"بزوغ الفجر": هجوم استباقي لاستعادة الردع

في "إسرائيل"، يرى المحللون أنه "كي ينجح لابيد فإنه يحتاج إلى أن يقصر مدّة هذه المعركة قبل أن تتعقد".

  • "بزوغ الفجر": هجوم استباقي لاستعادة الردع

لم تبدأ العملية العسكرية، "بزوغ الفجر"، ضد قطاع غزة، مع الإفراج العلني عن الخطة، بل قبل ذلك، أي قبل المرحلة التي سبقت حتى اعتقال القيادي في حركة الجهاد الإسلامي، الشيخ بسام السعدي. فلم "يبزغ الفجر" إلّا حين "اصطفاف النجوم"، وفق التعبير الذي اختارته صحيفة "يديعوت أحرونوت"، والذي كان باغتيال القائد تيسير الجعبري ورفاقه من سماء غزة. 

استرجاع بسيط للمجريات يكشف أن القرار الاستباقي لشن العدوان هذه المرة أتى مخالفاً لمسار المؤسسة الأمنية في "تل أبيب"، عبر تجنّب الخروج إلى الحرب، ابتداءً منذ حرب تموز/يوليو 2006. فما الذي قرأه صنّاع القرار في مفردات الصراع، حتى استدعى هذا التصعيد، وفي هذا التوقيت الحساسّ؟

كسر "تكامل الساحات"

السؤال هنا يتحول إلى جواب في ذاته، أي"التوقيت". فإذا أردنا تجزئة المشهد الكليّ حالياً، فسوف نرى جبهة جنين التي تصدّرت المشهد منذ معركة "سيف القدس"، والتي تزداد حضوراً واتساعاً مع استنساخ كتيبة جنين - سرايا القدس في مدن الضفة: نابلس وطوباس وبيت لحم.. وهو تهديد لا ترى المؤسسة الأمنية أنه يقل خطورة عن جبهة غزة، ضمن معادلة تربط بين الجبهتين، فكان لا بد من خطة تُنزل الجهاد الإسلامي عن الشجرة، وخصوصاً أن الحركة لا تخضع للحسابات الداخلية أو الخارجية أو السياسية التي قد تُحيّدها عن قرار الرد. 

جرى ذلك بالتزامن مع الإعداد لضربة نوعية تُعيد اعتبار قوة الردع التي تَأَكَّلت بفعل المقاومة، ونقل الثقل الأمني من جنين إلى غزة. والأهم من ذلك عزل الساحات "المتصلة بجبهات موحدة". ولعل تسمية سرايا القدس لعملية صد العدوان بـ "وحدة الساحات"، جاءت ضرباً للهدف. 

وما أرادت "إسرائيل" قوله عبر قرارها هو أن على الجهاد الإسلامي ترك الضفة وجنين لمصيرهما. لذا، حاولت الإيحاء بأن الجولة القتالية الحاليّة تقع بينها وبين الجهاد الإسلامي حصراً، وهو ما يتوافق مع تحليل المراسل العسكري والأمني في قناة "كان"، إيال عليمة، وقوله إن الأجهزة الأمنية خطَّطت مسبّقاً مثلَ هذه العملية، سواء من أجل اغتيال قيادات عسكرية في سرايا القدس، أو بهدف إبطال التهديدات الفورية من القطاع، ومنع فصائل المقاومة من فرض معادلة جديدة على جبهة غزة.

صناعة الهوية القيادية

يدخل التوقيت على خط القرار مرة أخرى، فيما تعدّه حكومة لابيد "تحدي المرحلة المفصليّة"، بحيث يرى كل من رئيس حكومة الاحتلال، يائير لابيد-  الذي يأتي من خلفية غير أمنية - ووزير حربه، بيني غانتس، في قرار العدوان فرصةً في صياغة هويتيهما، سياسياً وأمنياً، والظهور كقائدَين يمتلكان جرأة المبادرة إلى خيارات عملياتية واسعة. لذا، كانت "عملية لابيد (بزوغ الفجر) غير عادية، لأنها تأتي من شخص يقع على عاتقه عبء ضمان الوضع الأمني، إذا أراد أن يبقى رئيساً للوزراء"، بحسب ما كتب عميت سيجال، محلل الشؤون السياسية في "القناة الـ12". 

