رهاب القتلى: "ليست هذه الحرب التي يُقتَل فيها جنودنا"
افتُتحت الحرب بخطاب "حرب الوجود"، والذي برز في قول رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إن "الحرب على غزة تحدٍّ وجودي بالنسبة إلى إسرائيل"، أُريدَ من خلاله تصنيف الحرب كحرب ضرورة، فُرضت على "شعب إسرائيل".
عندما قال يوسف ترومبلدور إن "من الجيد أن نموت من أجل بلادنا"، قبل 30 عاماً من تأسيس الكيان في معركة "تل حاي" في الجليل الشمالي، لم يكن من أجل اليهود الـ 8 الذين قُتلوا حينها، بل ليستعد من سيأتي بعدهم لتضحيةٍ لا شرط فيها ولا جدال. هذا القول، على رغم تسويقه إرثاً قيمياً في الوعي الصهيوني، فإنه خدم إلى حدّ الثمانينيات، ولم يخضع لاختبار حقيقي في قدرة المجتمع على الاستعداد للتضحية وتقبل الخسائر البشرية، إلى أن أتى السابع من أكتوبر.
التهديد بمنسوبه الجارف، الذي جاء به "الطوفان"، هو الذي جعل السابع من أكتوبر صدمةً في الوعي الإسرائيلي، فأعاد تموضع التوازنات القيَميّة في المجتمع الإسرائيلي، ولم تعد التضحية خاضعة لأسئلة تتعلق بجدوى خوض الحرب، أو كم سيبلغ عدد القتلى؟ كما كانت الحال في حرب لبنان الأولى مثلاً، الواضح أن مناعة لحقت بمتلازمة "الحساسية تجاه القتلى" بعد تهشّم صورة الصهيوني، ليس رغبة لدى هؤلاء في الموت، وإنما لانتفاء الخيار، وبسبب شهية للانتقام، بما أن الحرب التي تخوضها "إسرائيل" هي "حرب على البقاء"، من أجل "الاستقلال الثاني".
هنا، كان لزاماً على صنّاع القرار تهيئة أرضية الحرب لمجتمع أكثر تسامحاً في عدد قتلاه، مرناً مع مسارات العمل العسكري وقرارات الحرب. وبما أن مؤشر "التضحية" ارتفع تلقائياً في السابع من أكتوبر، وتحقق "الالتفاف حول العلم" بتأييد شعبي ساحق للحرب بنسبة 90%، بحسب معهد الأمن القومي، كان لا بدّ من برمجة خطاب حرب قادر على تمديد فورة الدم الأولى بوقود يضمن استمرارها، وبالتالي يضمن "التفويض الشعبي والشرعية" لاستمرار الحرب، وهو تحديداً ما تحتاج إليه "إسرائيل" في حربٍ، أهدافُها تعجيزية.
افتُتحت الحرب بخطاب "حرب الوجود"، والذي برز في قول رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إن "الحرب على غزة تحدٍّ وجودي بالنسبة إلى إسرائيل"، أُريدَ من خلاله تصنيف الحرب كحرب ضرورة، فُرضت على "شعب إسرائيل"، وأن لا خيار فيها سوى في الذهاب إلى الحرب من أجل ضمان بقاء اليهود، واستعادة أمنهم، بهدف شحن الدافعية القتالية وجاهزية المجتمع الإسرائيلي لتقبل الخسائر الكبيرة لحرب بمستوى "وجود"، وكسب شرعية تضمن حرية العمل العسكري.
"الثمن سيكون باهظاً، لكننا سننتصر"؛ عبر قول وزير الأمن يوآف غالانت هذا، يكون قادة الحرب انتقلوا إلى خطاب "حتمية النصر"، من أجل إعادة ترميم الثقة بالجيش القادر على الانتصار، وتدفيع الثمن باهظاً لمن مسّ أمن "إسرائيل"، والأهم من ذلك كله أن الخسائر التي تكبدها الجيش وسيتكبّدها هي ثمن مستحق للنصر المحتّم.
لكن، مع وصول قادة الحرب إلى يقين بأن مدة هذه الحرب ليست معلومة، بل تزداد ضبابيةً مع الزمن، وإحراجاً مع غياب الإنجاز الواضح، كان لا بدّ من استقدام خطاب "استمرارية الحرب"، من أجل احتواء التململ الذي بدأ يطل برأسه، وشراء الوقت المطلوب لتحقيق نصر لا لبس فيه. يجيب غالانت عن هذه المرحلة بقوله "إنهم يسألونني، هل لدينا الشرعية للاستمرار؟ وأنا أقول ليس لدينا شرعية للتوقف".
