إسبانيا تقود الموجة الأوروبية الجديدة: فلسطين معيار العدالة بعد الإبادة
بعد انتهاء حرب غزة، برزت إسبانيا نموذجًا للتحوّل الأخلاقي والسياسي في الغرب، حيث تماهى الشارع والدولة في موقفٍ موحّدٍ يرفض الإبادة ويدافع عن العدالة لفلسطين.
-
إسبانيا تقود الموجة الأوروبية الجديدة: فلسطين معيار العدالة بعد الإبادة
مع انتهاء حرب الإبادة الإسرائيلية على الفلسطينيين في غزة، وما خلّفته من دمارٍ هائل ومآسٍ إنسانية غير مسبوقة، شهدت الحركة الشعبية في الغرب تحوّلاً نوعيّاً في شدّة اعتراضها ونشاطها ضد "إسرائيل"، إلى حدٍّ فاقت فيه الكثير من الساحات التقليدية التي كان يُتوقّع أن تتحرك أسرع لنصرة الفلسطينيين.
ومن منظور علم الاجتماع السياسي، تبرز الحالة الإسبانية كواحدة من أبرز النماذج الأوروبية التي تماهت فيها المشاعر الشعبية مع الموقف الرسمي، في ظاهرةٍ تعبّر عن ضميرٍ جماعيٍّ حيٍّ داخل العالم الغربي نفسه، الذي كان تاريخيّاً داعماً لـ"إسرائيل" في صراعها مع العرب.
هنا، يصبح مهمّاً فهم كيف تحوّلت الديناميكيات الجماهيرية إلى قوةٍ محرّكة للسياسات، وكيف أعادت المجتمعات إنتاج ذاكرتها الأخلاقية بعد مواجهةٍ طويلة مع صور القمع والاضطهاد التي رافقت الحرب.
إسبانيا: مؤشرات المجتمع الحي بعد الحرب
بعد مرور عامين على اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة وانتهائها باتفاقٍ هشّ، تجاوز الموقف الإسباني من القضية الفلسطينية حدود الدبلوماسية التقليدية، وتحول إلى فعلٍ سياسيٍّ جذريٍّ ينبع من أرضيةٍ اجتماعيةٍ واسعة.
تجلّى ذلك في موجات احتجاجٍ وثقافة تعبئةٍ شعبيةٍ شملت ميادين السياسة والرياضة والفن، واتخذت من العدالة لفلسطين أفقاً أخلاقيّاً عاماً.
قرار حكومة بيدرو سانشيز بمنع السفن والطائرات التي تحمل أسلحة إلى "إسرائيل" من استخدام البنى التحتية الإسبانية ظلّ علامةً فارقة، إذ مثّل كسراً رمزيّاً لتراتبية التحالفات الغربية، وتحولاً في دور الدولة من "محايد أوروبي" إلى فاعلٍ أخلاقيٍّ يعكس ضمير مجتمعه.
وفي صيف 2025، شكّل الاحتجاج الشعبي في سباق "لا فوِيتا" للدراجات حدثاً مفصليّاً، بعدما عطّل المتظاهرون المرحلة الأخيرة في مدريد، وأجبروا الفريق الإسرائيلي Israel Premier Tech على إزالة اسم "إسرائيل" من زيه الرسمي.
الحكومة الإسبانية لم تستنكر الحادثة بل تبنّتها ضمنياً، واعتبر سانشيز أنّ ما فعله المتظاهرون يعكس "إعجاباً بالشعب الإسباني الذي لا يقبل الظلم"، في مشهدٍ نادرٍ من الانسجام بين الدولة والشارع، حيث تُترجم الإرادة العامة إلى فعلٍ سياسيٍّ وأخلاقيٍّ واضح.
كما أثارت تهديدات إسبانيا بعد الحرب بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة المنتخب الإسرائيلي، ومن مسابقة "يوروفيجن" إذا سُمح لـ"إسرائيل" بالمشاركة، موجةَ ترحيبٍ واسعة في الشارع الأوروبي، لما تحمله من دلالةٍ رمزيةٍ على نزع "الطبيعية" عن كيانٍ ارتكب إبادة جماعية.
إنه تطورٌ يعكس بقاء الحياة في ضمائر المجتمعات الغربية، وإمكانية أن تتصالح الحكومات مع الإرادة الشعبية من دون خشيةٍ من العقوبات أو الضغوط الأميركية، خصوصاً في ظل صعود واشنطن الترامبية التي ما تزال تخدم المشروع الإسرائيلي التوسعي.
ما بعد الحرب: الموجة العالمية مستمرة
الموقف الإسباني ليس حالةً منفصلة، بل جزء من موجةٍ اجتماعيةٍ عالميةٍ أعقبت حرب غزة، تجاوزت البُعد السياسي إلى حراكٍ ثقافيٍّ وإنسانيٍّ شامل، تبنّى الدفاع عن فلسطين كقضية عدالة كونية لا كصراعٍ إقليميٍّ محدود.
