المجاعة تقلّص نسبة التبرّع بالدم في مستشفيات غزة

في غزة، أدى الحصار والمجاعة إلى شلل بنوك الدم، ما جعل إنقاذ الجرحى والمصابين مستحيلاً، وسط انهيار النظام الصحي ونقص حاد في المتبرعين والمستلزمات الطبية.

0:00
  • المجاعة تقلّص نسبة التبرّع بالدم في مستشفيات غزة
    المجاعة تقلّص نسبة التبرّع بالدم في مستشفيات غزة

في غزة، لم يعد الدم يجري كما ينبغي، لا في عروق الجرحى، ولا في أنابيب المستشفيات. تحت وطأة المجاعة التي التهمت الجسد الفلسطيني حيّاً، تقف بنوك الدم شبه خاوية، كأنها مرآة أخرى لانهيار الحياة. لم تعد المشكلة في عدد الجرحى، بل في غياب القدرة على إنقاذهم، بعدما صار التبرع بالدم ترفاً بيولوجياً لا يملكه كثيرون، ممن أرهقهم الجوع وأضعفهم الحصار.

فمع كل تصعيد دموي، كانت بنوك الدم تتأهب كجبهة إنقاذ أولى. لكن اليوم، تقف عاجزة أمام نزيفٍ لا يُسعفه أحد. المتبرعون، الذين لطالما كانوا خط الدفاع الأول عن حياة الآخرين، باتوا هم أنفسهم في حاجة إلى الغذاء والدواء والنجاة. إنها غزة، حيث تُمحى الفروق بين المريض والمنقذ، وحيث يُحاصر الأمل كما يُحاصر الجسد.

فتحوّلت المجاعة من مجرّد كارثة إنسانية إلى سبب مباشر في عجز النظام الصحي عن تأمين أكثر ضروريات الحياة: قطرة دم.

يُجسّد الدكتور عبد الله وشاح، رئيس بنك الدم في مستشفى شهداء الأقصى، هذا الانهيار بصوتٍ يقطر عجزًا: "بنوك الدم تُعدّ من أهم الأقسام في المستشفيات، لأنها تخدم المصابين والجرحى ومرضى الثلاسيميا وأمراض الدم بشكل عام، لكننا اليوم نعيش شحًّا غير مسبوقاً".

ويُضيف: "كنا نعتمد على المتطوعين لتغطية وحدات الدم، لكن اليوم، ومع الجوع المنتشر، هناك عزوف واضح عن التبرع بسبب قلة التغذية وضعف الدم العام لدى المواطنين".

الصورة في بنك الدم صادمة؛ فثلاجة التخزين التي كانت تمتلئ سابقاً بوحدات متجددة، لا تحتوي اليوم على أكثر من عشر وحدات فقط. ويُتابع: "هذه الكمية القليلة لا تشمل كل الزمر الدموية، ولا تكفي لإنقاذ مصاب واحد بحالة حرجة".

خلال ثلاثة أيام فقط، لم يتقدّم للتبرع سوى ثمانية أشخاص، في وقت كانت المستشفيات تحتاج يوميًا إلى ما بين 70 إلى 100 وحدة دم. أما اليوم، فلا يتجاوز ما يُسحب يوميًا 15 إلى 20 وحدة، في أحسن الأحوال.

منع وتهالك: أزمة أدوات وموارد

لا يقف النزيف عند حدود ضعف الإقبال الشعبي، بل يمتد إلى داخل بنية النظام الصحي نفسها. تقول الدكتورة صوفيا زعرب، مديرة وحدة المختبرات وبنوك الدم في وزارة الصحة، إن البنية التحتية لبنوك الدم على شفا الانهيار بفعل الحصار ومنع الاحتلال إدخال المستلزمات الحيوية.

"أجهزة نقل الدم، الأكياس الخاصة، ومواد الفحص الدقيقة.. كلها باتت في خانة العدم"، تضيف زعرب، مؤكدة أن الاحتلال منع في الأيام الأخيرة قبل عودته للحرب في 17 آذار/مارس الماضي إدخال شحنة وحدات دم من الضفة الغربية، برغم الحاجة الطارئة لها، خاصة بعد استئناف العدوان.

