استفتاء فنزويلا: هل تكون أميركا اللاتينية على شفا الحرب؟

لم تكن مفاجأة في أن قال الشعب الفنزويلي "نعم" لضمّ الإقليم. وسيعزّز بذلك مصداقية السلطات الفنزويلية في المطالبة بالإقليم باسم "شعبها". وقد تتساوى "نعم" في الاستفتاء بـ "نعم" للحرب.

  • منظر جوي لموقع في جزء من غابات الأمازون المطيرة في غرب غويانا.
    منظر جوي لموقع في جزء من غابات الأمازون المطيرة في غرب غويانا.

لم يعد من الغريب أن ينام الإنسان ليلاً في سلام فيقوم على حرب جديدة في العالم، قريبة كانت أو بعيدة، فإنها ستغيّر الكثير في حياته. لقد أصبح هناك نزوع واضح إلى استخدام القوة والعنف في كلّ المناطق التي تشهد صراعاً دام الانتظار لحلّه بالطرق الدبلوماسية.

وإذا ما كانت دائماً الحرب متربّصة في ظل الدبلوماسية، فقد صار العرف اليوم أن تسبق الحرب أيّ تحرّك دبلوماسيّ، في غياب واضح للفاعلية لدى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الذي تسيطر عليه القوى الكبرى، والتي غالباً ما تكون سبباً في جذور الصراع نفسه. 

أغلب النزاعات في العالم، خاصة بين الدول الجارة لبعضها، تعود لفترة ما بعد الاستعمار. فما إن يغادر الاستعمار أرضاً حتى يغيّر في حدودها، ويترك مناطق رمادية تنتج عنها نزاعات ستدوم بعده لعقود عديدة، فيعود المتنازعان إليه مرة أخرى، وهناك يُحكم المصيدة، فيظلّ يتلاعب بالطرفين ويطيل الصراع لكسب مصالحه والحفاظ عليها.

ومن بين المناطق التي تعرف نزاعاً والذي دام أكثر من قرن "منطقة إسيكويبو"، ما بين فنزويلا التي تطالب بها كجزء من ترابها وغويانا التي يوجد الإقليم اليوم ضمن حدودها.

ظلت كاركاس ترفع صوتها منذ عدة أسابيع حول موضوع إيسيكويبو. لقد كاد النزاع الحدودي بين فنزويلا وجارتها الشرقية أن يُنسى قبل أن يعِد الرئيس نيكولاس مادورو مواطنيه بـ "استعادة" إيسيكويبو. 

ونظّم نيكولاس مادورو، الرئيس الفنزويلي، استفتاءً في 3 كانون الأول/ديسمبر 2023 لضمّ هذه الأراضي. مما ينذر بحرب دموية قد تطال العديد من الدول التي قد تتدخّل كالبرازيل، ناهيك عن الولايات المتحدة الأميركية، فرنسا، وبريطانيا المستعمر القديم الذي يتحمّل المسؤولية التاريخية في هذا الصراع. 

إقليم إسيكويبو موارد لا تنتهي

ليس هناك أي مبالغة إن قلنا إنّ هذا الإقليم يمكن أن يعتبر "إل دورادو" حقيقياً بالنسبة للمنطقة. تبلغ مساحة إيسيكويبو 159500 كيلومتر مربّع، وتغطيه الغابات الاستوائية، ويسكنه نحو 125 ألف شخص. صحراء خضراء تزخر تحت الأرض بالغاز والنفط والذهب والماس والنحاس والبوكسيت والحديد والألمنيوم. وكما يقال: "شمس فنزويلا تولد في إيسيكويبو"، لكن "إيسيكويبو تنتمي إلى غويانا". ويبلغ عدد سكان غويانا أقلّ من مليون نسمة، وتمثّل إيسيكويبو أكثر من ثلثي أراضيها، وهي الدولة الوحيدة الناطقة باللغة الإنكليزية في أميركا. 

أصبحت مطالبة فنزويلا أكثر إلحاحاً منذ اكتشاف النفط في إيسيكويبو من قبل شركة إكسون موبيل الأميركية في عام 2015. ولكن تمّ الوصول إلى نقطة الانهيار في الشهر الماضي، بعد اكتشاف كمية كبيرة من الذهب الأسود في المنطقة المتنازع عليها. وأدى الكشف عن هذا المخزون الجديد، الذي يضيف ما لا يقلّ عن 10 مليارات برميل إلى احتياطيات البلاد، ممّا يجعلها أعلى من احتياطيات الكويت، إلى إثارة غضب كاراكاس، التي تتهم بانتظام رئيس جويانا، محمد عرفان علي، بالتبعية لشركات النفط الأميركية.

