ميساك بدروسيان.. صانع الفخار الأخير في الجزيرة السورية

برغم حالتها المتردية وقِدَم الآلات الموجودة داخلها، إلا أن ورشة عائلة بيدروسيان هي آخر ورشة لتصنيع الفخار في المنطقة الشرقية في سوريا.

0:00
  • ميساك بدروسيان.. صانع الفخار الأخير في الجزيرة السورية
    ميساك بدروسيان.. صانع الفخار الأخير في الجزيرة السورية

في محله الصغير على أطراف مدينة القامشلي أقصى الشمال الشرقي من سوريا، يجلس ميساك بدروسيان أمام طاولة صنع الفخار، وهو يحرّك بقدمه عجلة آلة التدوير، تمهيداً لصنع واحدة من التحف الفخارية التي لا يوجد مثيل لها في عموم الجزيرة السورية، فالرجل الثمانيني يُعتبر الوحيد في المنطقة الذي يعمل بهذه المهنة حالياً.

بكثير من التأني والصبر، يُمرّر المعلم ميساك أصابع يديه الخبيرتين فوق العجينة الطينية؛ يبللها بالماء تارةً؛ ويعيدها إلى العجينة تارةً أخرى، في حين تلعب عجلة الدوران دوراً رئيسياً في الوصول إلى شكل التحفة الفخارية المُراد صنعها، وعندما تأخذ العجينة شكلها النهائي يُدخلها إلى فرن الشواء لمدة زمنية محددة، قبل أن تخرج تحفة فنية مشغولة بطريقة فريدة، لتوضع في النهاية إلى جانب بقية التحف الموجودة على رفوف محل المعلم ميساك.

الحفاظ على الموروث العائلي

يروي بدروسيان للميادين نت كيف لجأت عائلته إلى مدينة القامشلي هرباً من بطش العثمانيين في بداية القرن الماضي، تاركين خلفهم كل ما يملكون في تركيا، وكيف أنهم لم ينقلوا معهم إلى سوريا سوى المهنة التي توارثوها لعدة أجيال؛ ويقول بدروسيان: "لدى وصول عائلتي إلى القامشلي كانت صناعة الفخار من المهن المهمة في حياة الأهالي، حيث كانت تتركز على صناعة الجِرار الكبيرة لتعبئة المياه من الأنهار والآبار الموجودة، إضافة إلى صناعة المزمّلة وهي عبارة عن وعاء فخاري لتبريد المياه في ظل عدم وجود الكهرباء آنذاك".

"هذه المهنة تحتاج إلى الصبر والإتقان والمحبة، لإبراز تفاصيلها الفنية التي تميزها عن سواها"، يتابع بيدروسيان حديثه ويؤكد أن تلك التفاصيل هي التي دفعت العائلة للتمسك بهذه المهنة والحرص على توريثها عبر الأجيال، ويقول: "متطلبات مهنة صناعة الفخار لم تتطور كثيراً، فالدولاب الخشبي لا يزال يستخدم حتى وقتنا الحاضر، ويتم اختيار مادة العجينة من تراب التلال التي تقع شمال مدينة القامشلي، وتحديداً من منطقة "الهلالية" القريبة من الحدود التركية، وهذه الأدوات موجودة لدى جميع العاملين في مجال صناعة الفخار، لكن ما يميّز أحدهم عن الآخر هو الحب والإبداع، لذلك تختلف قيمة القطعة من محل إلى آخر حسب درجة الإتقان في العمل والوقت اللازم لإنجازها".

يسهب المعلم بدورسيان في حديثه عن مهنة صناعة الفخار وكيف تنقّل خلال فترة شبابه إلى مدينة الحسكة ومن ثم إلى "البصيرة" بريف دير الزور، ليعود بعد ذلك إلى القامشلي ويستقر فيها، موضحاً أن منتجاته كانت تغطي حاجة مدينة الحسكة وجزءاً من المحافظات المجاورة، ولكن مع دخول سنوات الحرب تراجعت هذه الصناعة بشكل كبير، وأغلقت العديد من الورشات ليتفرّد المعلم بدروسيان في المنطقة.

ويشير إلى عدة عقبات واجهت عمله خلال سنوات الحرب أهمها صعوبة تأمين مستلزمات العمل في بداية الحرب كالكهرباء والماء والتربة الخاصة بهذه الصناعة، وفي هذا الاتجاه أكد بيدروسيان أن الكثير من العاملين في صناعة الفخار تعرّضوا لإطلاق نار من قبل حرس الحدود التركي أثناء جمعهم التربة في منطقة "الهلالية" المتاخمة للشريط الحدودي مع تركيا، وهذا الأمر تسبب بتراجع الإنتاج إلى الحدود الدنيا، ليُصبح التصريف مقتصراً على مدينة القامشلي ومحيطها.

الورشة الأخيرة في الجزيرة السورية

  • ميساك بدروسيان.. صانع الفخار الأخير في الجزيرة السورية

مع بداية الحرب في سوريا واجهت العديد من المهن في المنطقة الشرقية صعوبات كبيرة، سواء من الناحية الاقتصادية أو حتى من جانب الوضع الأمني، حيث اضطر الكثير من الأهالي إلى السفر خارج البلاد أو الانتقال إلى محافظات أخرى، ولأن العاملين في المهن اليدوية عددهم قليل نسبياً، فقد ساهمت الأزمة في اندثار عدد من المهن، وكانت صناعة الفخار واحدة من المهن المهددة بالاندثار شمال شرق سوريا، إلا أن ميساك بيدروسيان أصرّ على البقاء في القامشلي رغم كل شيء، وعمل أيضاً على توريث هذه المهنة لأبنائه.

