هل نحتاج العاطفة والأنسنة في حديثنا عن الإبادة؟
خرج أناس كثر يحذرون من الإسراف في العاطفة بشأن مشاهد الضحايا في غزة، مؤكدين أن الحرب ذاتها، بكل ما تحمله من دماء ودمار وتهجير، كافية لتحفيز المشاعر الإنسانية. مُبرّرين رأيهم بأن هذه المشاهد تجعل الإبادة جزءًا من "ترفيه مرعب" يُستهلك لحظيًا ويُنسى سريعًا.
-
هل نحتاج العاطفة والأنسنة في حديثنا عن الإبادة؟
يقول الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر: "نحن لا نعيش فقط داخل العالم، بل نعيش من خلاله". قد لا يكون هايدغر قد قصد في هذا القول التغطية الإعلامية أو التفاعل مع الأحداث المعاصرة، لكنه بلا شك أشار إلى ضرورة تفاعلنا مع الأحداث التي تمسّ الإنسانية، وحاجتنا المُلحّة للتعبير العاطفي عمّا يجول في دواخلنا. هذا التفاعل لا يقتصر على إعمال العقل والحدس، بل يشمل العاطفة التي تمنحنا القدرة على التواصل مع الآلام والأوجاع التي لا يمكن أن تُفهم بالعقل وحده.
إن الإبادة المتواصلة في قطاع غزة، بأبعادها الإنسانية الكارثية، هي نقطة التماس بين العقل والعاطفة، وبين الحقيقة المُرّة وبين قدرة الإنسان على تأمّل وعيش هذه الحقيقة. ففي هذا السياق، لا يمكن فصل ما نراه ونسمعه من صور وفيديوهات تتناقلها وسائل الإعلام عن تأثيراتها العاطفية على الجمهور، ولا يمكننا تجاهل الحاجة إلى "الأنسنة" في سردية الإبادة.
فما تعرضه شاشات الإعلام من مشاهد مؤلمة وغامضة لا يعكس فقط حجم الدمار، بل يدفعنا أيضًا إلى إعادة التفكير في كيفية تفاعلنا مع هذه الصور. نحن لا نواجه فقط بيانات جافة عن الأعداد، بل نعيش ونشعر بتلك التجارب الإنسانية في أبعادها العميقة، فنحاول أن نجد تلك الومضة الإنسانية التي تميزنا ككائنات بشرية.
خلال الستة عشر شهراً من الحرب والإبادة، المتخمة بمئات الألوف من الصور والفيديوهات التي تثير مشاعر الحزن، كان التفاعل العاطفي والعقلي يتصارع على الساحة، مما يعكس الأبعاد الإنسانية للمأساة. لقد تجلت تلك المعركة بين العقل والعاطفة، حيث ارتفعت أصوات تبرر الحاجة إلى الابتعاد عن العاطفة المفرطة والاتجاه نحو سرد الحقائق المجردة، وأصوات أخرى ترى أن العاطفة هي من تعطي هذه الحقائق لونها البشري.
تتفاوت ردود الأفعال مع ما تعرضه وسائل الإعلام من صور قاسية ومؤلمة، هي أصل الميدان وعمقه وحقيقته. وقد ظهر في هذا السياق جدل مستمر حول ما إذا كان من الأفضل "الأنسنة" عبر العاطفة أم من خلال المنطق البارد الذي يعرض الحقائق بدون أي تحريف أو تلاعب.
على أحد الجوانب، كان هناك من يحذر من الإسراف في العاطفة، مؤكدين أن الحرب ذاتها، بكل ما تحمله من دماء ودمار وتهجير، هي كافية لتحفيز المشاعر الإنسانية. هؤلاء رأوا أن الفيديوهات التي تُروج لمشاهد مأساوية مصحوبة بموسيقى حزينة "تلوث الحقيقة"، وتحولها إلى عرض مسرحي يمسح الجوانب الحقيقية للألم، ويؤدي إلى حالة من التبلد والشعور بالعجز. إن هذه المشاهد، بحسب هؤلاء، تجعل الإبادة جزءًا من "ترفيه مرعب" يُستهلك لحظيًا ويُنسى سريعًا. هذا النقد لا يخلو من وجهة نظر، حيث يعبر عن القلق من أن تضاف صورة الألم إلى "سوق الصور" التي تُستهلك وتُفرغ من معناها.