مروراً عند المحطات المذكورة، استشعر قادة الحرب نفَساً يبدو أكثر سخونة مما اعتادوه، حتى إن تجمّع "أمهات المقاتلين"، ممن تظاهرن في "تل أبيب" في الـ 13 من كانون الأول/ديسمبر الماضي، كان للمطالبة برفع سقف النيران وعدم الرضوخ للضغوط الدولية، ولا سيما الأميركية، ومضاعفة زخم نيران السلاح الجوي لحماية "أرواح الجنود".
"المباني ما زالت واقفة، والجنود يسقطون، لكن عندما تُدمَّر المباني، الجنود يقفون"، قول سيما حسون - وهي من أعضاء التجمع المذكور- إن دلّ على شيء، فإنه يؤكد أن شهية الانتقام ما زالت تختمر وتتّقد مع كل قتيل عائد من غزة، لكنه، في الوقت الذي يعطي المجتمع الإسرائيلي "الشرعية" القصوى للفعل العسكري، يضغط على القادة من أجل تحقيق إنجاز بأقل الأثمان، وتبيان التزام واقعي يتمظهر بإنجازات واضحة. عند هذه النقطة بالتحديد، يُخفق العدو مراراً ويصبح التحدي مربكاً في الموازنة بين تحقيق الأهداف والمحافظة على المرونة الاجتماعية خلال الحرب.
على الرغم من ارتفاع منسوب التضحية في حرب "طوفان الأقصى"، فإن المجتمع الإسرائيلي ما زال غير قادر على ابتلاع كل هذا الكم من الخسائر من دون إنجازات. وبالتالي، إن التضحية تبقى، وإن تباينت المقادير مقارنة بالحروب السابقة، مشروطةً بأعلى مستوى حماية وأقل مستوى خطورة.
لذا، نجد أن "رهاب القتلى" ليس محكوماً بالمجتمع الإسرائيلي فحسب، بل يعانيه أيضاً المستوى القيادي هو الآخر في "إسرائيل"، بسبب معرفة قدرة المجتمع على تفكيك دافعية الجنود القتالية، وتجريد الشرعية الحربية، وهو أمر ليس بأقل من دليل حركة الأمهات الأربع، التي دفعت مع غيرها حكومة إيهود باراك إلى الانسحاب من لبنان عام 2000 بعد تكاثر القتلى، إذ لم يعد خطاب بن غوريون عما كان عليه في عام 1963: "لتعلم كل أم عبرية بأنها سلّمت مصير أبنائها إلى قادة جديرين بذلك".
يُفسّر ذلك تحول وسائل الإعلام العبرية في حرب "الطوفان" عن نهجها المعتمد بالإحاطة الميدانية الكلية بالحرب، بنهج آخر يركز على الشحن العاطفي وانشغال مفرط بالحشد التحريضي ورفع الروح المعنوية الوطنية من جهة، واحتواء التسرّب المعلوماتي، وحصر الاستسقاء المعلوماتي بالمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانييل هاغاري. كما لم يكن الإعلام العبري ليتفاخر قبل هذه الحرب بأعداد الشهداء الفلسطينيين (المدنيين) في جولاته العسكرية السابقة، كما يفعل في هذه الحرب، لكنه أصبح الآن أكثر فخراً وجرأةً على تتبع الأرقام وتصديرها، تخفيفاً من وقع أرقام القتلى التي تخرج من غزة، والأمر نفسه بالنسبة إلى الاستعراض غير المسبوق للدمار.
ففي حين تبدو "المرونة الاجتماعية" في "إسرائيل" أكثر ليونة وطوعية مع ارتفاع حجم التهديد، تتحول إلى قيد عسكري أكثر تصلّباً عندما يغيب الإنجاز الملموس، ويكثُر القتلى من دون جباية أثمان واضحة. وهنا، ليس من المعلوم كم سيخدم هامش المرونة مساحة تحرك المستوى القيادي مع الأفق الزمني المبهم للحرب، سوى كونه عاملاً ضاغطاً، وربما كابحاً.