حماس القادمة

لم يعد أمام "إسرائيل" إلا اختصار المحطات وكسب الوقت وخفض سقف التهديدات، لأنها تخسر كل يوم ما اعتقدت أنها استثمرت لأجله.

  •  باتت حماس محط أنظار كل العالم.
    باتت حماس محط أنظار كل العالم.

بعد السابع من أكتوبر لن يكون كما قبله على الصعيد الفلسطيني والإقليمي والدولي. حركة المقاومة الفلسطينية حماس التي تملك باعاً طويلاً في القتال بحسب الخبراء والتقارير، وفروعاً ومكاتب ومؤسسات وهيئات وأجنحة نقابية واجتماعية وسياسية وإعلامية وعسكرية، الآن هي التي عليها العيون الدولية. ماذا وكيف وبأي شكل ستكون بعد هذه الحرب الطاحنة التي تحمل عنوان "تدمير حماس وسحقها"، في وقت يتداول ساسة الغرب وبعض العرب قراءة اليوم التالي والحكم وشكله في غزة، وغزة فقط، في إشارة إلى إلغاء الوجود السياسي الفلسطيني في الضفة الغربية.

ثمة محطات تاريخية مهمة سنذكر بعضها هنا:

* انطلقت حماس عام 1987 وتبع ذلك اعتقالات واسعة لكل قياداتها وأفرادها حتى مطلع التسعينيات في محاولة لإضعافها، فطورت وسائل قتالها لتتأقلم مع حجم المرحلة حتى وصلت إلى البندقية.

⁠* الإبعاد عام 1992 إلى مرج الزهور، ومعها قيادات الجهاد الإسلامي، كي يتم التخلص منها، فحولت مكان الإبعاد إلى محطة إعلام وقرار سياسي توافد إليه آلاف الصحافيين والساسة من أرجاء العالم، ما زاد قوتها بالتزامن مع تصاعد عملياتها العسكرية في داخل فلسطين، بما في ذلك أسر الجنود.

⁠* بعد مجزرة الاحتلال في الحرم الإبراهيمي في الخليل عام 1994، دخلت حماس مرحلة جديدة من خلال القيادي المهندس يحيى عياش، وانتهجت سياسة العمليات التفجيرية داخل الحافلات ومفترقات الشوارع في المدن الإسرائيلية.

⁠* باتت أذرعها النقابية والطلابية تحصد أعلى الأصوات في انتخابات الجامعات والنقابات بحسب النتائج الرسمية واستطلاعات الرأي والباحثين الدوليين في ظل مشروع أوسلو الذي قادته فتح. وقد برزت حماس معارضاً رئيسياً للاتفاق، ونجحت في تعبئة الشارع ضد التنسيق الأمني.

⁠* عقد مؤتمر شرم الشيخ في آذار/مارس 1996 لمحاربة الإرهاب، وكان الهدف سحق حماس، فباتت أقوى انتشاراً وفعلاً رغم أنها ليست سلطة فعلية، وامتد تأييدها ليشمل العالم العربي والإسلامي بشكل واسع، وساعدت في ذلك الحالة الثورية العربية والاحتلال الإسرائيلي للبنان ورفض الشعوب العربية اتفاقيات "كامب ديفيد" ووادي عربة.

⁠* تعرض قياداتها للاغتيال والاعتقال والإبعاد في إطار جهد أمني لسحقها، ولكن ذلك حوّلها إلى جيش منظم بدأت تتشكل نواته بعد انتفاضة الأقصى، وكان ظهوره القوي في غزة، لتطور أدواتها إلى الهاون والعبوات.

⁠ * بعد بناء الجدار العنصري، ظنّ الاحتلال أنه انتهى من خطر حماس والمقاومة، فابتكرت فكرة الصواريخ التي بدأت في محيط غزة، فقام الاحتلال بهجمات نوعية للسيطرة على المشهد، لتكون النتيجة توسع هجمات المقاومة الصاروخية لكل الغلاف، ما سبب الانسحاب الإسرائيلي منها عام 2005.

