لغز عمره عقود.. علماء يكتشفون مكان المادة "المفقودة" في الكون
اكتشاف يُنهي لغزاً فلكياً عمره عقود، حيث حدد علماء موقع مادة "الهيدروجين المفقودة" في الكون، بعدما عانى العلماء لعقود من مشكلة ما يسمى "الباريونات المفقودة".
-
أخيراً تم العثور على المادة "المرئية" ولكن المفقودة في الكون
استخدم علماء الفلك الانفجارات الراديوية السريعة، وهي ومضات ساطعة تدوم لأجزاء من الثانية على شكل موجات راديوية آتية من الفضاء، للمساعدة على تتبّع بعضاً من المادة "المفقودة" في الكون.
وذكرت وكالة "ناسا" أنّ المادة المظلمة والطاقة المظلمة تُشكّلان الجزء الأكبر من الكون. فالمادة المظلمة هي مادة غامضة تُسهم في تشكيل بنية الكون، في حين تُعتبر الطاقة المظلمة قوة تسرّع من معدّل توسّع الكون.
ورغم أنّ كليهما لا يمكن رصدهما مباشرة، إلّا أنّ تأثيراتهما الناتجة عن الجاذبية يمكن ملاحظتها.
أما بقية الكون، فيتكوّن من "الباريونات" الكونية، أو ما يُعرف بـ"المادة العادية"، وهي تتواجد في الجسيمات الصغيرة مثل البروتونات والنيوترونات.
For decades, astronomers have been searching for the missing 30–40% of 'normal' visible matter that models tell us should exist in the Universe.
— ESA Science (@esascience) June 19, 2025
But it's not in stars, galaxies, planets or pet cats.
Finally, they've found it 👉 https://t.co/5O1ofV5gjU pic.twitter.com/rvfELgvla7
وفي هذا الإطار، قال ليام كونور، - أستاذ مساعد بعلم الفلك في جامعة هارفارد: "إذا جمعت كل النجوم، والكواكب، والغازات الباردة، التي يمكن رؤيتها بالتلسكوبات، فإنها لا تُشكل سوى أقل من 10% من المادة العادية في الكون".
رغم أنّ علماء الفلك كانوا يعتقدون أنّ غالبية المادة العادية في الكون موجودة في الفراغات بين المجرات، المعروفة بـ"الوسط بين المجرّي"، أو ضمن الهالات الممتدة حول المجرات (مناطق كروية واسعة تحيط بالمجرات وتحتوي على نجوم وغاز ساخن)، إلا أنهم لم يتمكنوا من قياس هذه المادة الضبابية لأنها تُصدر الضوء بأطوال موجية مختلفة، لكن غالبيتها منتشر لدرجة تجعل رصدها كمن يحاول رؤية الضباب.
وأدّى عدم القدرة على رصد نحو نصف كمية المادة العادية في الكون إلى معاناة طويلة عند علماء الفلك امتدت لعقود في علم الكون، أطلق عليها اسم "مشكلة الباريونات المفقودة".
-
المادة المظلمة هي مادة غامضة تُسهم في تشكيل بنية الكون
تمكن كونور وفريقه من رصد المادة المفقودة بشكل مباشر، بواسطة الوميض الناتج عن الانفجارات الراديوية السريعة لرسم خريطة لما كان غير مرئي في السابق. وقد نُشرت نتائجهم بدراسة جديدة في مجلة Nature Astronomy.
شرح كونور - المؤلف الرئيسي للدراسة - أنّ " الانفجارات الراديوية السريعة تخترق ضباب الوسط بين المجرات، ومن خلال قياس مدى تباطؤ الضوء بدقة، يمكننا وزن هذا الضباب، حتى عندما يكون خافتاً جداً لرؤيته".
وقد أُنجز جزء كبير من هذا البحث أثناء عمل كونور مساعداً بحثياً في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (Caltech).
يأمل علماء الفلك في المستقبل أن تساعد هذه الانفجارات الراديوية السريعة في إلقاء الضوء على البنية غير المرئية للكون، ما يمكن أن يُحدث ثورة في فهم العلماء لتوزيع المادة العادية عبر الفضاء الكوني.
ومضات لامعة وانفجارات راديوية سريعة
منذ اكتشافها في عام 2007، تمّ رصد أكثر من ألف انفجار راديوي سريع (FRB). لكن وفقاً لمؤلفي الدراسة، لم يتم تتبع سوى نحو 100 منها إلى مجرّات محددة.
ولا يزال السبب الدقيق وراء هذه الومضات الغامضة غير مؤكّد، لكن رصد المزيد منها قد يكشف عن أصولها المجهولة.
بهدف الكشف عن المادة المفقودة، اعتمد التحليل الجديد على مزيج من الانفجارات الراديوية السريعة التي سبق رصدها وعددها 69 تتراوح مسافاتها من 11.74 مليون سنة ضوئية إلى نحو 9.1 مليار سنة ضوئية من الأرض.
كان الأبعد بينها انفجار يُعرف باسم FRB 20230521B، اكتُشف خلال هذا البحث، ويُعد حالياً أبعد انفجار راديوي سريع تمّ رصده على الإطلاق، بالإضافة إلى ومضات جديدة لم تُشاهد من قبل بدء البحث.
استخدم فريق الدراسة شبكة Deep Synoptic Array، وهي مجموعة مكونة من 110 تلسكوبات راديوية، لتحديد مواقع 39 من هذه الانفجارات.
تقع هذه الشبكة في مرصد أوينز فالي التابع لمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (Caltech) بالقرب من مدينة بيشوب، في ولاية كاليفورنيا الأميركية، وهي مصممة لتتبع الانفجارات الراديوية إلى مصادرها الأصلية.
