لبنان: مستشفيات البقاع تقاتل باللحم الحي.. لا لوازم طبية والأوكسيجين بـ"الفريش دولار"

تعاني مستشفيات البقاع في لبنان من نقص حاد في المستلزمات الطبية الأساسية. أزمة تهدد بعضها بالإقفال، كما تؤثر سلباً على صحة المواطنين هناك، في ظل صمت الجهات المعنية، بالرغم النداءات المتكررة لإنقاذ القطاع الصحي في المنطقة.

  • لبنان: مستشفيات البقاع تقاتل باللحم الحي.. لا لوازم طبية والأوكسيجين بـ
    لبنان: مستشفيات البقاع تقاتل باللحم الحي.. لا لوازم طبية والأوكسيجين بـ"الفريش دولار"

من داخل غرفة العمليات في مستشفى تل شيحا في زحلة البقاعية (شمال شرق لبنان)، يستنجد طبيب يجري عملية حساسة لأحد المرضى، بإدارته لتأمين "خيط جراحي" بصورة عاجلة.  

تتصل مسؤولة المستلزمات الطبية بالطبيب الجراح، تخبره أن لا إمكانية لذلك؛ لأن هذه الخيوط باتت تحتاج إلى ألف دولار من صندوق المستشفى، الذي لم يعد قادراً على تغطية كل النفقات، في ظل الأزمة الكبيرة المتمثلة بنقص المستلزمات الطبية وغلائها. أزمة نتجت عنها مشاكل جمة تحوّلت إلى مصائب وكوابيس سوداء تطارد البقاعيين على أبواب المستشفيات في المنطقة.

هذه عينة من القصص الحقيقية الموجعة التي تحصل في مستشفيات البقاع. هناك، حيث تضاعف الحرمان، وعشعش في غرف المرضى التي باتت تفتقد لأبسط المستلزمات، من الخيط الجراحي إلى الأمصال، وصولاً إلى الأدوية بينها أدوية الأمراض المزمنة والسرطان، وكلُّ الأجهزة والمواد التي تستخدم في العمليات الجراحية وغيرها الكثير، وذلك منذ أن أطلت الأزمة الأخيرة برأسها عام 2019 في واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية والمالية في العالم، منذ خمسينيات القرن الـ19، بحسب البنك الدولي. 

أوكسجين بـ"الفريش دولار"!

  • تعاني مستشفيات البقاع اللبناني من نقص في المعدات الطبية
    تعاني مستشفيات البقاع اللبناني من نقص في المعدات الطبية

وأنت تجول داخل أروقة مستشفى تل شيحا التابع لمطرانية الروم الكاثوليك في زحلة،  لا يمكنك إلا أن تلحظ وجود عدد كبير من الأسِرَّةِ الخالية في غرفه. 

هذا المستشفى الذي كان قبل الأزمة مقصداً لعدد كبير من المرضى البقاعيين، كونه واحداً من المستشفيات القلة التي لا تبغي الربح إنما خدمة المرضى، وفق ما يؤكد مديره العام جوزيف بستاني، قلّص مؤخراً من عدد أسرته لتصبح 80 سريراً، بعد أن كان يضم 126 سريراً مخصصاً لمختلف المرضى، فيما لا يُشغل منها  سوى 20 سريراً، يقول بستاني للميادين نت عازياً السبب إلى رفض المستشفى استقبال المرضى بسبب نقص شديد في المعدات والمستلزمات الطبية. 

فالأزمة استفحلت بعد توقف الشركات التي تزود المستشفى بهذه المستلزمات، مع إعطائها مهلة لتسديد فاتورتها، أما اليوم، فلا تحصل المستشفى على أيّ منها قبل أن يدفع المبلغ كاملاً وبـ"الفريش دولار"، ويضيف بستاني: "حتى الأوكسجين بتنا ندفع ثمنه بالفريش دولار!".

إذاً، هي أزمة سيولة بالدرجة الأولى، لا أموال في حوزة تل شيحا لتغطية النقص وشراء المستلزمات، إذ يؤكد بستاني في هذا السياق أنه، ومنذ أكثر من سنة، لم يحصل المستشفى على أمواله المستحقة من الدولة اللبنانية الغائبة عن أزمة المستشفيات في البقاع تحديداً.

لا يختلف حال مستشفى بعلبك الحكومي كثيراً عن حال مستشفى تل شيحا. فالوضع هنا "مزر بشكل كبير"، يقول مدير المستشفى الدكتور عباس شكر، ويضيف للميادين نت متأسفاً: "نحن نقاتل باللحم الحي، إذ تمرّ علينا أيام كثيرة نضطر فيها إلى تأجيل عملية جراحية أكثر من مرة بسبب نقص المستلزمات الطبية اللازمة لإجرائها".

