جباليا... مخيم الانتفاضة الأولى يعود

ليس من الغريب بدء انتفاضة هي الأطول في تاريخ النضال الفلسطيني من مخيم جباليا، فالأمر بالضرورة يعود إلى البنية الأساسية التي شكّلت المخيم، بالمعنيين المادي والمعنوي.

  • قصف إسرائيلي على جباليا شمال قطاع غزة 14 أيار/ مايو 2024 (أ ف ب).
    قصف إسرائيلي على جباليا شمال قطاع غزة 14 أيار/ مايو 2024 (أ ف ب).

"يا تلاميذ غزة

علّمونا بعض ما عندكم

فنحن نسينا

علّمونا

كيف الحجارة تغدو

بين أيدي الأطفال

ماساً ثمينا

كيف تغدو دراجة الطفل لغما

وشريط الحرير يغدو كمينا

كيف مصاصة الحليب

إذا ما اعتقلوها

تحوّلت سكينا" 

في اليوم العشرين بعد المئتين، يعود "جيش" الاحتلال الإسرائيلي لمحاصرة مخيم جباليا ومهاجمته بشكل مكثّف، مما أعاد الاشتباكات الدائمة بين المقاومة الفلسطينية وعناصر الاحتلال بشكل كبير. وكانت قوات الاحتلال قد منعت طواقم الدفاع المدني من أداء واجبها في مساعدة المواطنين عن طريق الاستهدافات المباشرة والمستمرة في غالبية أزقة المخيم، الأمر الذي أدى إلى صعوبة أو استحالة انتشال جثث الشهداء من المباني أو الشوارع، بما فيه من انتهاك لحرمة الموت وأساس احترام الإنسانية التي تدّعي "إسرائيل" أنها تفهمها بعقليتها الاستعمارية الغربية. 

لم يكن هذا حصار مخيم جباليا الأول، ولا المحاولة الأولى الفاشلة للاحتلال الإسرائيلي بالقضاء على المقاومة في المخيم، فقد بدأت قوات الاحتلال بمهاجمته في بدايات هذه الحرب الدامية، كما قامت بواحدة من أبشع المجازر في تاريخ 31 تشرين الأول/أكتوبر 2023، حيث أغارت الطائرات الحربية عصر ذاك اليوم على مربّع سكني في المخيم، مما أدى إلى ارتقاء نحو 400 شهيد، وتبقى الأرقام مرجّحة بالتزايد. 

شكّل مخيم جباليا معضلة حقيقيّة أمام "الجيش" الذي يصف نفسه بالأكثر تطوراً. ففي كلّ مرة يصوّر للعالم كذبة قضائه على المقاومة في شمال قطاع غزة، تخرج الصواريخ من هناك معلنةً فشلاً عسكرياً آخر للاحتلال، وتبعث برسالة أن المقاومة هنا باقية وأن المخيم أصل الحكايات. إلا أن لمخيم جباليا بالتحديد أسطورته الخاصة في المقاومة، وله "خصوصيته" التي تنبع من تاريخ طويل في مواجهة المحتل بجميع السبل. 

جباليا والانتفاضة الأولى 

في الـ 8 من كانون الأول/ديسمبر عام 1987 حصل الحدث الذي شكّل علامة فارقة في تمرّد الفلسطيني على واقعه الاستعماري. انطلقت شرارة الانتفاضة الأولى من مخيم جباليا عندما قام أحد المستوطنين بدهس عمّال فلسطينيين مما أدى إلى استشهاد 4 منهم وإصابة 7 آخرين، وعلى أثرها ثار الفلسطينيون في مخيم جباليا وانتقلت الشرارة لتشمل كلّ القطاع، ثم مدن الضفة الغربية، واستمرت الانتفاضة حتى توقيع اتفاقية أوسلو بين الاحتلال الإسرائيلي ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993. 

ليس من الغريب بدء انتفاضة هي الأطول في تاريخ النضال الفلسطيني من مخيم جباليا، فالأمر بالضرورة يعود إلى البنية الأساسية التي شكّلت المخيم، بالمعنيين المادي والمعنوي. فقد تم إنشاؤه بعد نزوح الآلاف من الفلسطينيين بعد حرب النكبة عام 1948، وعلى الرغم من أن مساحة المخيم تتعدّى الكيلومتر بقليل، إلا أنه يسكن فيه ما يقارب 180 ألف شخص. 

انتشرت في الانتفاضة الكثير من الرسومات والشعارات التي ملأت جدران المخيم. ومنها تمّ توقيعه بـ (ق.و.م)، القيادة الوطنية الموحّدة للانتفاضة بما فيها من حركات فتح، الجبهتين الشعبية والديمقراطية والحزب الشيوعي الفلسطيني، وشعارات أخرى تحمل توقيع حركة حماس (ح.م.س). لم تؤدِّ هذه الشعارات دوراً في التعبئة الشعبية فحسب، بل أيضاً هي كانت بالمقام الأول تعبّر عن الحالة الثورية في المخيم، من أطيافه كافة من نساء ورجال وكبار في السن وأطفال. فقد قدّم المخيم الدماء قبل أن يقدّم الكلمة، وفي هذا كان الشهيد الأول في انتفاضة الحجارة حاتم أبو سيسي من مخيم جباليا. 