كما ساعد مرصد (W. M. Keck) في هاواي ومرصد "بالومار" قرب سان دييغو، في قياس المسافات بين تلك الانفجارات والأرض.
أما الـ30 انفجاراً المتبقية، فقد تمّ رصدها بواسطة مرصد أستراليا Square Kilometre Array Pathfinder وتلسكوبات أخرى حول العالم.
عندما تسافر موجات الراديو على شكل انفجارات راديوية سريعة نحو الأرض، يمكن قياس الضوء المنبعث منها بأطوال موجية مختلفة تنتشر وتتوزع أثناء عبورها للفضاء.
يعتمد مدى انتشار الضوء على كمية المادة التي تعترض طريقه.
تمكن فريق البحث من قياس مدى تباطؤ كل إشارة من هذه الانفجارات أثناء مرورها عبر الفضاء قبل وصولها إلى الأرض، ما سمح لهم بكشف الغازات والمادة التي واجهتها في طريقها.
تتأثر الانفجارات الراديوية السريعة بما تمرّ عبره من مادة، ما يعني أنّ الأطوال الموجية المختلفة للضوء تصل في أوقات متفاوتة.
تستغرق الموجات الأطول والأكثر احمراراً (الأقل طاقة) وقتاً أطول للوصول، بينما الموجات القصيرة والزرقاء تصل بسرعة أكبر. ويساعد كل طول موجي علماء الفلك على قياس المادة غير المرئية.
يقول كونور: "النبضات القصيرة للانفجارات الراديوية السريعة مهمة للغاية في هذا النوع من القياسات، لأنها تعمل كمنارات كونية وامضة". ويضيف: "يمكننا قياس مدى تباطؤ النبضة الراديوية بدقة عالية عبر الأطوال الموجية المختلفة، ما يُعرف باسم 'تشتيت البلازما (plasma dispersion) الأمر الذي يتيح لنا فعلياً عدّ كل الباريونات".
ويتابع كونور: "أما النجوم التي تصدر ضوءاً مستمراً أو المصادر التي لا تكون في الطيف الراديوي، فلا يمكننا من خلالها قياس هذا التأثير. يجب أن يكون المصدر نبضياً وقصيراً، وبطول موجي راديوي".
بفضل هذا التأثير، تمكّن الفريق من رسم خريطة للمادة الموجودة في مسار الانفجارات الراديوية وقياسها.
وأوضح المؤلف المشارك في الدراسة، فيكرام رافي، - أستاذ مساعد بعلم الفلك في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (Caltech) - أنّ الأمر يُشبه "كما لو أننا نرى ظل جميع الباريونات، والـFRBs بمثابة ضوء خلفي يسلّط عليها".
بعد تتبع كل الانفجارات الراديوية السريعة والمادة التي عبرت من خلالها وأضاءتها، توصل الفريق إلى أنّ 76% من المادة الكونية توجد على شكل غاز ساخن ومنخفض الكثافة في الفراغ بين المجرات، بينما يُوجد حوالى 15% منها في هالات المجرات، والباقي موجود داخل المجرات ذاتها على شكل نجوم، أو كواكب، أو غاز بارد.
-
توصل العلماء إلى أنّ 76% من المادة الكونية توجد على شكل غاز ساخن ومنخفض الكثافة في الفراغ بين المجرات
أداة كونية حاسمة
تتوافق هذه النتائج المبنية على الملاحظات مع التوقعات السابقة التي استُخلصت من المحاكاة الحاسوبية، بحسب ما أكّده مؤلفو الدراسة.
ووافق ويليام ه. كيني، - أستاذ الفيزياء في جامعة بافالو -، على هذه النتائج، قائلاً: "الخلاصة هي أنهم ابتكروا طريقة جديدة للعثور على الباريونات التي كنّا نعلم بوجودها، لكن السؤال يتمثل بهل هي فعلاً في الوسط بين المجرات أم في الهالات المحيطة بالمجرات"؟
🌌 The Missing Baryon Problem:
— Arjun Rana (@BlackInWhite434) December 28, 2024
Baryons (protons & neutrons) make up all visible matter, but half of them are missing in the universe!
Where are they hiding? Recent hints suggest they may exist as hot gas in intergalactic space, but the mystery isn’t fully solved. pic.twitter.com/9H7Tnjf4Fr
أهمية فهم توزيع المادة العادية
يُساعد فهم كيفية توزيع المادة العادية الباحثين على فهم كيفية نمو وتطور المجرات.
وأشار كيني إلى أنّ " الباريونات تنجذب إلى المجرات بفعل الجاذبية، لكن الثقوب السوداء فائقة الكتلة، والنجوم المتفجرة يمكن أن تدفعها للخارج".
وخلص رافي إلى أنه "يمكن لانفجارات الراديو السريعة المساعدة أيضاً على رسم خريطة مفصلة للشبكة الكونية، التي تتكوّن بشكل رئيسي من المادة المظلمة.
هذا وتخطط مؤسسة كاليفورنيا للتكنولوجيا (Caltech) حالياً لبناء تلسكوب راديو جديد في صحراء نيفادا بأميركا، والذي من المتوقع أن يبني على نتائج الدراسة الجديدة من خلال رصد وتتبع ما يصل إلى 10,000 انفجار راديو سريع سنوياً.
-
علماء الفلك كانوا يعتقدون أنّ غالبية المادة العادية في الكون موجودة في الفراغات بين المجرات المعروفة بـ"الوسط بين المجرّي"