الجذور التاريخية للصراع

الفهم الدقيق للحاضر يعتمد وبشكل كبير على قراءة الماضي، فالتاريخ سلسلة مترابطة، حلقاتها ملتحمة لا تعرف كسراً. لقد اعتبرت الأزمة الفنزويلية عام 1895 ذروة المواجهة الطويلة بين المملكة المتحدة وفنزويلا حول أراضي إيسيكويبو وغويانا إسكويبا، التي اعتبرتها الأولى جزءاً من غويانا البريطانية، والتي اعتبرتها الأخيرة جزءاً من أراضيها.

لجأت فنزويلا، المستقلّة منذ عام 1811، إلى حكومة الولايات المتحدة التي أعلنت في ذلك الوقت مبدأ مونرو الرافض لتدخّل القوى الأوروبية في أميركا للدفاع عن قضيتها، وهكذا تمّ تشكيل لجنة تحكيم في عام 1899 في باريس، اثنان من الأميركيين يمثّلان المصالح الفنزويلية ضدّ رجلين إنكليزيين بتوجيه من قاضٍ روسي. فتقرّر أن تعود الأراضي الواقعة غرب إيسيكويبو إلى المملكة المتحدة. تمّ القبول بالحلّ وكلّفت لجنة مختلطة بترسيم الحدود على الأرض.

وتعتقد غويانا أن الحدود بين البلدين تعود إلى حقبة الاستعمار الإنكليزي وأنه تمّ التصديق عليها عام 1899 من قبل محكمة التحكيم. وقد ناشدت البلاد محكمة العدل الدولية، أعلى هيئة قضائية في الأمم المتحدة، للمصادقة على قرارها.

وتصرّ فنزويلا على أن نهر إيسيكويبو يجب أن يكون الحدود الطبيعية، كما حدث في عام 1777 خلال فترة الإمبراطورية الإسبانية. وتعتقد كاراكاس أن المملكة المتحدة منحت نفسها الأراضي الفنزويلية في القرن التاسع عشر، وأن اتفاقية جنيف الموقّعة عام 1966 قبل استقلال غويانا تضع الأسس لتسوية تفاوضية يجب أن تستمرّ.

ففي عام 1963، مع تحرّك مستعمرة غويانا البريطانية نحو الاستقلال، سُمعت أصوات في فنزويلا تطالب بعودة هذه المنطقة إلى السيادة الفنزويلية، وتحثّ الحكومة على التحرّك قبل استقلال غويانا. وأعلنت الحكومة الفنزويلية حينها بُطلان التحكيم، معتبرة أن الأميركيّين لا يمثّلون بلادهم، وأنّ هناك عيوباً إجرائية وتفاهماً بين الطرفين، مشيرة بذلك إلى لجنة تحكيم 1899.

استفتاء 3 كانون الأول/ديسمبر: هل هو توطئة للحرب؟

ومع تجدّد التوترات، التي دفعت فنزويلا إلى تنظيم استفتاء يوم الأحد في 3 كانون الأول/ديسمبر. فهل من الممكن أن تتفاوض غويانا عمّا يمثّل 60% من أراضيها؟ خاصة أن المنطقة زاخرة بالموارد الطبيعية، وتعرف كذلك تدخّل العديد من الفاعلين الدوليين في مجال النفط.

 هنا يتضح أنه من الصعوبة أن تحلّ الدبلوماسية بين البلدين نزاعهما على المنطقة. وقد ناشدت غويانا رداً على الاستفتاء، استئناف قرارها أمام محكمة العدل الدولية، وهي أعلى هيئة قضائية في الأمم المتحدة. وطلبت المحكمة إجبار كراكاس على وقف الاستفتاء "بشكله الحالي" بشكل عاجل، والامتناع عن أي إجراء يهدف إلى السيطرة على الإقليم. 

أصدرت السلطة القضائية التابعة للأمم المتحدة رأيها يوم الجمعة، في الأول من كانون الأول/ديسمبر2023، حيث أمرت فنزويلا بالامتناع عن "أيّ إجراء من شأنه تعديل" الوضع الراهن في إيسيكويبو، ولكن من دون الإشارة في الأمر إلى الاستفتاء الذي جرى الأحد. 

