عطشى بين نيلين .. السودانيون يحفرون باطن الأرض بحثاً عن مياه الشرب

تكشف أزمة مياه الشرب في الخرطوم الوجه الأكثر قسوة للحرب التي دخلت عامها الثاني، إذ اضطر السكان العالقون إلى حفر باطن الأرض بحثاً عن المياه، بينما ظل آخرون ينتشلونها من المجاري وآبار الصرف الصحي.

  • عطشى بين نيلين .. السودانيون يحفرون باطن الأرض بحثاً عن مياه الشرب
    عطشى بين نيلين .. السودانيون يحفرون باطن الأرض بحثاً عن مياه الشرب

لم يكن أمام يحيى آدم، أحد المواطنين السودانيين العالقين في العاصمة الخرطوم، خيار غير انتشال المياه يدوياً من بئر مخصصة لأغراض الصرف الصحي في الحي السكني، من أجل شربها وطهي الطعام، بعد أن تسببت الحرب في تجفيف منابع المياه، إذ ينقطع الإمداد عن منطقته لأكثر من ثلاثة أشهر متواصلة. 

يواجه يحيى ومئات الآلاف من السودانيين الذين يقيمون في مناطق النزاع المسلح في الخرطوم شبح الموت عطشاً، برغم وجودهم بين النيلين الأبيض والأزرق اللذين يلتقيان في العاصمة الخرطوم، لكن لا يستطيعون الوصول إليها نتيجة انتشار قوات الدعم السريع حولها، وسيطرتها على شركات المياه والكهرباء وتدميرها.

وتكشف أزمة مياه الشرب في الخرطوم الوجه الأكثر قسوة للحرب التي دخلت عامها الثاني، إذ اضطر السكان العالقون إلى حفر باطن الأرض بحثاً عن المياه، في واقع مأساوي يروي فصوله التراجيدية من عايشوه عن قرب خلال مقابلات منفصلة للميادين نت.

ما كان آدم يحيى بحاجة إلى مآسٍ جديدة، فتكفيه حالة الرعب التي ظل يعيشها في منزله بضاحية شرق النيل التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع  شرقي العاصمة الخرطوم، إلى جانب النقص الحاد في الطعام، وبالكاد يحصل على وجبة واحدة في اليوم من جمعيات شبابية تطوعية، إذ نفدت كل مدخراته، وتوقفت مصادر كسبه المالي، فجاءت أزمة المياه لتُعمّق جرحه النازف.

ظل آدم محاصراً بالأزمات المعيشية ونيران الحرب التي التهمت جميع مناحي الحياة في منطقته، لكنه وفق ما يرويه للميادين نت، فإنه لا يملك حيلة لمغادرة منزله، فمنذ اندلاع القتال قبل عام آثر البقاء في بيته؛ لأنه لا يريد التورط في رحلة نزوح غير محسوبة العواقب، خاصة مع انعدام مخيمات إيواء مهيأة في الولايات الآمنة، بينما ترتفع تكلفة المعيشة وإيجار العقارات وغيرها من المصاعب. 

انعدام المسارات 

وينقطع الإمداد المائي عن مناطق واسعة جنوب الخرطوم وشرقه، وفي مدينة بحري شمالي العاصمة السودانية بسبب احتلال الدعم السريع لمحطات إنتاج المياه قبل أن تتعمّد تدميرها، وتسبب انقطاع التيار الكهربائي الناتج من تدمير محطات الإنتاج وشبكات التوزيع بخروج محطات المياه النيلية والآبار الجوفية عن الخدمة، فجميعها يعمل بالطاقة، ولم يتسن تشغيل المولدات الكهربائية الاحتياطية نسبة لشح  الوقود وغلائه.

ويقول مصدر مسؤول في هيئة مياه العاصمة الخرطوم للميادين نت إن معاناة المواطنين في جنوب وشرق الخرطوم وبحري، والذين يعادلون ثلثي سكان العاصمة السودانية، في الحصول على مياه الشرب، ستظل مستمرة نسبة لاستحالة إصلاح أعطال التيار الكهربائي بسبب انتشار قوات الدعم السريع فيها، ومن دون الكهرباء لن يعود الإمداد المائي، بطبيعة الحال.

وباتت أزمة المياه تهدد حياة السودانيين في العاصمة، بحسب ما نقله عضو غرفة طوارئ جنوب الخرطوم (جمعية طوعية) عمر إبراهيم إلى الميادين نت، والذي قال إن "السكان في منطقته يواجهون مصير الموت البطيء بسبب انعدام مياه الشرب، إذ أصبحوا يعتمدون على الشرب من عربات الكارو، مقابل 5 آلاف جنيه، وهي مبالغ طائلة تفوق مقدرة المواطنين في مناطق الحرب، وتشكل عبئاً إضافياً عليهم".

ويضيف أن المواطنين في مناطق الحرب جنوبي الخرطوم، لا يستطيعون تحقيق أي كسب مادي بعد أن توقفت كل أعمالهم، ونفد ما لديهم من مدخرات، وهم يواجهون مصاعب معيشية بالغة، وتتوقف حياتهم على مساعدات تصلهم من أقاربهم في الخارج والمناطق الآمنة عبر التطبيقات المصرفية، إلى جانب وجبات يعدّها متطوعون، فأزمة المياه فاقمت تلك المآسي.

