الشهيد إبراهيم النابلسي.. وثورة الحُسين
هذه صلاة "إبراهيم النابلسي"، لقد كانت عمود المقاومة، فصلّوها حتى لو طردتكم شياطين الأنس، كما رأيتم "إبراهيم النابلسي" يصلّيها.
لا يؤمن أحدكم بفلسطين، حتى تكون "البارودة" أحب إليه من والده، وأمه، والناس أجمعين، ويرضى بالمطاردة خياراً، وبالمقاومة طريقاً، وبالنصر نشوة ونتيجة، ويعوذ من الاستسلام، والعجز، ويستغيث بالرصاص، والمواجهة، وأن لا يُشرك بالشهداء، ودمائهم، وأن يستغفر، ويتوب من الحياد، وأن يسبح للمقاومة عدد القهر، والجبن، والرعب، والخوف، والقلق، وعدد الشهداء، والأسرى، والجرحى، وأن يؤذن بعد ذلك قائلاً: حي على الاشتباك، حي على الاشتباك.
هذه صلاة "إبراهيم النابلسي"، لقد كانت عمود المقاومة، فصلّوها حتى لو طردتكم شياطين الأنس، كما رأيتم "إبراهيم النابلسي" يصلّيها.
هي الجرأة أن تمسك جورب سيدة استشهد ابنها وتخنق فيه الموت، تلعب معه داخل الغرفة المحاصرة لعبة الحجلة، وأكثر لعبة الاشتباك، تقف معه الند لند، تضحك، وتقول له: أيها الموت، أنت الجبان، لقد كنت أطاردك أنا"، تبحث عن وردة كنت قديماً تتمنى أن تُهديها لطفلة، ولكن اليوم تقرر أن تهديها للموت، تشعر أن الرصاصات، وصاروخ الإنيرجي أصبحا أقرب من أي وقت مضى، وتتذكر رفاقك "الشيشاني، والدخيل، والمبسلط"، وترقص متحداً مع الموت وأنت تغني:" خلوا النعش مرفوع، والحنة على صدره، والعين تبكي دموع، قلبي اشتعل جمره"، لتدرك أخيراً عندما يتوقف النبض، أنها كانت رقصة الاشتباك، رقصة الشهادة. إنها حكاية "إبراهيم النابلسي".
بين أزيز الرصاص، وفي ظل لحظة الاشتباك، قاتل "النابلسي" الصدمة أولاً، صدمة أن الموت على مسافة قريبة منه، إذ أدرك أن لا مفر، ولذلك قرر الاشتباك، على الرغم من أن لحظة الشهادة كانت موجودة أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً عندما صرخوا عليه "إبراهيم المكان محاصر.. سلّم نفسك"، ولكن لم يأت الرد بالكلمات، بل بالرصاص.
هي رباطة جأش تعشش في إرادة المقاتل، هنا وبين الرصاص المتبادل، أرسل "النابلسي" رسالة إلى رفاقه يقول فيها:" بعرضكم ما حد يترك البارودة"، صوت أنفاسه الشجاع يُعيد إلينا حكاية زمن الاشتباك، وحاجز التراب، ودبابات الاحتلال تبحث عن الموت في أزقة المدن الفلسطينية.
ثماني عشرة ثانية كانت كفيلة بأن تأخذنا قليلاً إلى التاريخ القريب، تذكرنا بالشهيد القذافي "باسم أبو سرية"، وفادي قفيشه، والسنقور، تذكرنا بإرهاصات الانتفاضة الثانية، بالحجارة العتيقة للبلدة القديمة في نابلس، وأكثر تذكرنا كيف قام الاحتلال ببناء بلدة قديمة مشابهة للبلدة القديمة في نابلس ليدرب جنوده على الاجتياح.
