وجه الأرض. لا مخططات ولا استخبارات ولا استراتيجيات ولا معلومات ولا تدريبات ولا تحفيزات ولا عدة ولا عتاد. هي فقط تكنولوجيا ووحشية ونقص في الإنسانية.
الأمر أشبه بالنظام الإقطاعي مع ظهور المسدس للمرة الأولى، بحيث تمكن الإقطاعي من السيطرة على قرى بمعظمها بواسطة رجال قليلين جدا عاطلين من العمل يحملون مسدسات، لا خطط استراتيجية ولا فنون حرب.
جنود متوحشون من دون أي مناقبية أو أخلاق عسكرية يضعفون عن القتال الكلاسيكي فيقتلون الأطفال والنساء والمدنيين.
ثم إن "الجيش" الإسرائيلي يطلب المساعدة من الولايات المتحدة ويصرّ عليها، بل يهدد بأنه قد يستخدم الأسلحة السوفياتية إذا تطلب الأمر، في مواجهة أسلحة حماس التي تمتلكها معظم الجماعات المسلحة حول العالم.
تدعم أميركا "إسرائيل" بما يقارب 20 % من ميزانيتها العسكرية وتدعم أميركا "إسرائيل" بـ 55% من مجمل دعمها العسكري حول العالم.
وهنا، يمكن أن نطرح سؤالاً: هل أميركا في منطقتنا هي شيء آخر مغاير عن "إسرائيل"؟ ألا تشير الأرقام المعلنة، وما خفي أعظم، إلى أن "الجيش" الإسرائيلي هو جيش رديف للقوات الأميركية في المنطقة والعالم. كل هذا الدعم الضخم لـ"إسرائيل" لا يحقق شيئاً غير الدمار والخراب، لا إنجازات عسكرية، ولا إنجازات سياسية، ولا إنجازات استخبارية، سوى دمار وخراب ودماء وأشلاء.
يقدَّر مجموع ما تلقته "إسرائيل" من أميركا وحدها، منذ نشأتها الى اليوم، بما يقارب:
318مليار دولار، منها 225 مليار دولار كمساعدات عسكرية. وبصورة سنوية، تمنح الإدارة الأميركية لنظيرتها الإسرائيلية ما يقدر بـ 3.3 مليارات دولار سنوياً، كدعم عسكري.
كما يوجد أيضاً عدد من الشركات الأميركية وغيرها، والتي تقدم دعماً مالياً إلى "إسرائيل"، في صور متعددة، تشمل التبرعات والاستثمارات والمنح. ويساهم الدعم المالي، الذي تقدّمه هذه الشركات في دعم اقتصاد "إسرائيل" بقدر لا يستهان به. وعلى سبيل المثال لا الحصر، تدعم شركات بوينغ لتصنيع الطائرات، كوكاكولا، جنرال إلكتريك، إنتل، أوراكل، هيوليت باكارد HP جونسون آند جونسون، مايكروسوفت، ستاربكس وغيرها.
تدعم واشنطن "إسرائيل" مباشرة من خلال أموال تدفع إلى الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أو من خلال جمع التبرعات.
أما في أوروبا فتشير التقارير الألمانية، على سبيل المثال، إلى أن الموافقات الخاصة بتصدير أسلحة إلى "إسرائيل" هذا العام تضاعفت نحو 10 مرات مقارنة بالعام الماضي، بحيث وافقت الحكومة الألمانية على تصدير معدات عسكرية بنحو 303 ملايين يورو إلى "إسرائيل" في مقابل معدات عسكرية بقيمة 32 مليون يورو فقط العام الماضي، ناهيك بالدعم الذي تقدمه الجاليات اليهودية حول العالم والمنح المادية الضخمة التي تقدم إلى الجامعات العبرية في "تل أبيب" وغيرها، والأموال المخصصة للجيش وللسلاح.
هذا الدعم المعلن وغيره من الدعم غير المعلن لا يبدو أنهما استطاعا أن يسحقا بضعة آلاف من المقاومين الذين يقاتلون بميزانية تكاد تكون شحيحة، وبقذائف الياسين 105 محلية الصنع.