⁠ * فازت حماس في الانتخابات التشريعية التي حظيت بمراقبة دولية عام 1006، فعملت أميركا على حصارها سياسياً وإجبار العالم على مقاطعتها، وعمدت إلى إثارة الفتنة الداخلية من خلال اللعب على وتر السلطة والانقسام والتجاذبات والفوضى الخلاقة في غزة، وتم اعتقال كل قياداتها ووزراء حكومتها وأنصارها على يد الاحتلال في الضفة، وبالتالي انقسم المشهد، وانحصر حكم الحركة في غزة، وبقيت الضفة تحت قيادة السلطة شكلاً. أما واقعاً، فالاستيطان والجنود يحكمونها بالنار.

 * تطورت قدرات حماس الإدارية العسكرية والتنظيمية الميدانية، لتتمكن في حزيران/يونيو 2006 من أسر جندي في ظروف صعبة، فكان الرد الإسرائيلي حصاراً مشدداً للضغط على الكتلة البشرية في غزة.

* تعرضت غزة لحروب عدة وحصار إسرائيلي وعربي ومن أعالي البحار، حتى قال محمود عباس لرئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم معتذراً عن حضور قمة الدوحة أثناء الحرب على غزة في كانون الثاني/يناير 2009: "إذا حضرت القمة سأُذبح من الوريد إلى الوريد".. فتغلبت حماس على الحصار والعقوبات بإنشاء شبكة أنفاق ضخمة وعميقة ومجهزة هندسياً، وأنجزت صفقة تبادل للأسرى هي الأولى في تاريخها عام 2011 بعد مفاوضات شاقة بحسب تصريحات الوسطاء، تلا ذلك تطويرها صواريخ تصل إلى مدن بعيدة، بينها حيفا و"تل أبيب"، وأعادت أسر جنود إسرائيليين مرة أخرى ما زالوا لديها منذ 2014.

⁠* اجتمعت أميركا مع الحلفاء، وقرروا تشديد الحصار واستمرار إشغال حماس بالمشكلات الداخلية اليومية والتحسين الحياتي ودوامة المصالحة وسراديب الوعود وغيرها، فمنعت أميركا الانتخابات 2021 حتى لا تصل حماس إلى الحكم، ووضعت "فيتو" الدخول على منظمة التحرير، وهددت كل من يسعى للمِّ شمل الفلسطينيين.

⁠* جاءت معركة "سيف القدس" في أيار/مايو عام 2021 لتصبح سيطرة حماس العسكرية عابرة لغزة، إذ تقرر إلغاء مسيرة الأعلام الإسرائيلية في القدس لتضع الحركة خريطة جديدة كانت "إسرائيل" تحاول طيلة سنوات عدم الوصول إليها، فأصبحت حماس تتحكم في المشهد السياسي والأمني في الضفة وغزة والقدس وما بعدها في إطار وحدة الساحات التي أفرزت غرفة مشتركة إقليمية.

⁠* تقررَ مزيد من السحق للحركة، فكانت النتيجة قوة عسكرية وتقنية وأمنية وطائرات بدون طيار وأنفاقاً في غزة ومجموعات عسكرية في نابلس وجنين وطولكرم وأريحا ولبنان وسوريا. وبدلاً من أن تُسحق حماس توسع ميدان سيطرتها حتى باتت في 2022 ومنتصف 2023 تحصد أعلى الأصوات في انتخابات بلديات ونقابات ومجالس طلبة في الضفة الغربية، وتنفذ عمليات نوعية ضد المستوطنين والجنود، وتعالى صوت لدى المحللين الإسرائيليين والجنرالات في الجيش الإسرائيلي بأن الردع يتآكل وهيبة الجيش تتلاشى وحماس باتت تقرر حركة الطيران في "إسرائيل".

