غزة تختنق بعد الهدنة: آلاف الجرحى بلا علاج والمساعدات لا تصل
برغم دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، تواصل "إسرائيل" خنق غزة عبر إغلاق معبر رفح ومنع المساعدات، تاركةً آلاف الجرحى والنازحين يواجهون الموت والحصار بعد الحرب.
-
غزة تختنق بعد الهدنة: آلاف الجرحى بلا علاج والمساعدات لا تصل
برغم دخول اتفاق وقف إطلاق النار في غزة حيّز التنفيذ، والذي نصّ ضمن بنوده على فتح معبر رفح أمام حركة المسافرين، فإن المعبر لا يزال مغلقاً أمام آلاف العالقين والجرحى في القطاع، في مشهدٍ يعكس استمرار سياسة الخنق الممنهج التي تمارسها "إسرائيل" ضد أكثر من مليوني إنسان يعيشون تحت الحصار.
فمنذ أسابيع، تواصل قوات الاحتلال منع إدخال المعدات اللازمة لإزالة الركام وإعادة الإعمار، وتعطيل دخول المساعدات الإنسانية والطبية، في وقتٍ تتزايد فيه معاناة الجرحى والمصابين الذين ينتظرون فرصة السفر للعلاج خارج القطاع وسط تدهورٍ حادٍّ في الأوضاع الصحية.
وبين وعودٍ دوليةٍ لا تُنفّذ، واتفاقاتٍ لا تُطبّق، يعيش الغزيون حصاراً مركّباً: حدودٌ مغلقة، ومساعداتٌ محتجزة، وقلقٌ يتعمّق مع كل يومٍ جديد يُطوى دون حلٍّ قريب، فيما يظلّ السؤال المُلِحّ: إلى متى يستمر هذا الخنق المقصود لحياة المدنيين في غزة؟
وبرغم ما نصّ عليه الاتفاق من التزامٍ بدخول ما لا يقل عن 600 شاحنة مساعدات يومياً، تواصل قوات الاحتلال عرقلة هذا التدفق في خرقٍ صارخٍ للبنود الإنسانية. وحتى هذا العدد، تؤكد الهيئات الدولية والأهلية أنه لا يرقى إلى الحد الأدنى المطلوب بعد الحرب المدمّرة وتجربة التجويع القاسية التي عاشها سكان القطاع.
وفي الوقت نفسه، تراوغ "إسرائيل" في تنفيذ بند فتح معبر رفح وتشغيله بشكل طبيعي أمام حركة الأفراد، لتبقي آلاف الجرحى والمرضى- نحو 22 ألفاً منهم - رهائن الانتظار والعجز عن السفر للعلاج. وتربط سلطات الاحتلال إعادة فتح المعبر بملفّ جثامين الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة، في ابتزازٍ سياسيٍّ يضاعف المعاناة الإنسانية ويجعل من المرضى ورقة ضغطٍ في لعبةٍ لا إنسانية.
وبرغم الهدنة التي وُقّعت لإنهاء دوّامة الدم والحصار، فإنّ الواقع في غزة يكشف أنّ ما تغيّر هو شكل الخنق لا جوهره. فمنذ دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، لم يسمح الاحتلال إلا بمرور نحو 990 شاحنة مساعدات، رقمٌ هزيلٌ أمام كارثةٍ إنسانية بحجم قطاعٍ أنهكته الحرب والتجويع، وفق بيانات المكتب الإعلامي الحكومي. ولم تتجاوز هذه الشحنات سوى 14 شاحنة غاز طهي و28 شاحنة سولار، في وقتٍ تحتاج فيه غزة إلى أضعاف ذلك يومياً فقط لتبقى على قيد الحياة.
الاتفاق الذي نصّ على دخول 6600 شاحنة خلال عشرة أيام تحوّل إلى حبرٍ على ورق، بعدما أدار الاحتلال ظهره لما تم التفاهم عليه، وواصل سياسة التحكم في نبض القطاع: يفتح الشريان متى شاء، ويخنقه متى أراد.
وهكذا، تدخل المساعدات كأنها جرعات إنعاشٍ لمدينةٍ تُمنع عنها أسباب الحياة: وقودٌ شحيح لتشغيل المخابز والمستشفيات والمولدات، وغاز طهي بالكاد يكفي أياماً معدودة، فيما يظلّ أكثر من مليوني إنسان عالقين بين رماد الحرب وقيود الحصار، يواجهون بصدورهم العارية الحرب الجديدة.
معبر رفح.. وعد لم يُنفّذ
من جهته، أكد مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في غزة إسماعيل الثوابتة أنّ ما يجري بعد اتفاق وقف إطلاق النار لا يمكن وصفه إلا بأنه "خنق متواصل للقطاع تحت غطاء إنساني زائف".