إن المآسي التي يحملها النازح لا تختفي بمجرد "استقراره" في مكان آخر، فلا ينسى التهجير ولا التنكيل ولا الدم الذي سال أمام عينيه، بل يحملها كلها معه في صرّته التي يحمل فيها ما استطاعت استيعابه من ثياب وبطانيات وأوراق ثبوتية، وعلى هذا الحال، تكوّن مخيم جباليا. وواقعية المخيم بكونه ملجأً مؤقتاً تبقي شرارة الانتقام مشتعلة في داخل من يسكنه، وتؤجّج حلمه بالعودة، وتذكّره بالاضطهاد الذي وقع عليه مكرهاً، ليصبح بذلك الدافع الأقوى للمقاومة. كما يشكّل المخيم حالة جماعية من السخط والرفض لكلّ ما هو ظالم في العالم، لكنه يأخذ حقه عنوة، فهو يدرك أن العالم الذي انتزع أجداده من أراضيهم لن ينصفه حتى لو على حساب خرق القوانين الذي تدّعي أنها لحمايته الشخصية. 

إن محاولة النظر إلى المخيم من زاوية في معزل عن المقاومة محاولة تبوء بالفشل بطبيعة الحال. فالمخيم هو القتال، هو الرفض والتمرّد، فليس غريباً أن تصبح هذه البقعة الصغيرة سوراً منيعاً أمام الاحتلال. إن المنطق ليس عاملاً مهماً هنا، فلا يمكن لأحد لا يعرف حالة المخيم أن يفهم كيف باستطاعة البيوت الصغيرة المكوّنة من الصفائح والزينكو أن تصمد أمام الدبابات، وكيف يتسع كيلومتر واحد لهذا الكم الهائل من الأنفاق، ومن أين يخرجون، وغيرها من التناقضات. 

لكنه أكبر من أن يتمّ تفسيره بالمنطق، لأن استرداد الحقّ هو الذي يقود المعادلة، فعندما تسلب الإنسان بيته وأرضه وكيانه، يخلق من المخيم معسكراً، ويقف بيديه العاريتين أمام المدرّعات، ويترك المنطق والخوف وراءه ويتحدّى العالم: "لن يدخلوا معسكرنا، يعني لن يدخلوا معسكرنا" كما قالها الشهيد نزار ريان، وهو قيادي سابق في حركة المقاومة حماس وكان مسؤولاً عن استهداف المستوطنات بالصواريخ. 

جباليا في طوفان الأقصى  

دخلت الحكومة الإسرائيلية هذه الحرب ولها هدف معلن: القضاء على حركة حماس والمقاومة في غزة. وبالتأكيد، بعيداً عمّا تقوله على شاشات التلفاز وما تصرّح به للإعلام، لقد فشلت. صنعت المقاومة في جباليا معجزة، فبعد حصارٍ منهك، وقصف واستهداف لا نهائي، لا تزال الصواريخ تخرج من الشمال، لا تزال بيانات المقاومة حتى لحظة كتابة هذا المقال، وحتى لحظة قراءتك له، تخرج معلنةً عدد الدبابات التي دمّرتها، وعدد الجنود الذين سقطوا.

حتى أصف الأمر بإنصاف، أنا لا أتنكّر لمدى المعاناة والقتل والدمار، ولا أشعر في لحظة أنه من العدل التغنّي بفعل المقاومة في معزلٍ عن المآسي التي نراها، ولا أن نغضّ النظر عن كل تلك الأحزان، ولا أراها تحصيل حاصل لعملية التحرير، بالعكس، أراها أكثر مما يمكن تحمّله، بل في أحيان كثيرة تطغى على الشعور بالفخر، لكن المقاومة ليست غريبة عن هؤلاء الذين قضوا، بل هم المقاومة نفسها، هم جباليا، هم أطفالها ونساؤها وشيوخها وشبابها العنيد… فمن الحزن والغضب يُجبَلُ الانتقام، ولأجل الذين قضوا، وكل تلك السنوات المليئة باللوعة، يقاتلُ المخيم. 

مرّت أكثر من 40 سنة ولا يزال جباليا عصياً على الكسر، لا ينحني، ولا يتراجع… يخلق الصواريخ من بين التراب، والرصاص من الهواء، والإصرار من المعاناة، فليس غريباً أن تجد طلاب مدرسة الفاخورة يعودون إلى مقاعد دراستهم بعد أكثر من مئتي يوم من الحرب، وسيكبر أحدهم، يشهد حالة المخيم ويتأمّلها، ويتفحّصه شبراً شبراً، وحين يدير العالم ظهره عنه لأن مأساته طالت، سيصرخ من قلب المخيم: نحن هنا، هنا بدأنا، وهنا نبقى، لنعيد الوطن إلى مكانته الصحيحة، وأمام كل موازين القوى "لن يدخلوا معسكرنا"، فيصبح نزاراً آخر، أو أسطورته الخاصة.