التفكك يلاحق "الجيش" الإسرائيلي..لا بوادر إنقاذية
لإن حكومة كحكومة نتنياهو يقودها منطق تغليب المصالح، لن تتوقف عن محاولات منع تحكّم "الدولة العميقة" (محكمة العدل العليا) حسب مفهومها، وبالتأكيد لن تفعّل الكوابح لمنع تفكك "الجيش" أو الذهاب نحو الانهيار الشامل
صحيح أن الحقنة المخدّرة التي أعطاها نتنياهو للشارع الإسرائيلي بتجميد "التعديلات القضائية" أعادت معسكر المعارضة خطوة إلى الوراء بترقبٍ ميؤوسٍ لما سينتج من الحوار الداخلي، لكنه بإقالته وزير حربه يؤاف غالانت، يكون قد ضحّى ببقرة "إسرائيل" المقدسة (الجيش)، وساقها من مرحلة فقدان المناعة القومية إلى نقطة اللاعودة، تماماً في اللحظة التي سيدخل فيها بديل غالانت -ممن يرتضيه الائتلاف حارساً للانقلاب القضائي- سيجد الانقسام فرصته الأمثل لإحداث الهزة الكبرى، ليس فقط بين قوات الاحتياط بل سيخترق بسهولة جدار "الجيش" النظامي بأكمله.
في الحقيقة، لم يلتفّ نتنياهو على حصاره إلا بعد التورط في أزمة أكبر، الوزير الذي حال دون امتداد تمرد الاحتياط بتصدّيه لخطة التعديلات القضائية خوفاً على "المصلحة القومية العليا"؛ أُطيح خارج سرب الائتلاف، في محاولة من نتنياهو لإظهار نفسه كصاحب المطرقة، فوجد كل من زاحم خطته مسامير.
غير أنه لم يجعل في حسبانه أن تأجيل التعديلات، قد يوقف توسع العصيان في أروقة المؤسسة العسكرية، لكنه لن ينال ثقة الاحتياط، أو يضمن تراجعهم عن قرار رفض الخدمة. كما أنه لن يتمكن من الإتيان بوريث لغالانت يجمع بين النقيضين، ويكون نصيراً للتعديل القضائي كي لا ينهار ائتلافه، وكابحاً له من أجل تماسك "جيشه"، في آن معاً. بالتالي، على نتنياهو أن يتجهز للعودة إلى مربع فقدان السيطرة، ويحمل على ظهره تداعيات الإقالة في الوقت الذي يمر فيه "الجيش" بأزمته الأخطر ضمن "واقع أمني هو الأخطر منذ حرب يوم الغفران"، حسب تصريح رئيس الأركان السابق غادي آيزنكوت، وتراهن فيه الجبهات المعادية على عوامل التدمير الذاتي باحتفاء، وتترصد انكفاء فاعلية "الجيش" وجهوزيته؛ لتحقيق الضربة القاضية.
أما الحديث الآن، فلا يمكن حصره ضمن السياق الأولي بأنه "غير مسبوق"، لعله قد كان من غير المسبوق التخلي عن وزير حرب لتحذيره من دنوّ الأخطار الاستراتيجية وتفكك "الجيش"، لعله أيضاً قد كان من غير المسبوق سقوط "بوتقة الصهر" بعد فشل صمود المناعة القومية للــ"جيش" أمام الاحتراب السياسي الداخلي الإسرائيلي، والتي كان يعوّل عليها بن غوريون عندما صاغ نواة الأيديولوجية الصهيونية بتوليفة تقوم على مبدأ "الجيش" الذي يجمع بين المتناقضات الإثنية والقومية والدينية في الكيان.
حالياً، ما كان "غير مسبوق" تحوّل إلى مركب متشابك من تآكل قوة الردع الإسرائيلية، وتكتل الساحات المعادية، وانقسام هوياتي داخل المجتمع الإسرائيلي. الفرق الآن، أن "الجيش" الإسرائيلي الموكلة إليه مهمة الصهر وتحقيق "الأمن المستمر" لن يستدعي "الكل" الذي وجد من أجله لمواجهة "الأخطار"، لأن مبدأ الدافعية التعبوية يتوقف على مدى انتماء المجنّدين إلى الوطن الذي يمثلونه. مؤخراً، صرّح مسؤول كبير في "الجيش" أن المجنّدين "يشاركون في التظاهرات لأن التشريعات بالنسبة إليهم هي حرب على الوطن، ونحن لا نملك الإجابات".
"رائحة الدم" هذه وصلت إلى "الأعداء" عقب ظهور حالة "رفض" مُعدية امتدت إلى أكثر من 6 آلاف جندي وضابط احتياط، تشمل الوحدات النخبوية الحساسة في قوات الاحتياط، على أن هذه الظاهرة لم تكن لتقرأ في منسوب التهديد من منطلق نظري خاصة مع انتقال تمرد وحدات الاحتياط، أي الكتلة الأكبر في "الجيش" المسؤولة عن الجاهزية والانخراط السريع أوقات الحروب، إلى مرحلة عملية تجاوزت "الرفض" الفعلي.