لكن من الجانب الآخر، هناك أصوات نشطاء ومؤثرين اجتماعيين يرون أن العاطفة هي المحرك الأساسي للتغيير والتحفيز. فهم يعتبرون أن "الأنسنة" لا تقتصر على سرد الوقائع المجردة، بل تتجسد في قدرة الإنسان على نقل معاناته بطريقة تمنح للألم وجهاً إنسانياً عميقًا. في هذا السياق، لا تكمن الأنسنة في موسيقى الحزن فقط، بل في تسليط الضوء على قصص فردية تُظهر كيف أن الحرب تمزق عائلات بأكملها، وتسلط الضوء على أفراد تتشابك آمالهم وآلامهم مع قضية أكبر بكثير من حياتهم.
من أبرز الأمثلة على هذا، نجد قصة "روح الروح"، الجد الفلسطيني الذي واجه الحرب بخجل وحزن، لكنه تمكن من نقل تلك العواطف للآخرين عبر علاقته بحفيدته، وجعل من صبره وسيلة لاحتواء المعاناة الجماعية. في هذا السياق، نجد أن الأنسنة تكمن في تلك القصص الإنسانية التي تُعرض، حيث يتم نقل معاناة إنسانية من خلال اللحظات الأكثر خصوصية، مثل آخر كلمات لأب يودع أبناءه.
أيضًا، لا يمكن أن ننسى الصورة المدمرة التي تنقلها لنا الطفلة "هند رجب"، التي تترك خوفها، وجلها، وحدتها، لتصبح رمزًا للمعاناة في كل طفل لا يملك خيارًا آخر سوى أن يصبح ضحية لحرب لا يعرف سببها. إن هذه الصورة العاطفية هي التي تثير الهمم وتدفع الناس للوقوف ضد هذه الإبادة. كما تُظهر صور الأطفال الذين فقدوا أطرافهم قبل أن يتعلموا المشي، أو الضحايا الذين ماتوا تحت الأنقاض، والأطباء الذين عُرفوا بمساندتهم الإنسانية قبل أن تُفجعهم آلة الحرب.
وفي هذا السياق، تبرز جملة من "الحرب والسلام" لليو تولستوي التي تقول: "حذاء للبيع لطفلٍ لم يستخدمه قط". جملة مختصرة لكنها شديدة القسوة، تعكس كيف يمكن للدمار أن يجعل من كل شيء في الحياة غير ذي معنى، حتى أبسط الأشياء مثل الأحذية التي كانت تُعتبر من ضروريات الحياة اليومية، يصبح لها سعر في عالمٍ يذوي بسبب العنف. هذه الجملة التي كتبها تولستوي في وقت لم يكن فيه يشهد مآسي الإبادة الحالية، تبقى حية اليوم في غزة وفي كل منطقة تُجبر فيها الإنسانية على مواجهة نفسها في ظل دمار لا يُمكن تحمله.
إنّ هذه المشاهد، وإن كانت مؤلمة، فهي ضرورية لفهم المعاناة الإنسانية بشكل أعمق. إن العاطفة والأنسنة لا تعني فقط تضخيم الألم أو عزل المشاهد من سياقها الواقعي، بل هي دعوة لنا لإدراك أن هذه المعاناة ليست مجرد أرقام وأحداث تاريخية، بل هي قصة إنسانية حية تحتاج إلى تقدير واحترام. فحينما نواجه الإبادة، فإن العاطفة التي نختبرها وتلك القصص الإنسانية التي تلتقطها العدسات لا تجعل من الحدث مجرد مأساة تاريخية، بل تبرز إنسانيتنا المشتركة وتدفعنا لتمثل دورنا في التأثير على مسار الأحداث.
الأنسنة والعاطفة هنا ليست ترفًا فكريًا، بل هي ضرورة لفهم التفاعلات الإنسانية في خضم الإبادة. فالإبادة لا يمكن أن تُفهم فقط من خلال المنطق الجاف للدمار، بل يجب أن تُفهم أيضًا من خلال المشاعر التي تصاحب هذا الدمار، من خلال لحظات الألم، الفقدان، والصمود. إن "الأنسنة" هي الطريقة التي نعيد بها تشكيل الحقيقة من خلال أبعادها الإنسانية، والتي تدفعنا لتحمل المسؤولية الجماعية، والاعتراف بأننا جميعًا جزء من هذه المأساة.