مؤتمر الذكاء الاصطناعي في لبنان: ما بين الحلم والسيادة الرقمية

في بلدٍ أنهكته الأزمات وتكلّست فيه البُنى كلبنان يلوح الذكاء الاصطناعي لا كترف تكنولوجي، بل كأفق نجاة. إنه رهان على العقل، لا على العجائب. وفي زمن باتت فيه السيادة تُقاس بالبيانات لا بالحدود، يُطرح السؤال الجوهري: هل يستطيع لبنان أن يُعيد بناء نفسه رقمياً؟

  • "الروبوتات" كانت حاضرة.. مؤتمر الذكاء الاصطناعي في لبنان: ما بين الحلم والسيادة الرقمية (غرافيك: ندين بدر الدين)

بخطىً ثابتة يسير "الروبوت" في افتتاح المؤتمر، ليس كرمز للتقدم فحسب، بل كاستعارة لحالة لبنان ذاته: بلدٌ يسير بخطى مثقلة بالتحديات، لكنه يحاول – رغم الأعطال المتكررة – أن يثبت أنه قادر على الحركة في فضاءٍ رقمي سريع التطور. هذه الصورة التي افتتح بها المؤتمر الوطني الأول للذكاء الاصطناعي في بيروت لم تكن مجرد مشهد إعلامي، بل ترجمة لرغبة دفينة في إعادة رسم موقع لبنان على خريطة الابتكار.

الذكاء الاصطناعي ليس ترفاً… بل ضرورة وجودية

"كنا نحكي بالمكننة، ورجعنا للرقمنة، واليوم ننتقل إلى الذكاء الاصطناعي"، قال وزير الدولة لشؤون التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي كمال شحادة، في خطابٍ أعاد من خلاله تعريف العلاقة بين الدولة اللبنانية والتكنولوجيا: ليس من باب الحداثة، بل من باب البقاء.

  • وزير الدولة لشؤون التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي كمال شحادة
    رعاية ومشاركة لوزير الدولة لشؤون التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي كمال شحادة

كلمات الوزير أعادت تأطير الذكاء الاصطناعي في سياقٍ سياديّ. فالدولة، بحسب شحادة، لن تنهض إلا عبر تقنيات تعيد هيكلة إدارتها، وتفتح خدماتها أمام المواطنين بشفافية وفعالية. إنها "الجمهورية الرقمية" التي يدعو لبناؤها، في مواجهة جمهوريات ورقية مشلولة.

 في لحظة صدقٍ عاطفية، أعلن رئيس المؤتمر الدكتور حكمت البعيني: "مؤتمر الذكاء الاصطناعي سيكون في لبنان". هذه اللحظة لم تكن إعلاناً رسمياً بقدر ما كانت تحدياً: كيف يمكن لبلدٍ يفتقر إلى الميزانية، والدعم المؤسسي، والجاهزية التشريعية، أن ينظم مؤتمراً من هذا النوع؟

  • كلمة البعيني في افتتاح المؤتمر
    كلمة البعيني في افتتاح المؤتمر

الجواب جاء لاحقاً، لا من المؤسسات الرسمية، بل من شبكة دعم قائمة على الثقة والالتزام. من الدكتورة ديمة جمالي إلى النائب سليمان فرنجية، ومن الدكتور جورج ويلي إلى الدكتور نادر غزال، بدأ البناء من لا شيء. وهكذا، كما يشير البعيني، فإن "اللاشيء" حين يُرفد بالنية والمعرفة والدعم الأهلي، يتحول إلى مشروع وطني.

الذكاء الاصطناعي كرسالة أمل

وبحضور نخبة من الخبراء اللبنانيين والعالميين، شكّل المؤتمر منطلقاً ليس علميًا فقط، بل رمزياً لرسالة الأمل في استعادة الاستحقاق الوطني. البعيني، رئيس المؤتمر، أوضح أن الهدف يتخطى مجال التقنية لينخرط في السياحة والتوعية وفق شعار التضامن الوطني، في محاولة لإيصال الذكاء الاصطناعي إلى مختلف فئات المجتمع.