بالقرب من المعلم ميساك يقف ابنه "أنطو" الذي بدأ بتعلم المهنة من والده قبل ثلاثين عاماً، وبات اليوم يتقنها بشكلٍ كامل، لذلك فإن "أنطو" يحمل العبء الأكبر من العمل داخل المحل، بعد أن تقدم والده بالعمر، وأصبح غير قادر على الجلوس لفترات طويلة؛ "العمر إلو حقو وأنا ختيرت"، يقولها المعلم ميساك بحسرة والألم يعتصر وجهه، لكنه يستدرك: "المهم أنني استطعت الحفاظ على هذه المهنة، وكلّي أمل أن يفعل ابني الأمر نفسه"؛ يقاطعه ابنه "أنطو" بجملة واحدة: "لن أهاجر".

الكثير من الأرمن هاجروا مع بداية الأزمة السورية إلى بلاد الاغتراب نتيجة ظروف الحرب، لكن "أنطو" يؤكد للميادين نت: "هنا وطني وأهلي وأصدقائي، الرزق ماشي على الله؛ بالتأكيد ليس كسابق عهده، وأنا لا أقبل أن أذهب إلى الغرب لأصبح أجيراً أو عاملاً بغير مهنة؛ مهنتي مصدر فخري فهي إرث عائلي قبل أن تكون مصدر رزق، وكما ورثتها من والدي، سأحرص عند زواجي أن أورثها لأولادي فيما بعد".

وبرغم حالتها المتردية وقِدَم الآلات الموجودة داخلها، إلا أن "أنطو" أشار إلى أن ورشة عائلة بيدروسيان هي آخر ورشة لتصنيع الفخار في المنطقة الشرقية، ووجه دعوة إلى المنظمات الإنسانية العاملة في المحافظة أو الجمعيات التي تعنى بالحفاظ على الموروث المادي لتقديم يد العون من أجل ترميم بنائها المتهالك، وتقديم بعض المعدات التي تساعدهم على الاستمرار في عملهم من أجل الحفاظ على هذه المهنة التاريخية".

رحلة هجرة عمرها أكثر من 100 عام

خلال الفترة بين عامي 1915-1925، لجأت عشرات العوائل الأرمنية الهاربة من مذابح العثمانيين إلى مدينة القامشلي الوليدة حديثاً آنذاك، حيث كانت المدينة خاضعة للاحتلال الفرنسي، ولم يكن الواصلون الناجون من المذابح يملكون شيئاً سوى مهاراتهم المهنية اليدوية، والتي ساهمت فيما بعد برسم وجه مدينة القامشلي الجميل مع باقي أبناء المنطقة من عرب وكرد وسريان.

وبرغم فداحة المأساة ولوعة التهجير وتعب المطاردة وألم اللجوء، إلا أن غالبية العوائل الأرمنية سرعان ما استطاعت التأقلم مع الوضع المعيشي الجديد، وبدأت بوضع موطئ قدم لها، لتساهم تلك العائلات مع نظيراتها السورية في نهضة المدينة، التي كانت عبارة عن بيوتات صغيرة مترامية، قبل أن تشهد نهضة عمرانية حقيقية بفضل تعاون أبنائها السوريين والأرمن الوافدين.

ومن هذه العوائل التي تركت بصمتها ليس في مدينة القامشلي وحسب وإنما في منطقة الجزيرة السورية شرقاً وغرباً عائلة بدروسيان الأرمنية، التي كتبت قصة نجاح في الحفاظ على مهنة متوارثة عبر أجيال تعود لما يزيد على 400 عام ،وهي صناعة الفخار والخزفيات، ليشكل هذا الاسم علامة فارقة في محافظات الحسكة ودير الزور والرقة على مدى عقود.

الباحث فاضل عبد الله أوضح للميادين نت أن علاقة أبناء المنطقة الشرقية من سوريا مع صناعة الفخار قديمة، فاللُقى الأثرية التي تم العثور عليها قبل الحرب، تؤكد أن أبناء هذه الأرض عملوا بصناعة الفخار منذ الألف الثالث والرابع قبل الميلاد، مستغلين وجود التربة الطينية المناسبة التي تنتجها التلال ومصبات الأنهار، وتمكن الأهالي من الحفاظ على هذه المهنة حتى يومنا الحاضر.

ويشير عبد الله إلى أنه مع دخول سوريا سنوات الحرب وما رافقها من ظروف أمنية صعبة، بدأت العديد من المهن اليدوية تندثر تدريجياً في المنطقة، حيث هاجر المئات من أصحاب تلك المهن إلى خارج سوريا، بينما تعرّض الباقون لضغوط كبيرة أجبرتهم على الحد من أعمالهم، مع عدم القدرة على تأمين المستلزمات الضرورية للإنتاج، أو العجز عن تصريف المنتجات، ولعلّ أبرز المهن التي تأثرت بالأوضاع الأمنية والاقتصادية هي: صناعات السجاد والبسط اليدوية وبعض الصناعات الغذائية والزراعية اليدوية وكذلك صناعة الفخار اليدوي.

ودعا إلى ضرورة إطلاق حملة توعية واسعة بدور المهن اليدوية وتأثيرها في المجتمع وضرورة الحفاظ عليها، كونها تشكّل جزءاً من الهوية التُراثية المادية الوطنية، ولا بدّ من تقديم يد العون للقائمين عليها من قبل المؤسسات الحكومية المختصّة، في سبيل إحياء ما اندثر منها ومساعدة من يعمل بها إلى اليوم.