هذه المستلزمات تبدأ من الورق والأقلام وتنتهي بمعدات كبيرة في المستشفى: "لدينا نقص كبير بمعدات الأشعة كالسكانر مثلاً، إذ نضطر في كثير من الأحيان إلى نقل المريض إلى مستشفى آخر بسبب هذا النقص، بيد أن هناك مرضى حالتهم الصحية لا تسمح بنقلهم من مكان إلى آخر".

يتابع شكر حديثه معرجاً على أزمة الدواء، لافتاً إلى أن هناك أدوية عديدة مفقودة في المستشفى، منها أدوية التخدير التي يوجد بعضها في السوق السوداء أي بـ"الفريش دولار".

ليس بعيداً من مستشفى بعلبك الحكومي، يعاني مستشفى دار الأمل من أزمة مشابهة، إذ يصعب على إدارتها تأمين المستلزمات الطبية. ويؤكد مدير المستشفى علي علام في هذا الصدد أن المستلزمات الطبية متوفرة، ولكن الحصول على البديل صعب ومكلف جداً، في ظل الارتفاع  الجنوني للأسعار، في حين أن التغطية من الجهات الضامنة لا تشمل سوى جزء قليل جداً من تكلفة الاستشفاء للمريض، الذي لم يعد قادراً على الدفع.

أدوية مفقودة

كأدوية التخدير المفقودة في بعلبك الحكومي، يعاني دار الأمل أيضاً من نقص كبير في أدوية السرطان، يوضح علام للميادين نت، ويضيف قائلاً: "نحن على شفير الهاوية، ما نفعله حالياً هو اللجوء إلى حلول ترقيعية كمحاولتنا استجلاب بعض المستلزمات الطبية من الخارج".

تشتد الأزمة كلما توغلنا في المناطق البقاعية التي تعيش على الأطراف. في الهرمل مثلاً، التي تبعد 143 كلم عن بيروت العاصمة، يوجد 3 مستشفيات أساسية هي: مستشفى الهرمل الحكومي، مستشفى البتول، ومستشفى العاصي، تؤمن للمدينة، فضلاً عن بلدة القاع، مختلف الخدمات الطبية والاستشفائية، لكنها تئن اليوم تحت وطأة الأزمة كغيرها من المستشفيات في البقاع محاولة الصمود بأقل الإمكانيات.

يشكو مدير مستشفى البتول علي شاهين في حديثه إلى الميادين نت من وجود شح كبير في بعض المستلزمات الضرورية لاستمرارية العمل الطبي في المستشفى، ويذكر منها: الخيط الجراحي علاوة على بعض الأدوية كأدوية السرطان، وأدوية البلازما، وأدوية نمو الأطفال وأدوية الالتهابات. كما يلفت إلى افتقار المستشفى لحليب كبار السن الذين لا يقدرون على تناول الطعام بشكل طبيعي. 

أمام هذا الواقع المتردي، شكلت مسألة تأمين البدائل للمستلزمات الطبية المفقودة في المستشفى ولا تزال الهاجس الأكبر لإدارة المستشفى، يستطرد شاهين قائلاً: "نظراً إلى بعدنا عن المدينة، اتخذت الشركات قراراً بأن لا تأتي إلينا، بل نحن من عليه السعي الدائم عبر الاتصالات والتواصل لاستجلاب المستلزمات الطبية منها، مضيفاً: "نسعى بشكل دائم  لتأمين نواقص المستلزمات الطبية حتى من خارج لبنان، خصوصاً أن أهالي المنطقة لا يستطيعون تحمل عبء الاستشفاء المضاعف خارجها".

كلام شاهين يتقاطع مع تأكيد طبيب الأطفال في المستشفى، الدكتور عماد مخ، بأن مشكلة نقص المستلزمات الطبية دفعت بالعديد من الأهالي إلى نقل أطفالهم حديثي الولادة من الهرمل إلى مناطق أخرى، بسبب عدم توافر أجهزة عناية لحديثي الولادة، أو فقدان أجهزة التنفس.

هذه الخطوة لها تبعاتها الطبية على الطفل، لأن ظروف النقل ليست مثالية، فضلاً عن تبعات مالية واجتماعية على الأهل، فالتكلفة مضاعفة، علاوة على التعب النفسي والجسدي، بحسب الدكتور مخ.

