"حُفر الحرق".. هكذا تسبّب الاحتلال الأميركي بتشوهات لدى أطفال العراق

عالمة السموم البيئية الدكتورة مزغان سافابياسفاني، من بين أوائل الباحثين الأميركيين الذين وجدو صلة بين المعدلات المتزايدة للعيوب الخلقية بين النساء العراقيات، ومدى قربهن من العيش بجوار قاعدة عسكرية أميركية.

  • القوات الأميركية في العراق اعتادت حرق أطنان من النفايات الخطرة لحماية أسرارها العسكرية
    القوات الأميركية في العراق اعتادت حرق أطنان من النفايات الخطرة لحماية أسرارها العسكرية

يبدو أن العراقيين اعتادوا على مواجهة المخاطر تباعاً، فما لبس أن انتهى الغزو الأميركي، ليصطدموا بخطر تنظيم "داعش"، وليواجهوا من بعده خطراً خفياً تسببت به القوات الأميركية.

لم تكتمل فرحة العراقيين بالعودة إلى مناطقهم المحررة من تنظيم "داعش" بعد تحريرها، نظراً لما واجهوه من تلوث هوائي نجم عنه تشوه المواليد الجديدة.

في غرب العراق، ولدت أم شابة طفلاً يعاني من تشوهات خلقية، بعدما ولد فاقداً أجزاء من الدماغ، ولكن رغم محاولتها ولادة أبناء آخرين، إلا أنه في كل محاولة يموت الطفل أو الجنين بعد أيام.

وردة، اسم مستعار، رفضت ذكر اسمها الحقيقي للحفاظ على الخصوصية، أم لثلاثة أطفال أصحاء، أكبرهم طفلة عمرها 10 سنوات، انتقلت إلى مدينة الكرمة في الأنبار، مؤخراً، بعد استتاب الأوضاع الأمنية هناك.

عانت "وردة" من صعوبات في إنجاب طفل آخر، بسبب ما رجح بعض الخبراء بأنها تعرضت لتلوث هوائي نجم عن "حُفر الحرق" التي اتبعتها القواعد العسكرية في العراق، وتسببت في مشاكل صحية مدمرة، ليست فقط لوردة ولكن لعدد كبير من السكان المحليين.

الدخان السام

شاركت باحثة عراقية أميركية، مع وكالة "سبوتنيك"، روايات مباشرة عن مشاكل صحية مدمرة ابتلي بها سكان العراق المحليين، بعد تعرضهم لدخان سام من "حفر الحرق" في القواعد العسكرية الأميركية.

واعتادت القوات الأميركية في العراق، المتمركزة في قواعد خارجية منذ فترة طويلة ممارسة حرق أطنان من النفايات الخطرة باستخدام وقود الطائرات في حفر أرضية كبيرة، لحماية الأسرار العسكرية الأميركية.

وشملت المواد المحترقة البطاريات والنفايات الطبية وأجزاء الجسم المبتورة والبلاستيك والذخيرة والمخلفات البشرية وجثث الحيوانات والمطاط والمواد الكيماوية.

وتسبب التعرض للسموم في حالات صحية خطيرة بين قدامى المحاربين الأميركيين، الذين عانوا من أمراض تشمل، الاضطرابات العصبية، وأمراض الرئة، وأشكال نادرة من السرطان، والعديد من الأعراض غير المبررة.

ويبدو أن وردة، وعدد آخر من السكان المحليين لم يسلموا من تلك السموم، خاصة ممن عادوا إلى مدينة الكرمة بعد تحرير المنطقة في 2016 من قبضة تنظيم داعش الإرهابي

وعلى غرار العديد من العراقيين الذين نزحوا خلال الحروب التي لا تنتهي في البلاد، أرادت وردة العودة إلى قريتها لإعادة بناء حياة جديدة، إلا أن الأم العراقية الشابة لم تدرك أن البيئة المحيطة بقريتها أصبحت سامة بعد سنوات من القتال والاحتلال العنيفين في ظل قوات عسكرية مختلفة.

وفي عام 2017، رزقت وردة بطفل يعاني من فقدان أجزاء من الدماغ، ولكنها أنجبت بعده طفلاً آخر مصاباً بانشقاق العمود الفقري واستسقاء الرأس، والذي عاش لبضعة أيام ومات، لتمر أيام وشهور وترزق بطفل آخر ميت.

وقال الأطباء لوردة إنها "مثل العديد من النساء في هذه الحالة لا ينبغي أن تحملي المزيد من الأطفال"، إلا أن رغبتها في ولادة طفل آخر، جعلها تحاول مرة أخرى، للتعرض للإجهاض 3 مرات، وولادتين لطفلين ميتين.

وقالت عالمة الأنثروبولوجيا من جامعة كاليفورنيا، كالي روباي، التي بدأت في إجراء بحث حول هذه المسألة منذ عام 2009 وهي حالياً في رحلة بحث ميداني في العراق، لوكالة سبوتنيك إنه "نعم، الناس مرضى".

وأضافت الباحثة أنه "بالإضافة إلى صراعها مع العيوب الخلقية، بدأت وردة تعاني أيضاً من مشاكل صحية، مثل ألم في جسدها، والحساسية وتقشير الجلد في أصابعها، بعد عودتها إلى قريتها".