الرثاء هنا يرثي نفسه، عندما استعاد "النابلسي" التاريخ، قام بالقبض عليه بعد مطاردة استمرت سنوات قائلاً له: لقد انتهى زمن الخيانة، والآن لنعد إلى كتائب شهداء الأقصى، ولنعد إلى قبر الشهيد عبود صبح، ومحمد العزيزي، وإسلام صبح، وحسين طه، ولنبدأ من النهاية التي تذكرنا بالبداية، تلك البداية في حارة الياسمينة داخل عتمة البلدة القديمة في نابلس، حيث البلاط هناك يرفض السلام، ويرفض أوسلو، حيث يعدّ الصدى خائناً من دون دوي الرصاص بين الجدران، معلناً قتل الصمت، والتاريخ المهزوم، عندما يرتطم على البلاط.
هي ليست معركة "النابلسي" وحده، بل معركة الساحات، فلا فرق بين مقاتل في نابلس، وآخر في غزة، هي نتيجة واحدة، البحث عن فلسطين عبر قتل حمامات السلام، وإنقاذ التاريخ من بين يدي الجبناء، والعودة إلى لحظات المطاردة، والاختباء، والصلاة من دون ماء، بل تيمماً بتراب الأرض، حيث الصلاة هنا خشوع مع الأطفال، وخصوصاً أطفال غزة، في رفح، وجباليا، كأن الصلاة في الضفة هي التعبير المكثف عن الإيمان بالمقاومة في قطاع غزة المحاصر.
كنت لنفسك غاضباً، وعلى نفسك غاضباً، تعلم جيداً أن المسافة ما بين الموت والهزيمة، هي مسافة النصر، مسافة فلسطين، متمسكاً بالبندقية، الشيء الأكثر ثباتاً في عالمك الخاص، فرفضت الفصل بين الساحات، مؤمناً أن فلسطين هي السبعة وعشرون كيلو متر مربع "وشوي" جميعها للفلسطينيين، ولذلك امتلكت قلباً حراً، واتبعته، وكان التحدي الأكبر لهذا القلب هو الارتطام بجدار الخوف، ومن أجل هذا الجدار عشت ترى الموت خصماً تطارده يومياً متسلحاً بالأمل، كأنك توصي "الأمل، ثم الأمل، ثم الأمل.. فهو فاكهة الانتصار حتى لو قتلنا جميعاً"، فاستشهدت.
ليس زمن البكاء، بل زمن الحب، وأكثر زمن العشق، والتخاطر، بل وأكثر زمن الحُسين، فقد كان "إبراهيم النابلسي" الحُسين الذي وضع بين خيارين، إما الاستسلام، وإما المقاومة، وبالرصاص قالها: هيهات منا الذلة، فخرجت الحسينيات تلطم شهيدها في نابلس، تبكي طفلها، وتغني له تلك الجماهير وهي متشحة بالسواد: "يا نابلس بجاه الحُسين، ردي إبراهيم لنا".
لقد كانت "بارودتك" هي القانون الدولي الذي يبحث عنه الفلسطيني، في ظل خيانات القانون الدولي "الإنساني"، والحكومات العربية، وكانت أكثر هي الحب لأمك، هي السرمدية في ظل الموت، العودة إلى البكاء الأول بين يديها، وأول رشفة حليب، وأول قبلة، وأول حضن عندما وضعوك بين يديها وقالت: "طفلي، حبيبي، 9 شهور لشفتك"، ويبدو أيضاً أنك تذكرت حقيبتك المدرسية، وساندويش الزيت والزعتر الذي كانت تصنعه لك بكل حب، ويبدو أن الأمر قد اختلط عليك حيث سألت كيف أواجه الموت من دون أن تغسل لي أمي قميصي المفضل؟، ولذلك بدأت تدندن لمارسيل خليفة محاولاً الاقتراب من لمس الحب من يدي عشيقتك لتهزم الموت، فقلت هامساً، ضاغطاً على الزناد:
أحنُّ إلى خبز أمي
وقهوةِ أُمي
ولمسةِ أمي....
وتكبرُ فيَّ الطفولةُ
يوماً على صدر يومِ
وأعشق عمري لأني
إذا مُتّ،
أخجل من دمع أُمي!