رحيل زياد الرحباني.. وجه لبنان تتساقط أسنانه
اليوم برحيل زياد الرحباني يبدو وجه لبنان شاحباً يضحك بين الحين والآخر كأنه يتذكر نكتة أو مسرحية او عمل فني لزياد لكنه يضحك كوطن بدون أسنان.
-
اليوم يُقفل نزل السرور..
لقد كان دائما "المواد الأولية" كما يحلو للفنان الراحل زياد رحباني تسميتها لهذا البلد هو الإنسان ، المواطن العادي المنتمي طبيعيا وبيولويجيا للأرض واللغة والمحيط والآمال، كان زياد الرحياني لبنانيا "كافرا" ثم عدَّل أنا مش كافر بس الجوع كافر ، لبنانيا خاماً يشبه غيمة في سماء لبنان متصلة بحبل غير مرئي بالناس تخفف عنهم حر الصيف تمشي فوقهم في الأسواق وفي الحروب الأهلية والأزمات التي لم تنتهي.
رحل زياد الرحباني فجأة عن الجمهور العام وربما كان المحيطين به يعرفون سوء حالته الصحية لكن لم تختلف معضلة تقديس العباقرة عندما يرحلون فقط عند أي مكون لبناني الجميع محترم ومحبوب وملهم عندما يرحلون ويطلق حكم الموت صفارة نهاية المباريات.
في لبنان الحياة مباريات لا إستقرار أدبي او فني او إيديولوجي على بقعة جغرافية موحدة هي فرق متبارية وحكام ومدرجات ومشجعين طوال العام.
لا دولة تحفر فن ابنائها على صفحات تاريخها إبداع أقلام كاتبيها او نوتة موسيقاريها أو ريشة فنانيها، لا دولة تحنّط إنجازات العباقرة بل دولة تحتفل لهم بالتصفيق عند قدوم سيارة الإسعاف لنقلهم خارج الملعب.
لبنان مع وجود زياد الرحباني كان يضحك كثيرا على غير عادته كان يضحك من النكتة الذكية المغلفة بالرسائل والتلميحات كان يضحك من الفلسفة المبسَّطة كان يضحك من الشرح العام السرد البسيط الذي لا يحتاج لمعاجم لغة ولا أساتذة كي يفهموا سرديته " ما بدنا نفهم قده بدنا نفهم عليه " قبل انبلاج عصر الفن الهابط والموسيقى النشاذ والضحكة المصطنعة والكلمة الملتوية والظهور الرتيب على الشاشة وخشبات المسارح.
لم تعد اليوم فكرة واحدة تكفيها جملة واحدة ، بل مقالات وتفسرات وتعقيدات ، العبقري اللغوي القادر على إيجاد نكتة ذات معنى حتى من " السبع بهارات" بدا غائباً عن جمهور "القص واللصق" الغربي على إنتاجنا الأدبي . لم يكن زياد الرحباني صاحب "البراند" اللبنانية موسيقا ونوتة وضحكا أن تشفي كنيسته القريبة مواجع اللبنانيين الذين تعوَّد بعضهم أن ينبهر بكل منتج قادم من ما وراء البحار .
كل مسرحيات هذا الرجل كانت لبنانية بدون تاريخ صلاحية تنفع لليوم للأمس للغد كل مسرحياته صراخ في وجه نظام طائفي جاثم على صدور اللبنانيين وآمالهم وتطلعاتهم ، لكن بسخرية بابتسامة حتى ثريا وابنها الطائفي الذكي الذي يطلق أبوه الرصاص في الهواء لنجاحه في الامتحانات الإبتدائية إبن ثريا الطائفي الذكي كبر وصار نافذاً ويكتب مسرحيات ويطلع على خشبات المسارح ك "ستاند اب كوميدي " .
من منّا يعرف طائفة هذا الرجل من كلماته او موسيقاه او تصريحاته او مواقفه ، هو لبناني بحت ومقاوم أيضاً، وهذا دليل آخر ان اللبناني الأصيل هو مقاوم أيضاً ، بل أن الفن بحد ذاته هو مقاومة للسائد وسيطرة النشاز ، وإحتلال الرتابة وطغيان الأبيض والأسود.
اليوم يُقفل نزل السرور ويرحل صاحبه عن عمر ناهز السبعين عاماً، ككل عظماء لبنان الذين رحلوا وتركوا هوة كبيرة، تنطفئ شمعة هذا الوطن واحدة تلو الأخرى، مخلفةً وراءها زاوية عتمة تتوسع. و الأمل في الجيل الجديد ان يكون على قدر الإبداع وأن يستمر في إرفاد النهر الوطني بالآداب والفنون والمواقف الصلبة التي يخلدها التاريخ .
اليوم برحيل زياد الرحباني يبدو وجه لبنان شاحباً يضحك بين الحين والآخر كأنه يتذكر نكتة أو مسرحية او عمل فني لزياد لكنه يضحك كوطن بدون أسنان.