وكانت عالمة السموم البيئية د. مزغان سافابياسفاني، من بين أوائل الباحثين الأميركيين الذين وجدو صلة بين المعدلات المتزايدة للعيوب الخلقية بين النساء العراقيات، ومدى قربهن من العيش بجوار قاعدة عسكرية أميركية تلجأ لطريقة "حُفر الحرق".

وأشارت الدكتورة سافابياسفاني في تصريحات لوكالة سبوتنيك، إلى دراستها الأخيرة التي نُشرت في عام 2020 عندما خلص فريقها إلى أن العيش بالقرب من قاعدة تليل الجوية بالقرب من الناصرية، في العراق، مرتبط بزيادة احتمالية حدوث تشوهات خلقية عند الرضع والأطفال.

ممارسة سامة لتدمير الأدلة

وأوضحت عالمة أنثروبولوجيا عراقية، التي تجري أبحاثاً في العراق، أن "الحفر المحترقة التي هي في حد ذاتها مشاريع الهدف منها تدمير الأدلة، وبالتالي لا تستطيع تحديد ما يحدث بها تحديداً".

وقالت إنه في ناحية يثرب، وهي إحدى النواحي التابعة لقضاء بلد في محافظة صلاح الدين، وتبعد عن العاصمة بغداد حوالي 100 كم نحو الشمال، يتذكر الناس الكثير من الاحتراق المتزايد للنفايات حيث كان الجيش الأميركي يخطط للمغادرة في 2011 أو 2012.

وتابعت أن "السكان المحليين عانوا من ارتفاع حاد في الدخان، وألوان عدة: أحمر، أصفر، أسود، ودخان أبيض.. والتنوع الهائل للنفايات يعني تنوع الآثار الصحية الضارة".

وأوضحت العالمة كيف يمكن أن تؤدي العودة إلى قراهم الأصلية إلى "عواقب صحية وخيمة لكثير من العراقيين".

وتبعت: أنّ "بعض حفر الحرق في القواعد العسكرية الأميركية تحولت إلى مواقع للتخلص من النفايات البلدية حيث استمر حرق مواد مختلفة بها".

ووفقاً لعالمة الأنثروبولوجيا، فإنه "لم يكن البشر وحدهم، من عانوا من الآثار الصحية الضارة لحُفر الحرق في القواعد العسكرية الأميركية"، لافتةً إلى أن "حيوانات المزرعة في العراق واجهت مشاكل صحية مماثلة".

وأوضحت العالمة العراقي، أنه يعيش على بعد 1.5 ميل من إحدى حفر الحرق الأميركية، ما أثر على حيوانات المزرعة لديه، فبعدما كان يمتلك 52 بقرة، أصبح لديه 2 فقط، نظراً لأن باقي الحيوانات ولدت ميتة أو مشوهة.

الوصمة الاجتماعية

في بلد كان الإنجاب فيه جزءاً أساسياً من دور المرأة في المجتمع، فإن العيوب الخلقية لأطفال وردة الموتى، ستؤدي إلى ظهور أنواع مختلفة من الوصمة الاجتماعية.

وسلطت عالمة الأنثروبولوجيا، الضوء على أهمية مبادرات الدكتورة العراقية سميرة عبدالغني في محاولة إزالة وصمة العيوب الخلقية.

وقادت الدكتورة سميرة عبدالغني. التي تعمل في مستشفى الفلوجة، حملة لإزالة فكرة "الوصمة الاجتماعية" عن الأطفال الذين يولدون بعيوب خلقية.

وأشارت عالمة الأنثروبولوجيا العراقية، إلى أن الكثير من النساء العراقيات قد يعانين في صمت قبل أن تبدأ حملة التوعية الاجتماعية هذه، مضيفةً أنّ "النساء كانوا ينجبن أطفالاً في المنزل بعيوب خلقية، ويدفنهن سراً ولا يذهبن إلى الأطباء".

رعاية ذوي الإعاقة

وأوضحت الدكتورة العراقية في مستشفى الفلوجة، أن "العديد من الشباب العراقي يتعرضون لضغط اجتماعي مماثل عندما يعاني أطفالهم من تشوهات خلقية".

وأجهش عامل عراقي يدعى أحمد بالبكاء عندما تحدث عن العيب الخلقي لابنه. وقال إنه "شاب، يتمتع بصحة جيدة، ولائقاً للغاية. وكان يبدو بصحة جيدة نوعاً ما. لم يكن يدخن، أو لديه أي تاريخ مرضي، ولا يعرف السبب لإنجاب طفل معاق".

وقال: "إبني لا يستطيع المشي لأننا عدنا مبكراً إلى قريتنا، وأعلم أننا تعرضنا للتلوث الهوائي الناجم عن حفر الحرق".

وذكرت عالمة الأنثربولوجيا العراقية، أنه "لسوء الحظ، بالنسبة للعديد من العائلات الفقيرة مثل عائلة أحمد، فإن العودة إلى قراهم الأصلية في وقت مبكر لمحاولة إعادة بناء منازلهم لم تكن خياراً، بل كانت ضرورة بسبب الصعوبات الاقتصادية التي واجهوها".

وأشارت إلى أن "العائلات التي لديها أطفال مصابين بعيوب خلقية ولكنهم نجوا واضطروا إلى العيش مع إعاقة، مثل ابن أحمد، هم الذين واجهوا أكبر التحديات بسبب البنية التحتية للصحة العامة المدمرة بالكامل في العراق خلال الغزو الأميركي" .