وتتابع: "نعمل اليوم في ظروف استثنائية تفوق قدرتنا التشغيلية، فمع تزايد أعداد الجرحى يوميًا، اضطررنا إلى تجهيز وحدات الدم يدويًا، وهي عملية تستغرق نصف ساعة لكل وحدة، بعدما كنا نُنجزها خلال دقائق".

تحذيرات متكررة من كارثة دموية

لم تكن نداءات وزارة الصحة في غزة وليدة الأيام الأخيرة، بل تعود إلى الأسابيع الأولى من العدوان، حيث دأبت على التحذير من نقص حاد في وحدات الدم، في ظل الارتفاع المتسارع لأعداد الجرحى من جراء الغارات الإسرائيلية المتواصلة على القطاع.

ووفق بيان صادر عن وزارة الصحة في غزة، فإن أرصدة الدم في المستشفيات أصبحت شبه منعدمة، ومعظم الزمر الدموية، خاصة السالبة منها، غير متوفرة نهائيًا، مما يهدد حياة المئات من المرضى والمصابين بشكل مباشر.

مرضى الثلاسيميا بلا دم ولا غذاء

في ركنٍ من أركان المعاناة المستمرة في غزة، تقف والدة الطفلة ليان الغندور أمام معركة لا تملك فيها سلاحاً. ليان، المصابة بمرض الثلاسيميا، تحتاج إلى وحدة دم كل عشرين يوماً، لكن الأزمة الحالية جعلت تأمينها أشبه بالمستحيل.

تقول والدتها: "كل عشرين يوم لازم أحط لها وحدة دم. بس ما في أكل، لا فواكه، لا لحوم. وجهها شاحب وأصفر، بتصير هزيلة، ما بتلعب مع البنات، حتى لما تطلع على الشارع ما بتركض، بتمشي شوي وتقلي: أنا تعبت".

ما ينقص ليان ليس فقط وحدة دم تنقذ حياتها، بل وجبة مغذية تُمكّن جسدها من الاحتمال، وجزءاً من طفولة مسلوبة في ظل الحصار والجوع. تُتابع الأم بألم: "بدها تاكل، بس ما عنا.. مش موجود". 

نغم تحلم بدم لتعيش

في ممرات المستشفيات التي أرهقها النزيف والعجز، تنتظر نغم أبو هويدي قطرة دم تتيح لها البقاء أسبوعين آخرين. نغم، المصابة بمرض الثلاسيميا، تحتاج إلى عملية نقل دم منتظمة كل أسبوعين، غير أن النقص الحاد في وحدات الدم حوّل هذا الروتين العلاجي إلى حلم يصعب تحقيقه.

ترافقها والدتها ووالدها من مشفى إلى آخر، بحثًا عن أمل مؤجل. وفي حال تعذّر حصولها على الدم، تبدأ معاناتها مع دوار شديد، وانتفاخ مؤلم في الأطراف، وصولاً إلى مرحلة تعجز فيها عن الحركة تمامًا.

المأساة لا تقف عند نقص الدم فحسب، بل تمتد إلى الحرمان من التغذية التي تُعدّ ركيزة في علاجها. تقول أسرتها إن نغم لا تحصل على الحد الأدنى من البروتينات كاللحوم والدجاج والبيض والحليب، ما يُضعف جسدها أكثر، ويجعلها بحاجة إلى الدم بوتيرة أسرع من المعتاد.

في غزة، أمنية نغم بسيطة: "أن تحصل على دم لتكمل حياتها"، لكن حتى هذه الأمنية أصبحت أكبر من قدرة الواقع على تلبيتها.

نزيف لا يُرى

أمام هذه الصور، لم يعد الحديث عن أزمة صحية مجرد لغة تقريرية، بل أصبح وصفًا دقيقًا لمذبحة بطيئة تُنفذ بلا صوت. فالجوع لم يكتفِ بسرقة القوت، بل سلب الناس القدرة على إنقاذ بعضهم البعض، بينما يتوارى العالم عن مشهد غزة وهي تنزف حتى القطرة الأخيرة.

اخترنا لك