* عقدت أميركا و"إسرائيل" قمم شرم الشيخ والعقبة 2022 لمواجهة نفوذ حماس والمقاومة في الضفة الغربية، وكان عنوان القمم تفكيك الجبهات والاستفراد بها بفتنة في لبنان وترهيب وترغيب في غزة، وباشرت بتزويد السلطة في الضفة بأسلحة وتكثيف الاحتلال للهجمات والاقتحامات والقتل وإطلاق العنان للمستوطنين، فكانت النتيجة تدهور أمن المستوطنين في الضفة ومدن "إسرائيل" وزيادة المجموعات العسكرية والحاضنة الشعبية في الضفة، حتى تشكلت رغبة لدى الشعوب العربية بمساعدة الفلسطينيين، وكان أحد نماذجها النائب الأردني الذي اعتقله الاحتلال بعد إدخاله كميات من الأسلحة للمقاومة في الضفة، ما اعتبره خبراؤهم الأمنيون مؤشرات ناسفة لمخططاتهم الرامية إلى إلغاء المقاومة والوجود الفلسطيني.

وفي خضم التدهور في الضفة، دشنت "إسرائيل" أسوارها الإسمنتية والحديدية والحواجز المائية والتكنولوجية. وفي احتفالية التدشين، أعلن قادتها إنجازهم التاريخي في مراسم أقيمت قرب السياج لخنق غزة والتخلص من خطر الصواريخ والأنفاق العابرة.

كانت الصدمة يوم السبت 7 أكتوبر، حين كان مئات المقاتلين في جنوب "إسرائيل" يجوبون شوارعها، ويدمرون فرقة غزة، ويأسرون الضباط والجنود، ويحتلون مراكز شرطية وعسكرية وأمنية، رغم آلاف الصواريخ والطائرات المسيرة والتقنيات والهجوم المنظم، في مشهد يستحق أن يقال عنه إنه "صدمة القرن" التي جاءت نتاج سنوات طويلة من محاولة سحق حماس وجعلها محاصرة ضعيفة، فجاء قرار بايدن ومعه أوروبا وصمت العرب بقرار ينفذه قادة "إسرائيل" عنوانه لا يختلف عن أول مؤتمر لمحاربة "الإرهاب" في شرم الشيخ المصرية عام 1996.

اشتد الحصار، وانقطعت المياه والكهرباء، وبدأ القصف والدمار والمجازر للضغط على حماس، فكانت النتيجة حاضنةً شعبيةً عابرةً للقارات، وهتافاً لمحمد الضيف المجهول صورةً أمام البيت الأبيض، وصارت مدن "إسرائيل" تحت النار، وبات الجنرالات المتقاعدون في الجيش الإسرائيلي يتساءلون: "حماس تعيد جنودنا من غزة جثثاً ومعوقين، والأحياء منهم أسرى، ونافذتنا الدولية تغلق رويداً رويداً، وسحق حماس ما زال عنواناً إخبارياً"، فيما البحر الأحمر والمضيق محرم على سفن "إسرائيل"، ومستوطنات الشمال والجنوب فارغة، والاقتصاد مشلول، والبرلمانات في العالم تفتح ملف فلسطين، وتطلب حق أطفالها، وتبارك مقاومتها.

وأهم من ذلك، وبعد فشل كل الأهداف، باتت حماس محط أنظار كل العالم، فبدلاً من عزلها صار الحديث معها توصية إستراتيجية، وبدلاً من مقاطعتها انتشرت فكرتها.

على مدار سنوات طويلة، قاطعت حماس دول عربية، وحاربتها دول أخرى بشكل مباشر وغير مباشر، ودعمتها دول، وكانت غيرها فاترة العلاقة معها. تنقلت قيادتها من عاصمة إلى أخرى، واعتقلت شبكات مالية وسياسية واجتماعية لها في عواصم العرب، وكانت حريصة على عدم أخذ موقف ضد دولة أو معاداتها، فحافظت على مسافة مهمة في سياستها الخارجية، وتجاوزت كثيراً من المحددات التقليدية التي انتهجتها فصائل أخرى جعلتها مجبرة خاضعة لاتجاه معين أو أجندة أخرى.

حماس استطاعت أن ترسخ نظرية القضية الفلسطينية عام 2023، وتجاوزت الفتنة الداخلية والطائفية العربية والإسلامية، وجمعت كثيراً من الجهود شتتتها سنوات الفوضى الخلاقة التي بثتها أميركا في المنطقة. لذلك، ولأنها نجحت في العبور الدقيق من دون انفجار لغم سياسي أو طائفي أو جغرافي فيها، فهي الآن جامعة للرأي ورابطة للمواقف ومتقدمة الصفوف.