ومع ذلك، على الرغم من أن قرارات محكمة العدل الدولية ملزمة قانوناً، إلا أنها لا تملك السلطة لتنفيذها. وهذا ما يجعل التدخّل العسكريّ قائماً وبشدة، وقد بدأنا بالفعل نرى تحرّكات للجيش الفنزويلي الذي قد يتدخّل أثناء وبعد الاستفتاء، ولحماية نفسها من فنزويلا، تقول غويانا إنها مستعدة لاستضافة قواعد عسكرية أجنبية في إقليم إيسيكويبو.

وقد أشارت رويترز كذلك في 29 تشرين الثاني/نوفمبر إلى تحرّك للجيش البرازيلي شمال البلاد، وتمّت الإشارة في بيان إلى أنّ "وزارة الدفاع تراقب الوضع. وتمّ تكثيف الإجراءات الدفاعية في منطقة الحدود الشمالية للبلاد، مما عزّز وجوداً عسكرياً أكبر".

ويجمع الفنزويليون على أن المنطقة المراد ضمّها هي جزء من بلدهم، وتعرّفها المقرّرات المدرسيّة " Zone en reclamacion" " منطقة مطالبة". ويعتبرون أنّ إيسيكويبو هي "الساق الخلفية لوحيد القرن" عندما ترسم خريطة البلاد؛ نظراً إلى أنّ خريطة فنزويلا تأخذ شكل وحيد القرن، وما ينقصه هو ذيله والذي يكمله ضمّ الإقليم. كلّ صباح، في الثكنات، يصرخ الناس قائلين: "تولد شمس فنزويلا في إيسيكويبو". ويصادف شعار "إيسيكويبو لنا" في كلّ مكان، على شاشات التلفزة وعلى الجدران.

لم تكن مفاجأة في أن قال الشعب الفنزويلي "نعم" لضمّ الإقليم. وسيعزّز بذلك مصداقية السلطات الفنزويلية في المطالبة بالإقليم باسم "شعبها". وقد تتساوى "نعم" في الاستفتاء بـ "نعم" للحرب.

نتائج الاستفتاء

وانتهى التصويت بالفوز بـ "نعم"، حيث صوّت أكثر من 95% لصالح الأسئلة الخمسة المطروحة، بحسب ما أشار إليه المجلس الانتخابي الوطني. ورحّب الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو بالنصر "الساحق". وقال: "لقد خطونا الخطوات الأولى لمرحلة تاريخية جديدة في النضال من أجل ما لنا، لاستعادة ما تركه لنا المحرّرون".

وطرح الاستفتاء خمسة أسئلة على الفنزويليين على وجه الخصوص عمّا إذا كانوا يوافقون على عدم الاعتراف باختصاص محكمة العدل الدولية، التي استولت عليها غويانا، ودمج الإقليم في فنزويلا.

وفي يوم التصويت، أصدر العديد من القادة (بمن فيهم نائب الرئيس ديلسي رودريغيز ورئيس البرلمان خورخي رودريغيز) مقطع فيديو يظهر الأميركيين الأصليين في إيسيكويبو وهم ينزلون علم غويانا ويستبدلونه بالعلم الفنزويلي. وكأنّ ضمّ المقاطعة إلى فنزويلا أمر واضح.

وفي غويانا، تشكّلت سلاسل بشرية على طول الطرق في جميع أنحاء البلاد للتعبير عن الارتباط بإيسيكويبو، وغاباتها البكر التي تبلغ مساحتها 160 ألف كيلومتر مربّع (والتي تمثّل ثلثي مساحة البلاد) وسكانها البالغ عددهم 125 ألف نسمة.

ومع ذلك، يريد الرئيس عرفان علي، الذي تحدّث عن الاستفتاء باعتباره "تهديداً وجودياً"، أن يكون مطمئناً. وقال الأحد: "خط دفاعنا الأول هو الدبلوماسية ونحن في موقف قوي للغاية"، مؤكداً أنّ بلاده تحظى بدعم دولي واسع. وأضاف: "لا يوجد ما يدعو للخوف في الساعات أو الأيام أو الأشهر المقبلة". 

وبين الخطاب والخطاب المضاد تظلّ احتمالية أن نرى سيناريو روسيا نفسه مع جزيرة القرم قائماً وبشدة، ولا سيما أن التصويت ينصّ أيضاً على أنّ المواطنين الذين تمّ ضمّهم سيحصلون بالطبع على الجنسية الفنزويلية.