هنا، يرى كل من لابيد وغانتس، في نظرتهما الأبعد إلى العملية العسكرية، أنها عملية تشكيلية لملامح الائتلاف الحكومي الإسرائيلي المقبل، في وقت يغيب فيه حزب الليكود عن الحكومة، ويدور نزاع، ليس بخفيّ، بين نتنياهو ولابيد، وآخر مبطّن بين لابيد وغانتس، في صراعهما على معسكر يسار الوسط. 

استنفار "هجومي"

ثم أتت مرحلة ما بعد قرار فرض الحصار على غلاف غزة، كإجراء يبدو في ظاهره مماثلاً للخطة الأمنية المتَّبَعة عادة في واقعة مشابهة، كاغتيال القيادي بهاء أبو العطا عام 2019. ويومها أيضاً، أصدرت المؤسسة الأمنية قراراً يقضي بالإخلاء والتقييد على مستوطني الغلاف، والذي أنذر حينها من أن خطة ما تُصاغ تحت الطاولة. 

مع ذلك، فاقت السرديات الميدانية حدود الحذر الأمني، ليتطوّر إلى استنفار شامل، كأن يزور رئيس أركان الاحتلال، أفيف كوخافي، "فرقة غزة" 3 مرات خلال 24 ساعة، ويُجري تقييماً للوضع العملياتي؛ أي بمعنى آخر: كان يتفحص جاهزية أركان جيشه للضربة الاستباقية التي رأيناها، وهو ما أكده مراسل موقع "والاه" العبري، عبر قوله إن التعزيزات "ليست دفاعية، بل هجومية"، في قرار هو يعلم بأنه تجاوز لكل الاتفاقيات السابقة، التي تقضي بوقف اغتيالات القادة بمعزل عن مدى تطور الوضع الأمني. لذلك، استعدّ جيش الاحتلال لمرحلة ما بعد "سقوط الخطوط الحمراء".

إلّا أن محاصرة مليون و400 الف مستوطن في الملاجئ، لمدة دخلت اليوم الرابع، من خلال واقع فرضت فيه الجهاد الإسلامي شللاً حياتياً، أكسبت العملية المعلنة دفعاً يتباين في جدواه عن المعايير السابقة، استدراكاً للتذمر المتصاعد داخل "المجتمع الإسرائيلي"، والانتقادات التي وصلت إلى حد السخرية، وما رافق ذلك من موجة استهزاء طالت هيبة الجيش، فيما وصفته يديعوت أحرونوت بـ"نوبات الازدراء التي اجتاحت وسائل الإعلام ومستوطني الغلاف، وإطلاق مسمى "الردع الضائع"، وأنه تم التخلي عن مصيرهم، بينما كانت الحياة في وسط البلاد مستمرة كالمعتاد". 

عندما استشعرت حكومة لابيد أن الحصار يطوّق عنقها، مع انجرار الإعلام العبري إلى المستنقع بالحسم الذي صورته صحيفة "يديعوت أحرونوت" في افتتاحيتها في قولها "إذا كان الإرهاب يستهدف زرع الرعب والخوف، وتهبيط المعنويات، وتشويش الحياة العادية، وكل ذلك لضمان الأهداف السياسية، فإن الجهاد الإسلامي حقق كل هذه الأهداف في هذه المواجهة من دون أن يطلق صاروخا واحداً"، حينها كان وقت لـ"بزوغ" القرار. 