للاستدراك هنا، إن الانشقاق الأولي في "الجيش" برز مع ظاهرة رفض الخدمة التي تركزت بداية بين اليهود الأشكناز من أصحاب المواصفات العلمية العليا، كسلاح الجو، ووحدة الاستخبارات 8200، وهو ما لم يُر بين اليهود الشرقيين أو المتدينين كوحدة المشاة وألوية "غولاني وجفعاتي وكفير".
على المستوى الأعلى، ظهرت فجوة أخرى تنذر بتفكك حقيقي داخل "الجيش"، بين موقف قيادته العليا التي تتألف غالبيتها من الأشكناز، والقيادة الوسطى الميدانية التي تتألف غالبيتها من الصهيونية الدينية والشرقيين.
في مقابل كل ذلك، يحاصر "الجيش" ألغام المرحلة القادمة، فمن جهة، يسير رئيس الأركان هرتسي هليفي إلى واقع هو لا يؤمن به، سيجد نفسه شاهداً على تغيُّر هوية الدولة "البنغوريونية"، في معركة يرى نفسه فيها وحيداً، قد أوكلت إليه سلسلة تراكمية من الأخطار الداخلية والاستراتيجية، كل هذا ونتنياهو ينسب إليه حسب ما نُقل عن الاجتماعات المغلقة أن: "تنحية غالانت تنبع من العجز في معالجة الرفض"، والمقصود هنا فشل هليفي في ردع تمرد منظومة الاحتياط.
أما بالنسبة إلى وزير الحرب القادم، فمن المفروض أن يقود مؤسسة عسكرية، لا تثق بأهليته، أو تتوافق مع توجهاته اليمينية المؤيدة للتشريع القضائي. بصرف النظر عن البديل القادم من الليكود، فإن عليه التعامل مع مهمة شبه مستحيلة تفوق ما صارعه غالانت بكثير.
على ذلك، إن الركون إلى تَغيُّر المعطيات، لا يكون في حاضر مشبع بعناصر التهديد، وتحديداً مع سير معادلات التأزم بقوة نحو هذه العناصر. إذ يواجه "الجيش" حالياً، شللاً في الجهوزية والتدريب، وغياب الخطة الجديدة التي كان من المقرر صوغها مع القادة، لكنها ألغيت بقرار من رئيس الأركان. بالتزامن مع أزمة انخفاض دافعية الخدمة العسكرية، وبالأخص في الوحدات القتالية. فبحسب القناة الـ 12، يواجه أحد أهمّ ألوية النخبة؛ لواء غولاني، تراجعاً في "امتثال جنود الاحتياط بالتدريبات العسكرية بعشرات النِّسب المئوية"، كما تنذر أقوال المرشحين للخدمة في هذا اللواء بمفعول عكسي على الفوج القادم، خاصة وأن أهالي المجندين سيتصدون لمنع أولادهم من التجنيد في الوحدات القتالية في حال تمرير الإصلاحات القضائية، وهذا ما سيؤدي، حسب تحذير القناة، إلى "تغيير وجه الجيش".
حتى قبل زلزال الغضب الجماهيري بساعات، سجل لواء احتياط 551 (لواء مظلي النخبة)، تراجعاً في نسبة المشاركة في التدريبات من 90% إلى 57%، وكذلك الأمر بالنسبة إلى سلاح المشاة (الوحدة 98). ما دفع بقائد المنطقة الوسطى في "جيش" العدو اللواء يهودا فوكس، إلى فحص بيانات الالتزام في وحدات الاحتياط، نظراً إلى أرقام الحضور "المقلقة".
ولإن حكومة كحكومة نتنياهو يقودها منطق تغليب المصالح، لن تتوقف عن محاولات منع تحكّم "الدولة العميقة" (محكمة العدل العليا) حسب مفهومها، وبالتأكيد لن تفعّل الكوابح لمنع تفكك "الجيش" أو الذهاب نحو الانهيار الشامل، لذا فإن الأزمة لم تنحسر، بل "إن الأزمات في عالم بنيامين نتنياهو لا تنتهي بل تتبدل" طبقاً لصحيفة "هآرتس"، وما تراجع نتنياهو إلا لشراء الوقت، وعليه فإن مسألة الانفجار تبقى قيد التأجيل، أو قد " تجد إسرائيل نفسها في غضون أيام، في معركة واحدة أو متعددة الساحات، أضعف وأكثر انقساماً من أي وقت مضى" كما يرى المحلل العسكري يوآف ليمور.