فبينما نصّ الاتفاق على إدخال 600 شاحنة مساعدات يومياً، لم يتجاوز المعدّل الفعلي 89 شاحنة فقط، وهو ما يعكس – بحسب الثوابتة – استمرار الاحتلال في سياسة التجويع والابتزاز عبر التحكم في شريان الحياة الوحيد لسكان غزة.
ويشير إلى أنّ المساعدات التي تُدخلها قوات الاحتلال لا تتجاوز حدود الرمزية، إذ تقتصر على مواد ثانوية بعيدة من الاحتياجات العاجلة، فيما تُمنع الشحنات الأساسية من الدخول مثل الوقود وغاز الطهي والآليات الثقيلة والمعدات الطبية، وهي عناصر ضرورية لإزالة الركام وتشغيل المستشفيات والمخابز والمنشآت الخدمية.
ويضيف أنّ الاحتلال، منذ استئناف عدوانه في 18 آذار/مارس الماضي، يمنع دخول الوقود كلياً، ما أدى إلى توقف شبه تام في المرافق الحيوية، مؤكداً أن القطاع بحاجةٍ يوميةٍ إلى نحو 50 شاحنة من الوقود وغاز الطهي لتلبية الحد الأدنى من متطلبات الحياة.
أما في ملفّ الإيواء، فيوضح الثوابتة أنّ الاحتلال سمح بإدخال كميات محدودة جداً من الخيام، لا تكفي لإيواء مئات آلاف العائلات التي فقدت منازلها. ويقدّر أنّ ما لا يقل عن 288 ألف أسرة تعيش اليوم بلا مأوى حقيقي، وتحتاج بصورةٍ عاجلةٍ إلى خيامٍ وكرافاناتٍ لتفادي مأساةٍ جديدةٍ مع اقتراب الشتاء.
وفي ما يتعلق بمعبر رفح، يذكّر الثوابتة بأنّ الاتفاق نصّ بوضوح على انسحاب قوات الاحتلال من الجهة الفلسطينية للمعبر بعد ترميم الأضرار التي خلّفتها العملية العسكرية الواسعة في رفح خلال أيار/مايو الماضي، إلا أن الاحتلال أبقى المعبر مغلقاً بالكامل. ونتيجة لذلك، يواجه نحو 22 ألف جريح ومريض خطر الموت داخل القطاع في ظل انهيار النظام الصحي وعجز المستشفيات عن تقديم العلاج أو تحويلهم إلى الخارج.
احتياجات تفوق حدود المساعدات
بدوره، يرى رئيس شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية أمجد الشوا أنّ احتياجات سكان قطاع غزة اليوم تتجاوز بكثير ما نصّ عليه الاتفاق من إدخال 600 شاحنة مساعدات يومياً، مؤكدًا أنّ الحرب التي فتكت بالجميع خلّفت واقعاً إنسانياً قاسياً يحتاج إلى كميات ضخمة ومتنوعة من الإمدادات لإعادة نبض الحياة إلى القطاع المنهك.
ويقول الشوا إنّ عامين من الحرب والحصار والتجويع قوّضت حياة الغزيين بالكامل، إذ فقدت الغالبية الساحقة مدخراتها ومصادر رزقها، وتعرّضت منازل نحو 90% من السكان للتدمير، ما جعلهم عاجزين مادياً عن شراء احتياجاتهم من الأسواق التي ما تزال أسعارها باهظة ولا تتناسب مع أوضاعهم المعيشية القاسية.
وتُظهر التقديرات الأممية – بحسب الشوا – أنّ معظم سكان غزة يعتمدون اليوم على المساعدات الإنسانية في بقائهم اليومي، حتى أنّ كثيرين باتوا يتناولون طعامهم من تكايا خيرية، في مشهدٍ يلخّص عمق الأزمة ويدقّ ناقوس الخطر بضرورة تدفّق المساعدات بكمياتٍ ونوعياتٍ أكبر.
ويحذّر الشوا من تفاقم الكارثة مع اقتراب فصل الشتاء، إذ يواجه نحو مليونٍ ونصف المليون نازح خطر البرد والأمطار في ظل غياب المأوى المناسب، مشيراً إلى حاجة القطاع الملحّة إلى 300 ألف خيمة إيواء عاجلة لتأمين أبسط شروط الحياة الكريمة.
كما نبّه إلى الحاجة العاجلة لتوفير الآليات والمعدات الثقيلة للتعامل مع جثامين الشهداء العالقة تحت الركام، وفتح الطرق وصيانة شبكات المياه والصرف الصحي، إلى جانب المستلزمات الحيوية لتشغيل المستشفيات والبلديات، مؤكداً أنّ هذه الضرورات تمتد أيضاً إلى ما يُعيد الأمل في استئناف العملية التعليمية شبه المنهارة.