لا مستلزمات طبية للأطفال

  • تواجه مستشفى الهرمل الحكومي نقصاً في أدوية التخدير والأمصال وأدوية البلازما
    تواجه مستشفى الهرمل الحكومي نقصاً في أدوية التخدير والأمصال وأدوية البلازما

هذا التعب يطال كذلك الأمر كل الطاقم الطبي في المستشفى، في ظل افتقاره لأبسط المستلزمات لعلاج حالات الأطفال المرضية كحقن الأمصال على سبيل المثال. يبين الدكتور مخ أن هذه الأخيرة باتت تأتي تصل المستشفى مؤخراً على شكل مساعدات لكنها ذات نوعية رديئة. الأمر الذي يجبر الممرض على وخز الطفل أكثر من عشر مرات من دون جدوى فيبقى الطفل المريض من دون مصل، العلاج الوحيد له.

لا يخفي الدكتور مخ قلقه من تبعات فقدان المستلزمات المخبرية والطبية، ويتابع قائلاً: "العديد من الفحوصات فقدت وهي أساسية يومية لأن الشركات لا تستوردها من الخارج، وفي حال توافرها فإن سعرها أصبح بالفريش دولار مثل الإلكترولايت".

المشاكل عينها تعترض الفريق الطبي العامل في مستشفى الهرمل الحكومي، إذ لا قدرة لهذا المستشفى الصغير أن يؤمن مستلزماته الطبية، فلا دعم مالياً من الدولة كما حال جميع مستشفيات البقاع، والدفع بالفريش دولار بات صعباً لتغطية كل النفقات. 

تتحدث رئيسة قسم شراء الأدوية والمستلزمات الطبية في المستشفى الحكومي، الدكتورة رباب عساف، عن نقص في أدوية التخدير والأمصال وأدوية البلازما، لكن المشهد يبدو مقلقاً للغاية في غرف غسيل مرضى الكلى الفارغة بشكل شبه كامل من المستلزمات والأدوية اللازمة لعلاجهم. "في غالبية جلسات غسيل الكلى كنا نضطر الى الإيعاز للأطباء بالاقتصاد بالدواء بسبب شحّه في المستشفى"، تقول عساف.

إذاً، يجمع مديرو المستشفيات في المناطق البقاعية والأطباء العاملون فيها على خطورة الأوضاع المتردية فيها بسبب شح المستلزمات الطبية، فهي لم تعد قادرة على تحمل أعباء شرائها بعد غلائها وفقدان تلك المدعومة منها. أخطر ما في الموضوع يقول البعض هو ملف الأدوية خاصة أدوية الأمراض المزمنة والسرطان.

احتكار الأدوية

لا يختلف اثنان على أنّ النقص الكارثي في الدواء يهدد حياة المرضى، بل أدى فعلياً إلى الموت البطيء لأولئك المرضى الذين انتظروا طويلاً من دون جدوى قبل أن يفقدوا الأمل في إيجاد أدويتهم اللازمة لعلاجهم وبكلفة معقولة.

في هذا السياق، يؤكد النائب السابق الدكتور اسماعيل سكرية للميادين نت أن "لا دواء في السوق مؤمن، أو مؤمن بأسعار خيالية كما تقتضي مصالح المافيا والتجار"، ويضيف قائلاً: "إن أخطر ما فقد هي أدوية السرطان والأدوية المناعية وأدوية التهاب الكبد وأدوية الأمراض المزمنة". 

ويشير سكرية إلى أن هذا الواقع  أدى إلى ارتفاع نسبة تسلل الأدوية غير المسجلة، منها جيد ومنها ما هو غير معروف بسبب عدم وجود مختبر مركزي، ما يعني بطبيعة الحال أن الأمن الدوائي في لبنان مفقود.

بحسب سكرية، فإن "التجار الذين اعتادوا تحقيق  أرباح خيالية لم يبدوا أي استعداد بالتواضع والتضحية ولو جزئياً. هم أخفوا الأدوية من السوق حيث باتوا يبيعونها في العراق وأفريقيا وغيرها ليقبضوا فريش دولار، ولذلك اختفت، علماً بأنها بقيت فترة مدعومة لكنها فقدت". 

هذا الواقع دفع ببعض المستشفيات في البقاع إلى الاعتماد على الدواء السوري، بيد أنه من الصعب استيراد أدوية السرطان من سوريا، ما فاقم من معاناة المرضى في هذه المنطقة، يؤكد سكرية.

ويختم حديثه بإلقاء اللوم على وزارات الصحة المتعاقبة، مؤكداً أنها تحولت في هذه الأزمة إلى مجرد صدى تردد ما يقوله حاكم مصرف لبنان.