فبين أن تقع "إسرائيل" رهينة تهديدات المقاومة في غزة، أو استعادة الثقة الضائعة، اختار لابيد صناعة حدث يكسر حالة العجز، ليظهر في حالة المتحكّم في الميدان، في جولة قتالية تُشَن بإدارته، يكون فيها صاحب قرار السلم والحرب، وإلى جانبه غانتس الذي صرّح: "أود أن أؤكد أن وقتكم انتهى، وتهديدكم لمنطقة الغلاف سيزول، بطريقة أو بأخرى".

هنا، تقدَّمت "تل أبيب" ميدانياً عبر استغلال جدلية المفاوضات، وباغتت الجهاد الإسلامي، وهي في أقصى جاهزيتها واحتياطاتها، كما أفاد مراسل موقع صحيفة "مكور ريشون"، نوعم أمير، عبر قوله إنه تمّ افتتاح معسكر القيادة العليا في غرفة قيادة العمليات تحت الأرض في "الكرياه"، وإن الجيش يستعدّ لتوسيع انتشار القوات البرّية عند حدود غزة.

كل هذا في "موسم ساخن"، على حدّ قول المحلل العسكري، ألون بن دافيد، في صحيفة "معاريف"، وفي ضوء تهديدات استراتيجية متعددة الأقطاب، ومعسكر غربي غارق في دوامة الأزمات. تُضاف إلى ذلك عودة المفاوضات النووية في فيينا، وتهديدات حزب الله في الجبهة الشمالية، على قاعدة "إمّا الحق وإمّا الحرب". لكن، يبدو أن "إسرائيل" تريد تحقيق إنجازات على الرغم من أن سخونة الأجواء الإقليمية والداخلية غير مواتية لاستراتيجيتها العامة.

ضبابية الصراع

مع الانتقال إلى المواجهة العسكرية، غلبت على التصريحات الإسرائيلية محدودية الوقت والهدف، في استراتيجية تتعمد فيها فصلَ الأطراف، بعضها عن البعض الآخر، لتبقى الإشكالية هنا في ضبابية الصراع المفتوح، ومآلاته.

أمّا من جهة خوف لابيد المبطن في تصريحه الأخير من جولة متواصلة، قد تتّسع فيها بقعة الزيت، وقوله "سنزيل التهديد، وليأخذ منا الوقت ما يأخذ"، فهل التقديرات لدى المؤسسة العسكرية هي بالدقة التي تسمح بخوض عملية مفتوحة تسيطر فيها على خواتيم الجولة، كما بدايتها، أم أنها قد تطلق في ذلك الرصاصة الأخيرة على مرسوم لابيد - غانتس الانتخابي، في وقت تسعى حركة الجهاد الإسلامي للنَّفَس الطويل والمواجهة الشاملة.

من جهة أخرى، أتى تصريح غانتس أقرب إلى الخطاب الشعاراتي، والرغبة في رسم معادلات جديدة، متوعّداً كل من يهدد الأمن بأنه "لن يبقى في قيد الحياة". لكن، هل يملك غانتس الخطة التي تضمن عدم تعقد الأمور أكثر، وتجنب الانجرار إلى ساحات أخرى.

في "إسرائيل"، يرى المحللون أنه "كي ينجح لابيد فإنه يحتاج إلى أن يقصر مدة هذه المعركة قبل أن تتعقد"، كما أفاد عميت سيجال، محلل الشؤون السياسية في "القناة الـ12"، بينما يذهب المحلل العسكري في "هآرتس"، يوسي مليمان، إلى تبني نظرية الأهداف المعلنة ووقف التصعيد، ويقول إن "على إسرائيل أن تعلن أنها حققت أهدافها، وتُوقف الجولة قبل أن يتعقد الوضع. لكنّ تمديد المعركة أسبوعاً آخر، غلطة"، وخصوصاً مع استحقاق مقبل، بحيث سيتم "اقتحام الأقصى في التاسع من آب/أغسطس، وإذا ما تطوّر فسيكون قادراً على تعقيد المشهد أكثر، وخصوصاً في القدس والضفة الغربية وأراضي الـ48"، بحسب عاموس هارئيل، محلل الشؤون العسكرية في صحيفة "هآرتس".