وتابع: "يتواصل انقطاع التيار الكهربائي للشهر الثالث، يعمّ الظلام المنطقة وما صاحب ذلك من توقف خدمات مياه الشرب والاتصالات والإنترنت، ما سيلقي بأعباء جديدة على المواطنين وزيادة فاتورة المعيشة من المياه والفحم والثلج، ومقابلة تكاليف الإنترنت الفضائي "إستار لنك"، ونتيجة الضغط الاقتصادي، اضطر المواطنون إلى البحث عن حلول بديلة للحصول على مياه الشرب من بينها حفر الأرض".

واقع صادم

ونشرت غرفة طوارئ شرق النيل (جمعية طوعية)، مقطع فيديو صادماً على صفحتها الرسمية في "فيسبوك" قالت إنه لمواطنين اضطروا إلى انتشال المياه يدوياً من آبار موجودة في المنازل تحت الإنشاء، ما يعرض حياتهم للخطر من الوقوع في مثل هذه الآبار المكشوفة وغير الآمنة، إضافة إلى احتمال تلوث هذه المياه وعدم صلاحيتها في الطعام والشراب.

وناشدت الغرفة الجهات المعنية بالسماح إلى الطواقم الهندسية بالتدخل لإصلاح العطل الذي أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي، وسبب أزمة حادة في إمكانية الوصول إلى مياه الشرب وعدم عرقلة عملهم، كما ناشدت المنظمات المختصة والجهات الخيرية بالمساهمة في توفير الوقود لتشغيل محطات المياه لإنقاذ المرضى في المستشفيات، وليحصل المواطنون على حاجتهم من مياه الشرب؛ لأن ذلك حق من حقوقهم الأساسية في الحياة.

وتكمل الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع عامها الأول، وما تزال متواصلة بوتيرتها المدمرة، والتي أثرت في البنى التحتية وشبكات المياه والكهرباء، وإلى جانب ذلك، فإنها خلفت نحو 20 ألف قتيل من المدنيين من بينهم نحو 15 ألف قتلتهم قوات الدعم السريع في مدينة زالنجى بسبب انتمائهم إلى قبيلة المساليت الأفريقية، وشردت أكثر من 8 ملايين شخص من منازلهم وهم ظلوا بين نازحين ولاجئين، وفق الأمم المتحدة.

ورغم موجة النزوح العالية،فإنه لا يزال نحو 5 ملايين شخص عالقين في مناطق الصراع في مدن العاصمة السودانية الخرطوم "الخرطوم، بحري، أمدرمان" وهم يئنون تحت وطأة العطش، وشتى ضروب المصاعب المعيشية. 

البحث عن نجاة

عيسى حامد، ظل صامداً في منزله جنوبي مدينة الخرطوم، واستطاع التغلب على كل المصاعب المعيشية، لكنه بات عاجزاً عن مواجهة أزمة مياه الشرب، وبدأ يبحث عن طريق للنزوح؛ لأنه سوف يفقد حياته نتيجة العطش، بحسب ما يرويه بأسى إلى الميادين نت.

ويقول حامد: "لم نترك سبيلاً للحصول على مياه الشرب إلا وسلكناه، حفرنا باطن الأرض داخل منازلنا بلا جدوى، واضطررنا للشرب من المياه الملوثة، فحياتنا باتت مهددة، هناك مياه تأتي عبر عربات الكارو، ولكن سعرها غال، ولا نقدر على شرائها، فليس لدي أي مصدر دخل في الوقت الراهن، فلم يكن أمامي خيار غير المغادرة، فالحياة توقفت هنا".

ولم يتوقف تأثير انقطاع المياه على مسألتي الأكل والشرب، بل امتدت لتلتهم المستشفيات والمراكز الطبية القليلة المتبقية لخدمة السكان العالقين في العاصمة السودانية الخرطوم، وصارت حياة آلاف المرضى على حافة الموت، لا سيما مرضى الفشل الكلوي الذين يعتمدون على مركز بشائر فقط لإنقاذ حياتهم.

وقال مؤيد الطيب، أحد المتطوعين في مستشفى بشائر جنوبي الخرطوم، إن شح المياه وتدهور الإمداد الكهربائي تسببا في تقليص جلسات الغسيل الدموي لمرضى الفشل الكلوي إلى مرة واحدة فقط في الأسبوع، بدلاً من ثلاث مرات لبعض الحالات، الشيء الذي سيؤدي إلى تراكم السموم في أجسادهم، ويؤدي إلى مزيد من التدهور في صحتهم، فالوضع كارثي ويحتاج إلى تدخلات قوية وعاجلة.

وأضاف: "لم يتسنّ تشغيل المولدات الاحتياطية نسبة لغلاء سعر الوقود، فيبلغ سعر غالون الجازولين سعة 4 لترات 100 ألف جنيه، وربما يحتاج المولد إلى برميل في اليوم بمبلغ يتجاوز الأربعة ملايين جنيه، وهي تكلفة عالية تفوق مقدرة مستشفى بشائر الذي يُشَغَّل بجهد طوعي، ومن شباب غرفة الطوارئ وبعض المنظمات، فهناك تدخلات لكنها غير كافية وأقل من الحاجة الفعلية".