ناهيك بالدعم السياسي العالمي، بحيث اصطفت دول العالم قاطبة منذ اليوم الأول، وحتى بعض المثقفين العالميين، للدفاع عن "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس"، بكل ما تحمل كلمة الدفاع عن النفس من معانٍ. وجندت وسائل الإعلام العالمية نفسها للدفاع عن "إسرائيل" وهيبتها وحقها في الحياة، متجاهلة بكل فوقية المعاناة البشرية للشعب الفلسطيني.
لكن، هل ستستطيع "إسرائيل" أن تحقق في مدة اطول ما لم تستطع تحقيقه في شهرين من الزمن؟
تكاد الصحافة الإسرائيلية تقول خذوني!
فعلى الرغم من تعطش المجتمع الإسرائيلي إلى الانتقام والدماء فإن الصحافة الإسرائيلية تبدو أكثر واقعية، إذ تصف الحال، التي يعدّها نتنياهو اليوم انتصاراً، بأنها مأزق عظيم لا يملك نتنياهو أدنى فكرة للخروج منه من دون كسور ورضوض، لكنه يفضّل دائماً الهروب إلى الأمام.
وتحدّث بعض الكتاب الإسرائيليين بشأن موضوع التكنولوجيا، التي قال هؤلاء إنها لن تستطيع وحدها، على ما يبدو، أن تحسم الحرب.
في مقابلة تلفزيونية للرئيس الأميركي السابق، جورج بوش، بعد تلاوة نذور الإدانة للفلسطينيين واعتقاده أن "إسرائيل" ستفعل ما في وسعها لـ"الدفاع عن نفسها"، يقول: إن المستقبل القريب لـ"إسرائيل" لا يبدو مشرقاً جداً، وخصوصاً إذا كنت إلى جانب حماس. نعم، سيكون الأمر فوضوياً.
لا يمكننا التنبؤ بالمستقبل وكيف سيُحسم الصراع في الأيام والأسابيع المقبلة، لكن التجربة القديمة لشعوب المنطقة تشير إلى أن أهداف الحلف الأميركي الإسرائيلي دائمة الفشل. لم يسعف فائض القوة لدى "الجيش" "الإسرائيلي أن يحقق أهدافه السابقة مع ما يعادل قنبلتي هيروشيما النوويتين، فما الذي سيتغير.
لم يأخذ العالم بعدُ استراحة ليقوّم ما يجري.
هل سيبقى الرأي العام العالمي كما هو؟ لا يبدو كذلك. إن التغيير القائم في التوجه العالمي للرأي العام الدولي حول العالم قد يكون الخطر الأكبر على الرواية الإسرائيلية الملمَّعة برماد المحرقة اليهودية التي يدفع ثمنها الشعب الفلسطيني البريء، بينما يتملص منها مرتكبوها الحقيقيون في أوروبا بدعمهم المطلق لـ "إسرائيل".
لقد صنعت وسائل التواصل الاجتماعي نكسة فكرية للرواية اليهودية. فالنقاش اليوم يدخل في لب الأساسيات في "الدولة" العبرية. للمرة الأولى تناقَش قضية ذات حساسية تاريخية مفرطة على منابر التواصل الاجتماعية وتنتشر في المجتمعات الغربية.
نقاشات حادة تجاوزت الـ 7 من أكتوبر، إلى السؤال عن حق "إسرائيل" في إقامة "دولة دينية" لها في أرض الغير، متذرعة بالحجج التاريخية، بينما أصابت الإنسانيين المفرطين في الإنسانية نوبةُ خجل بعد تبريرهم لـ "إسرائيل" وإدانتهم لروسيا، في ازدواجية معايير مطلقة.
الرؤساء الأوروبيون تراجعوا عن خطاباتهم الحادة، ولم يعد في استطاعتهم تحمل مزيد من الإحراج أمام شعوبهم من أجل تعنت الحكومة الإسرائيلية وإجرامها.
الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء الكندي أظهرا تغيراً نوعياً في المواقف وتبدلاً واضحاً. لم يعد يمكن للعالم، مهما كان متوحشاً، أن يتقبل أكثر ما تقوم به "إسرائيل". الميدان ينقلب، ولا يمكن التنبؤ بالمستقبل، لكن ما حدث في الـ 7 من أكتوبر لا يمكن تجاهله مهما حدث بعده.
ولربما الشيء الوحيد الذي "صدقت" به الحكومة الإسرائيلية في تصريحاتها أن المنطقة برمتها ستتغير بعد الـ7 من أكتوبر.