من التعددية إلى العزلة: استطلاع يكشف أزمة انتماء عميقة في بريطانيا

أظهر استطلاع حديث أن 44% من البريطانيين يشعرون بأنهم "غرباء" في بلدهم، وسط أزمة اغتراب اجتماعي واقتصادي متفاقمة. النتائج تكشف انقسامًا عميقًا حول الهوية الوطنية والثقة المجتمعية، يتجاوز قضية الهجرة إلى جذور بنيوية أعمق.

0:00
  • من التعددية إلى العزلة: استطلاع يكشف أزمة انتماء عميقة في بريطانيا
    من التعددية إلى العزلة: استطلاع يكشف أزمة انتماء عميقة في بريطانيا

في مناخ اجتماعي يتّسم بتعقيدات متزايدة، كشفت نتائج استطلاع واسع النطاق أجرته مؤسسة "مور إن كومون" عن ظاهرة مقلقة في عمق البنية النفسية والاجتماعية للمجتمع البريطاني: إحساس متنامٍ بالاغتراب والعزلة بين المواطنين، حيث عبّر 44% من البريطانيين عن شعورهم بأنهم "غرباء" في بلدهم، في حين قال 50% إنهم يشعرون بانفصال متزايد عن مجتمعهم. 

تستمد هذه المعطيات أهميتها من سياقها السياسي والاجتماعي الراهن، إذ جاءت بعد تصريحات رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، الذي حذر من أن بريطانيا قد تتحول إلى "جزيرة من الغرباء" إن لم يتم تقليص أعداد المهاجرين. غير أن نتائج الاستطلاع تؤكد أن مسألة الانفصال المجتمعي لا يمكن اختزالها في قضية الهجرة أو التنوع الثقافي فقط، بل إنها تتجاوز ذلك إلى أبعاد بنيوية واقتصادية أعمق.

التفاوت الطبقي: محرّك الاغتراب

بيّنت النتائج أن العامل الاقتصادي هو المحرك الأكثر تأثيرًا في شعور المواطنين بالاغتراب. فقد أشار ثلثا الأشخاص الذين يعانون من ضائقة مالية إلى شعورهم بالانفصال، مقارنة بـ 37% فقط من ذوي الدخول المريحة. وهذا الانقسام يعكس، دون لبس، حجم الانكشاف الاجتماعي الذي تعانيه الفئات الهشة في ظل سياسات التقشف، وارتفاع تكاليف المعيشة، وضعف الحماية الاجتماعية.

ومن اللافت أيضًا أن الشعور بالاغتراب ليس مقتصرًا على البريطانيين البيض، بل إن نسبته كانت أعلى في أوساط البريطانيين من أصول آسيوية، حيث أفاد 47% منهم بأنهم يشعرون كغرباء في وطنهم. وهذا يشير إلى معضلة مركّبة تعانيها الأقليات، تتمثل في الازدواجية المجتمعية بين خطاب الاندماج وممارسات التمييز البنيوي، ما يُرسّخ لديهم إحساسًا بالعزلة لا تزيله التصريحات الحكومية الشكلية.

الوحدة وثقافة الشك

يتوازى هذا الاغتراب الوجودي مع مؤشرات أخرى لا تقل خطورة، أبرزها الارتفاع اللافت في مستويات الشعور بالوحدة. فقد أظهر الاستطلاع أن أكثر من ثلث البريطانيين عانوا من الوحدة خلال عام 2023، وهو رقم يعكس تغيرًا بنيويًا في طبيعة التفاعل الاجتماعي.

وتشير مجموعات التركيز إلى أن هذا التآكل في العلاقات الاجتماعية يُعزى، إلى حد كبير، إلى التحولات الرقمية والتكنولوجية، حيث ساهم العمل عن بُعد، وهيمنة وسائل التواصل الاجتماعي، وتراجع التفاعل الوجاهي في إضعاف الروابط البشرية، وفي خلق أنماط من العزلة الذاتية الطوعية والمفروضة في آنٍ واحد.

يضاف إلى ذلك ما أظهره الاستطلاع من أزمة ثقة عميقة: أكثر من 53% من المشاركين عبّروا عن قناعتهم بأنه "لا يمكن الوثوق بمعظم الناس"، وكانت النسبة أعلى بكثير بين الشباب، إذ بلغت 65% في الفئة العمرية بين 18 و24 عامًا، وهي دلالة على أزمة ثقة تمتد عبر الأجيال وتؤسس لتفكك قيمي عميق.

الانقسام حول الهوية الوطنية

ويعكس الانقسام حول جدوى التعددية الثقافية اضطرابًا في المفاهيم الجامعة للهُوية البريطانية. فقد رأى 53% من المستطلعين أن التنوع الثقافي يمثل قيمة مضافة، فيما اعتبره 47% تهديدًا للهُوية الوطنية. وهذا الانقسام يؤشر إلى غياب السردية الوطنية الموحدة، ويفتح الباب أمام خطاب سياسي قد يتأرجح بين التعددية المشروطة والانغلاق الهوياتي.

في ظل هذا الواقع المأزوم، أطلقت مؤسسة "مور إن كومون" ومجموعة "مواطنو المملكة المتحدة" بالتعاون مع مختبر السياسات في جامعة كوليدج لندن مشروعًا وطنيًا بعنوان "هذا المكان مهم"، يهدف إلى إعادة بناء التماسك المجتمعي من خلال أدوات تشاركية تعيد الاعتبار إلى القيادة المحلية وقوة المبادرات القاعدية.

وأكد ماثيو بولتون، المدير التنفيذي لمجموعة "مواطنو المملكة المتحدة"، أن "الحلول لا يمكن أن تصدر من مكاتب الحكومة المركزية"، مشددًا على ضرورة الإنصات للواقع الاجتماعي المحلي باعتباره المنطلق الأصيل لأي رؤية إصلاحية.

ذاكرة لم تندمل

تُظهر بيانات مجموعات التركيز أن تداعيات أعمال الشغب التي شهدتها المملكة المتحدة العام الماضي ما زالت حاضرة في الذاكرة الجمعية، حيث عبّر البعض عن أن الحكومة استخدمت "قوة مفرطة"، في حين رأى آخرون أن رد فعل رئيس الوزراء كان من "أبرز لحظاته السياسية". تعكس هذه التباينات في القراءة حجم الانقسام العاطفي والمعرفي داخل المجتمع إزاء الدولة ومؤسساتها.

ما تكشفه نتائج هذا الاستطلاع يشير إلى تحولات عميقة في النسيج الاجتماعي البريطاني، تهدد بنية التماسك الوطني وتضع تحديات غير مسبوقة أمام صُنّاع القرار. بريطانيا اليوم لا تواجه فقط أزمة هوية أو توترًا عرقيًا، بل تعيش لحظة انكشاف حضاري تتطلب مقاربات جديدة تتجاوز السطح السياسي نحو العمق المجتمعي والاقتصادي والثقافي.

اخترنا لك