  • الروبوتات كان حاضرة في الاستقبال أيضاً..
    الروبوتات كان حاضرة في الاستقبال أيضاً..

بدت المقاربة شمولية: الطلاب، رجال الأعمال، الإداريين، والمؤسسات الحكومية، الجميع مدعو بأن يكون جزءاً من هذا التحول الرقمي، بعيدًا عن التخصص والتقنية الضيّقة.

  • الروبوتات كانت حاضرة!
    و داخل قاعة المؤتمر!

الذكاء الاصطناعي كأداة لبناء الدولة

أبرز ما يميز هذا المؤتمر عن غيره من الفعاليات التكنولوجية هو إدراكه العميق بأن الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن ينمو في فراغ. هذا ما شددت عليه وزيرة الإعلام السابقة منال عبد الصمد: "الذكاء الاصطناعي ليس سحرًا، بل أداة. لكنه لا يعمل وحده، بل ضمن بيئة قانونية وتشريعية حاضنة".

  • والباصات الذكية أيضاً..
    والباصات الذكية أيضاً خارج مباني "الميدل إيست" في مطار بيروت

عبد الصمد أعادت تسليط الضوء على فجوة التنفيذ في لبنان، حيث تُكتب الخطط ولا تُطبّق، ويُطلق قانون "الحق في الوصول إلى المعلومات" عام 2017 دون أن يُفعّل. لذا، فإن التحول الرقمي لا يُقاس بالشعارات بل بالخدمات. "إذا طورت كل وزارة خدمة واحدة فقط وجعلتها فعّالة، فهذا إنجاز"، تقول الوزيرة، في نبرة تجمع بين الواقعية والتحدي.

من السيادة الرقمية إلى ملكية الذاكرة

لكن التحوّل الرقمي لا يكتمل من دون بعدٍ سياديّ معرفي. في كلمته، حذر الدكتور يوسف عصفور من مخاطر الاستيراد السلبي للذكاء الاصطناعي. "من يملأ ذاكرة الذكاء الاصطناعي؟" يسأل، مشدداً على أن السيادة الرقمية تبدأ من السيادة على البيانات، لا من مجرد استخدام الخوارزميات.

تحليل عصفور يوازي تحذيرات الباحثة شوشانا زوبوف، التي ترى في الذكاء الاصطناعي شكلاً جديداً من "رأسمالية المراقبة"، حيث تتحول بيانات الأفراد إلى سلعة تُباع وتُشترى وتُستثمر سياسياً. في لبنان، حيث لا قوانين لحماية البيانات الشخصية تُطبّق بصرامة، تصبح هذه المسألة تهديداً وجودياً.

التعليم: البنية التحتية الأكثر هشاشة والأكثر أهمية

من جانب آخر، يشكّل التعليم الميدان الأضعف والأكثر حيوية في آن واحد. الدكتور حاتم سليم، مؤسس AIFirst Center، أشار بوضوح إلى أن الذكاء الاصطناعي لن يُنتج شيئاً إن لم يُزرع في بنية تعليمية ذكية.

سليم، الذي بدأ رحلته في الحوسبة الفائقة منذ 1986، أوضح أن التحدي الأكبر يكمن في البيانات غير المنظمة. لذلك، أنشأ مركزه لتدريب الكفاءات وتطوير التعليم الشخصي، حيث يُكيّف المحتوى مع قدرات كل طالب، بمساعدة الذكاء الاصطناعي.

هذا الطرح يستدعي مقاربة كيفن روز، الذي يلفت دائماً إلى أن الذكاء الاصطناعي لا يحلّ محل البشر، بل يحتاج إلى فهم بشري ليؤدي مهامه بشكل مسؤول. وهنا، لا بد من تدريب الجيل الجديد على فهم الأدوات لا مجرد استخدامها.

من المركز إلى الأطراف: باص الذكاء الاصطناعي!

واحدة من أبرز ابتكارات المؤتمر كانت إطلاق "باص الذكاء الاصطناعي"، وهو مبادرة تنقل المعارف إلى خارج بيروت، إلى طرابلس وصيدا وعاليه والشويفات وغيرها. على متنه، تُعطى تدريبات مكثفة حول أساسيات الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك تمييز المحتوى المزيّف، وحماية الخصوصية، ومهارات تحليل البيانات.