بين وزارة الصحة ومصرف لبنان المركزي

  • حسن: وزارة الصحة الحالية بفرقها الطبية والرقابية غائبة عن السمع وغير متعاونة
    حسن: وزارة الصحة الحالية بفرقها الطبية والرقابية غائبة عن السمع وغير متعاونة

في السياق عينه، ردد عدد من مديري مستشفيات البقاع القول بأن وزارة الصحة غائبة عن مشاكلهم في ظل ما يعانونه من شح في المستلزمات الطبية، التي تضعهم يومياً على المحك مع تحديات كبيرة تطال صحة المرضى بالدرجة الأولى، كما تهددهم بالإقفال. ويشير هؤلاء إلى أن ما يزيد الطين بلة هو انخفاض التعرفة، فالدولار يساوي 4000 آلاف ليرة في الوزارة بينما لا يزال 1500 ليرة لبنانية في صندوق الضمان الاجتماعي، الذي لم يعد قادراً على تغطية تكاليف أي استشفاء للمواطنين.

مصادر خاصة للميادين نت كشفت عن تعطيل قرار الاستيراد الطارئ للمستلزمات الطبية بإرادة من الوزير الحالي، والذي ينسف الوكالات الحصرية بموجب قانون صادر عن مجلس النواب. ولفتت المصادر إلى أنّ تعطيل هذا القرار جاء خدمة لكارتيلات وتجار الأدوية والمستلزمات الطبية والوكالات الحصرية. 

بدوره، أكد وزير الصحة السابق والدكتور حمد حسن في حديثه للميادين نت أن وزارة الصحة الحالية بفرقها الطبية والرقابية غائبة عن السمع وغير متعاونة، مشيراً إلى أنه يتلقى يومياً عشرات الاتصالات لحل المشاكل الصحية العالقة في المستشفيات.

ويذهب حسن أبعد من ذلك، مشدداً على أن عدم وجود سلطة رقابة عرّض المواطن للاستغلال من قبل الشركات المستوردة، خاصة في ظل غياب رقابة وزارية على المستلزمات المدعومة وغير المدعومة، وعدم التزام الشركات بقرار الوزير السابق بتحديد سقف الأرباح للشركات المستوردة للمستلزمات الطبية الذي هو الضمانة لصحة المريض وسلامته.

هذه الأرباح باتت أيضاً تتخطى 100% لدى بعض المستشفيات، في ظل غياب الرقابة  من وزارة الصحة، يقول حسن، في حين أن الربح الشرعي لها هو 20% فقط . 

وتمنى حسن أن لا يتحول المستلزم الطبي إلى "بازار بينها وبين الشركات "، مشدداً على أن الواجب الوطني والأخلاقي والإنساني يقتضي الوقوف إلى جانب المريض، وليس "إضافة أرباح وأرقام يعجز المريض عن تأمينها".

يشاطر النائب الدكتور علي المقداد، الوزير السابق الدكتور حسن، الرأي بخصوص الأرباح الطائلة التي تجنيها الشركات والمستشفيات من بيع المستلزمات الطبية، لكنه يعزو السبب الرئيسي في ذلك إلى تخلي حاكم مصرف لبنان عن مسؤولياته في دعم المستلزمات الطبية.

فبلغة الأرقام يحتاج لبنان إلى 25 مليون دولار لشراء هذه المستلزمات، فيما مصرف لبنان وعد بأن يؤمن 20 مليون دولار منها للحفاظ على مواد ذات نوعية جيدة إلا أنه عاد ونكث بوعوده.

هي، إذاً، سياسة كيدية بامتياز يتبعها مصرف لبنان المركزي تجاه ملف الأدوية والمستلزمات الطبية على ما يؤكد المقداد، مشيراً إلى أن عدم دعم هذه المستلزمات وغياب الرقابة ساهما في تهريب الموجود المدعوم منها إلى الخارج وبيعها بالفريش دولار، ويذكر هنا على سبيل المثال، "رصورات" القلب التي هرب الكثير منها إلى الخارج، بلا حسيب أو رقيب.

واختتم المقداد حديثه بالتشديد على أن أموال هذه المستلزمات والأدوية موجودة بالسحب الخاص، وهي عبارة عن مليار و135 مليون دولار "غير معروف مصيرها حتى الآن".

إلى حين معرفة مصير أموال المستلزمات والأدوية المفقودة من السوق اللبنانية، هل تبقى مستشفيات لبنان، ومستشفيات البقاع على وجه الخصوص، تتخبط  وتغرق وسط كل هذه الفوضى والسوداوية، من دون أن تمد لها يد العون لإنقاذ ما تبقى من قطاع صحي آخذ بالانهيار؟