حماس تقلب صفحة في 7 أكتوبر يوم كانت حركة، لتتحول إلى أسس دولة وقوة مؤثرة، سواء توافقنا معها أو اختلفنا، وهو واقع أرادت "إسرائيل" سحقه، فإذا به محط أنظار وحديث وقنوات اتصال، فما هي حماس القادمة؟!

* قيادتها المقاومة، وإتقانها الهجوم والدفاع، وتوسع قدراتها لتصل إلى مخيمات اللجوء والجوار وتفعيل الضفة وانتشار الفكرة، سيجعلها رقماً صعباً أكثر من ما قبل 7 أكتوبر. 

* شريان رئيسي في منظومة محور يمتد جغرافياً، وله حاضنة وقضية، وبات قوياً تسنده دول، وله امتداد تستطيع العبور من خلاله في ظل التموضع الجديد لبناء التحالفات الرامية إلى دفن أحادية القطبية. أما عدالة القضية الفلسطينية، فهي عنوانها الجامع.

 ⁠* بإنجازها الوثيقة الملحقة للميثاق عام 2017 بقبولها دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967، تجاوزت حماس عقبات لإبقائها دافعة ثمن من دون مقابل، وزارعة دون حصاد، ومضحية دون إنجاز. لذا تسلحت بالمقاومة، وهذا أهم بنود شكلها القادم، واستندت إلى وثيقة 2017 ومبادرة مؤسسها الشيخ أحمد ياسين قبل 3 عقود ومجريات التحول في الساحة الدولية.

⁠* لم تغفل حماس لغة المصالح والتوقيت، وكذلك المتاح والمؤجل والمطلوب والمهمش، وهذا ما يسمى إعادة ترتيب الأوراق وبناء الرؤية خلافاً لكثير من التنظيمات أو الحركات المتشنجة عند نقطة أو المنهارة لحظة السلام أو المندفعة لحظة القتال. هنا نموذج تكوّن حديثاً في برنامج حماس، وصقل واجهتها، ووضّح رؤيتها، وهذا سيساعدها على اختصار كثير من العقبات، وسيمكن لها دوراً إقليمياً من منطلق موقعها الجديد، ليس رغبة دولية فيه، بل تفادياً لمخاطر غير متوقعة.

⁠* حماس القادمة ستكون في محطتين؛ أولها شرعية مقاومة مستندة إلى الشرعية الدولية، ما يسمح بتوسع تحالفها ومحورها وقبولها لا سحقها، وشرعية صندوق انتخابي إلزامي للجميع بعدما كان أملاً أو رغبة أو طلباً، وبالتالي إعادة تموضع فرضته الأحداث القائمة حتى اللحظة.

المرحلة المقبلة، وضمن المعطيات الأولية من انهيار الرواية الإسرائيلية واقتراب العالم شعوباً وحكومات من التعرف إلى القضية ووجهة نظر حماس بوثيقتها وصمود ميدانها وترسيخ السردية الفلسطينية، ستكون مرحلة خروج حماس من الأنفاق إلى صناعة القرار وليس السحق، وستحكم بشرعيتين.

آلاف هذه التصريحات عن "سحق حماس" منذ 1987 أيام الحجر إلى طوفان 2023 بددها الواقع، وصارت حماس فعلاً لا فكرة في مخيمات اللجوء على الحدود تسليحاً وتدريباً وتجهيزاً، فكلما قرروا حصرها انتشرت وحكمت، والآن هي مقبلة على دور إقليمي ملزم بفعل الأحداث.

هنا محطة فارقة، حين تتوازى السياسة والدبلوماسية مع العسكرية والتكتيك، لن تؤدي معادلة كهذه إلى الاندثار، بل إلى التقدم والتحكم والسيطرة والقيادة.

لم يعد أمام "إسرائيل" إلا اختصار المحطات وكسب الوقت وخفض سقف التهديدات، لأنها تخسر كل يوم ما اعتقدت أنها استثمرت لأجله.