هذه المبادرة ليست فقط تقنية، بل سياسية بامتياز، لأنها تعيد الاعتراف بحق المناطق في أن تكون جزءاً من الثورة الرقمية. إنها أيضًا ترجمة عملية لما تسميه زوبوف "العدالة التكنولوجية": أن لا يكون الذكاء الاصطناعي حكراً على المدن الكبرى والشركات العملاقة.

مجتمع المعرفة لا يُبنى بالشعارات

رغم الزخم الإيجابي، بقيت التساؤلات حاضرة: هل لبنان جاهز فعلاً؟ في مداخلاته، شدد الدكتور البعيني على أن "لا يمكن الحديث عن ذكاء اصطناعي من دون تشريعات واضحة وتعاون بين القطاعين العام والخاص". وهذا يُعيد إلى الواجهة المعضلة البنيوية: لا خطة استراتيجية حقيقية للذكاء الاصطناعي، ولا بنية قانونية تواكب التحول.

اقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي ومصادرة النصوص كيف يؤثر ذلك على عمل المؤلفين؟

ومع ذلك، أكد المشاركون مثل الدكتور نادر غزال "رئيس المجلس الأفريقي والآسيوي للذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني"، على قدرة المجتمع المحلي على التعويض. "يمكن البدء بأنظمة تحليلية صغيرة على مستوى البلدية"، يقول، مشدداً على أن الذكاء الاصطناعي لا يتطلب بنى فوقية فقط، بل إرادة على الأرض.

المجتمع المحلي كمحرّك للتغيير

كما أكد الدكتور نادر غزال أن المجتمعات المحلية ليست متلقياً فقط، بل قادرة على الابتكار. شركات ناشئة صغيرة، شركاء محليون، مشاريع تحليلية تنموية مبنية على البيانات المحلية، وهذا يتطلب من الحكومة تقديم التسهيلات وتشجيع المبادرات من الأسفل إلى الأعلى.

بين الثورة والتمكين: ما الذي يمكن فعله الآن؟

السؤال الأهم الذي يُطرحه بعد انتهاء المؤتمر هو: ما الخطوة التالية؟

من الناحية التقنية، يمكن للبنان أن يبدأ فوراً في تطوير 3 أولويات:

1. حوكمة البيانات: إصدار وتطبيق قانون صارم لحماية البيانات الشخصية.
2. تعليم الذكاء الاصطناعي في المدارس: كمسار مستقل، يدمج بين البرمجة، الأخلاقيات، وفهم الخوارزميات.
 
3. خدمة ذكية واحدة في كل وزارة: كما قالت عبد الصمد، لا حاجة لخطة شاملة تبدأ من الصفر، بل منجزات قابلة للقياس.
ومن الناحية السيادية، لا بد من إنتاج محتوى لبناني يُغذّي أنظمة الذكاء الاصطناعي العالمية، حتى لا نبقى مستهلكين لبيانات وتوجهات تُزرع من الخارج.

ذكاء لبنان… لا مجرد اصطناعي

ما قاله الوزير كمال شحادة يلخّص الجوهر: "نحن بحاجة إلى إدخال الذكاء الاصطناعي في كل ما نقدمه من خدمات". لكن خلف هذا الطموح، تكمن معركة سياسية وإدارية عميقة، لا تُكسب بالتقنيات فقط، بل بالنية، والثقة، والسيادة المعرفية.

المؤتمر كان بمثابة إعلان نوايا: أن الذكاء الاصطناعي ليس حلماً مستورداً من دبي أو وادي السيليكون، بل ضرورة لبنانية نابعة من واقع متعثر، وإرادة صلبة في التغيير.

اقرأ أيضاً: أول كتاب عربي عبر الذكاء الاصطناعي... ماذا بعد؟

وفي نهاية الطريق، قد لا تكون المسألة فقط "كيف نحاكي الذكاء الاصطناعي؟" بل الأهم: كيف نُفعّل ذكاءنا الجماعي، ونستعيد قدرتنا على بناء وطن رقمي، من رماد دولة شبه منهارة؟

اخترنا لك