السقطة الأولى: هكذا خسرت "إسرائيل" الشمال
خروج المجتمع الشمالي بالتحديد من هذه الحرب من دون تصدعات استراتيجية يبدو مهمة غير ممكنة. تغير الروتين الصباحي الجليلي بالنسبة إلى هؤلاء كفيل وحده بأن يجعل من غرف الفنادق الضيقة "طناجر ضغط".
لم يكن قرار نتنياهو المتسرع بإفراغ الشمال زلّته الأولى. ارتكب بفعله هذا سقطةً مركبة؛ الأولى عندما منح "أعداءه" في الشمال إنجازاً ابتدائياً بحزام أمني وميدان عسكري مفتوح الأهداف، والأخرى عندما غامر بمستوطني الحدود في الجليل وما يمثلونه بالنسبة إلى "إسرائيل" دوناً عن غيرهم، ما جعل من أمر الإجلاء محنة استراتيجية تتعدى كونها مجرد عملية نزوح شاقة.
تلك المكانة العليا التي يحظى بها مستوطنو الجليل في الوعي القومي الصهيوني أُخذت من الوزن الاستراتيجي للجبهة الشمالية، ثم تراكمت مع مركزية الدور الذي أداه الجيل الاستيطاني الأول في الجليل في تحويل المستوطنات التأسيسية خلال الثلاثينيات والأربعينيات إلى ممرات لتهريب المهاجرين اليهود ككفرغلعادي التي مرّ عبرها 8000 يهودي من الحدود اللبنانية والسورية، فأصبحوا باسم "إسرائيل مواطنيها الحجريين" وحدودها الشمالية.
من سياجها البشري هذا، متّنت "إسرائيل" الخواصر الرخوة الحدودية، وملأت الفجوات الجغرافية الأمنية، على أن عملية إنقاذ الجليل من الأغلبية العربية ما كانت لتتجاوز الخطر لولا التمدد الاستيطاني حتى حافة الجليل الأعلى لانتزاع هوية الأرض وضمان التسلسل الجغرافي لإسرائيل، بالتالي تحقيق السيطرة الإسرائيلية على الجبهة الأخطر أمنياً بفعل مجاورتها عدوين أبديين؛ لبنان وسوريا.
في الحقيقة، إن كانت "إسرائيل" قد اكتسبت شيئاً بتثبيت أجساد مستوطنيها على الحدود، فهو الميزات الطبوغرافية الخاصة بالجليل الأعلى وحده؛ من الجبال العالية والمرتفعات، لتحقيق التفوق الميداني والأفضلية التكتيكية على الخصوم من جيرانها، فأنشأت القواعد العسكرية ومراكز الاتصالات والمراقبة على القمم، إلى جانب الاستحواذ على مخزون المياه الأكبر على أرض فلسطين في الجليل المشبع بالأنهار والبرك الطبيعية، وما يمثله بطبيعة الحال من قطب سياحي ومصدر وفير للأمن الغذائي بفضل طبيعة الأرض المتنوعة من السهول والتلال التي تسمح بزراعة المحاصيل المتنوعة.
في تفريع العلاقة التفاعلية بين خطورة الجبهة الشمالية والاستيطان النائي في الشمال، نتجت صيغة مجتمعية متفرّدة، تشكلت بدايةً من "المحاربين القدامى" المسرحين من "الجيش" ممن بنوا الكيبتوسات وأسسوا المستوطنات، وهي الفئة الأكثر استعداداً للتضحية والأكثر تقديراً في الوعي القومي الصهيوني.
وفي خط مواز، يأتي المزارعون ضمن الشريحة الأوسع الأكثر ارتباطاً بالأرض، وأخيراً الشريحة المتنامية من العائلات الشابة والأفراد المتعلقين بنوعية حياة "جليلية"، إن كان لطابعه الأخضر الريفي الهادئ، أو لبنيته المجتمعية المتماسكة بحكم أنظمة الكيبوتسات والقرى المجتمعية، أو ما يقدمه من مساحة للاستجمام الروحي والجسدي، ولهذه الفئة أولوية لا تقل أهمية عن الفئتين السابقتين في إضافة الديمومة المتجددة لتحقيق التوازن بين فئتين يغلب عليهما الكهول وكبار السن، لكنها تبقى الطبقة الأكثر هشاشة وتأثراً بالاختلالات الأمنية والاقتصادية..
من هنا، يُفسر الرابط الدقيق بين تعقيدات البنية الاجتماعية والتركيبة الاستراتيجية الشمالية خطورة إحداث أي خلل في النظام المجتمعي، كإجلاء أكثر من 200 ألف نازح من الشمال لـ6 أشهر قد يُخسر المجتمع الشمالي لعبة النقاط التراكمية لهذه الحرب، وتحوله إلى عامل ضغط ومؤثر في طاولة صنع القرارات العسكرية.
صحيح أن من الصعب على "إسرائيل" الاعتراف أمام نفسها أولاً، وجمهورها ثانياً، بحجم الضرر الاستراتيجي الذي أحدثته جبهة الشمال، مع ما يعنيه ذلك من مراكمة التحدّيات المصيرية الملحة، وهو آخر ما تريده الحكومة المتورطة جنوباً، لكن لم يعد بإمكان "إسرائيل" بعد الآن التوثب فوق مساحات اللايقين التي بنتها في وعي مستوطني الشمال على مدى الأشهر الستة الماضية، ليس فقط لعدم قدرة هؤلاء على استدراك ما حدث فعلاً بين الدقائق التي تلت 7 أكتوبر والكورنيت الأول على الحدود، سوى أنهم أصبحوا "لاجئين في بلادهم"، بل لعدم قدرة هؤلاء على تقبل غياب الردع التناسبي وبدء انهيار صورة الاقتدار الإسرائيلي في مساحة الأمان التي استندوا إليها للبقاء، أقلّه بإنشاء حزام أمني مماثل.
على الرغم من تشدد الشماليين في علاقتهم مع الأرض، فإنه يبقى مشروطاً بحلول تعجيزية هي إزالة تهديد حزب الله وإبعاده إلى ما بعد الليطاني. يمكن تلخيص ذلك بحالة عجز يراوح فيها النازحون بين ما كان من المفترض أن تقوم به الدولة وما يحدث، فملأت الهواجس فراغ التوقعات، ولم يعد الصهيوني محصناً بأفضلية التفوق.
لذا، لم تكن مصادفة عودة نظرية "الشمال وقود مدافع تل أبيب وحيفا وبئر السبع وإيلات"، في إشارة إلى واقع يرى فيه الشماليون أن الدولة تخلت عن خط الصراع الأول، بما يحمله الشمال من عقدة علمانية تجاه الحكومات اليمينية، وخصوصاً مع بدء مؤشرات العودة إلى غلاف غزة.
يميل الواقع إلى الانزلاق أكثر، ليس على صعيد الانقسام المجتمعي بين الشماليين والجنوبيين فحسب، بل في المجتمع الشمالي نفسه أيضاً، بين من يؤيد النزوح وجلّهم من العائلات (الجيل الشاب)، ومن يعتبره خطأ استراتيجياً، ويجتمع على هذا الرأي "المحاربون القدامى" وجزء من المجتمع الزراعي في الشمال (الجيل المسن).
هذا الانقسام ليس مفاجئاً بحد ذاته، لكن ما حصل هذه المرة، هو انتقال الهواجس إلى بعد أعمق. وبالفعل، سلّم الكثيرون بحقيقة أن "إسرائيل" باعت الشمال وقد لا تتمكن من استعادته. حتى الآن، حسمت عائلات قرار المغادرة أو الاستقرار في أماكن أكثر "أمناً". في كريات شمونة وحدها، يقدّر مركز الموارد الإسرائيلي أن 40% من السكان الذين تم إجلاؤهم يميلون إلى عدم العودة.
خروج المجتمع الشمالي بالتحديد من هذه الحرب من دون تصدعات استراتيجية يبدو مهمة غير ممكنة. تغير الروتين الصباحي الجليلي بالنسبة إلى هؤلاء كفيل وحده بأن يجعل من غرف الفنادق الضيقة "طناجر ضغط".
لذا، واجه المجتمع الشمالي تعقيدات أكبر في التكييف المجتمعي في المناطق الحضرية الصاخبة، وهو ما يفسر ارتفاع نسبة العنف الأسري والاعتداءات الجنسية في فنادق الشمال بخلاف فنادق الجنوب. ومع تحول النزوح المتكرر إلى عملية مستمرة بلا أهداف أو أفق زمني واضحين، تقلّصت مرونة الاجتماعية للصمود والتحمل، وأصبح التشكيك ملازماً للبقاء، ما دفع العديد من النازحين إلى التسرع بقرارات مصيرية هرباً من واقع الأخبار.
القضية هنا في تسارع مسارات التعقّد المجتمعية والاقتصادية والسياسية بلا مكابح أو أفق، ما قد يضع الشمال أمام تفكك مجتمعي حاد واختلال ديموغرافي لمصلحة العرب وفجوات في أنظمة الكيبوتسات والقرى المجتمعية التي تشكل %71 من مستوطنات المنطقة الشمالية، على أن إسرائيل هذه أدركت منذ فترة ليست قريبة أنها خسرت الشمال أمام جمهورها. المسألة الآن في أن الطريق إلى استعادته تقع بين لغمين كلاهما متفجر؛ إما حرب شاملة مع حزب الله وإما تقبل خسارة الشمال؛ "واجهة منزل إسرائيل".