هذا الوعي الجديد يُترجم اليوم في الأمم المتحدة، حيث تتحرك الدول بصورةٍ أكثر استقلالاً، رافضةً الخضوع للابتزاز السياسي من القوى الكبرى التي فقدت توازنها الأخلاقي.
وبيّنت استطلاعات رأي غربية، منها دراسة لمعهد "بيو"، أنّ التعاطف مع الفلسطينيين بلغ مستويات غير مسبوقة بعد الحرب، إذ أظهر الشباب بين 18 و24 عاماً تفضيلاً واضحاً للمقاومة الفلسطينية على "إسرائيل".
كما سجّلت التظاهرات المؤيدة لفلسطين في أوروبا وأميركا وأستراليا حضوراً كثيفاً منذ وقف إطلاق النار، في مقابل تراجع التأييد العلني لـ"إسرائيل" حتى في الدول الحليفة تقليدياً لها.
هذا التحول يعكس نشوء وعيٍ جماعيٍّ جديد يُعلي القيم الإنسانية على الحسابات الجيوسياسية.
الثقافة بوصفها ضميراً جمعياً بعد الإبادة
أحد أبرز التحولات التي أفرزتها الحرب هو بروز الفعل الثقافي كمساحة مقاومة رمزية ضد الصمت الغربي. ففي أعقاب وقف النار، تصاعدت حملات المقاطعة الفنية والثقافية للمؤسسات المتواطئة مع الاحتلال، وألغت فرقٌ موسيقية حفلاتها في عواصم أوروبية، ورفض شعراء ومخرجون جوائز رسمية، وأعلنت متاحف كبرى مراجعة شراكاتها التمويلية المرتبطة بشركات داعمة لـ"إسرائيل".
هكذا تحوّلت الثقافة من حقلٍ رمزي إلى ساحة مساءلةٍ أخلاقية. القضية الفلسطينية لم تعد "موضوعاً سياسيّاً شائكاً"، بل اختباراً واضحاً للقيم.
إنّ ما جرى كشف عن ولادة ضميرٍ جمعيٍّ جديد يرى في الحياد تواطؤاً، وفي الصمت مشاركةً غير مباشرة في الجريمة.
الرياضة أيضاً.. ساحة وعي واحتجاج
الرياضة لم تبقَ خارج هذا التحول. فمنذ عام 2024، تحوّلت الملاعب إلى فضاءاتٍ تعبّر عن الغضب الشعبي: جماهير ترفض الوقوف للنشيد الإسرائيلي، وأعلام فلسطينية تُرفع في البطولات، ولاعبون ينسحبون احتجاجاً على مشاركة فرق الاحتلال.
أما ما حدث في مدريد، فقد شكّل نموذجاً فريداً؛ تدخّل شعبي مباشر في سير منافسةٍ رياضية من دون إذنٍ سياسي، في لحظةٍ أدرك فيها الجمهور قوته الرمزية وقدرته على فرض الأخلاق داخل فضاءٍ لطالما احتكره رأس المال والتمويل.
وفي علم الاجتماع، يُفكَّك مفهوم الحياد لا بوصفه قيمة مطلقة، بل كأداةٍ تُستخدم بحسب مصالح القوى المهيمنة. لذا، فإنّ الجماهير الإسبانية التي عطّلت السباق لم "تُخرّب"، بل مارست فعلاً اجتماعيّاً نبيلاً في تحويل الفضاء العام إلى مساحة مساءلةٍ سياسية وأخلاقية.
بين الدولة والمجتمع: تحوّل في مفهوم السيادة
تكشف التجربة الإسبانية، كما غيرها من التجارب الأوروبية، أنّ الشارع بات يسبق الدولة في تحديد الموقف الأخلاقي، وأنّ المجتمع المدني استعاد زمام المبادرة في صياغة السياسات الخارجية.
فالتحول في سياسات مدريد لم يكن نتيجة أحداث الشرق الأوسط فقط، بل تعبيراً عن إعادة تعريفٍ داخلية لدور الدولة الأوروبية تجاه العدالة الدولية، في ظل شعورٍ متزايدٍ بأنّ الحليف الأميركي يمارس نوعاً من "الهيمنة الترامبية" حتى على شركائه الأوروبيين.
هنا، تبرز السيادة الأخلاقية كقيمة جديدة: امتلاك القرار لا يقتصر على السياسة والاقتصاد، بل يشمل امتلاك القدرة على الفعل العادل في وجه الإبادة والازدواجية.
فلسطين.. المعيار الأخلاقي للعصر
لقد تحوّل الموقف من فلسطين بعد حرب غزة إلى مِعيارٍ عالميٍّ يحدّد موقع الأفراد والدول من العدالة. فالموجة الاحتجاجية التي انطلقت في أثناء الحرب واستمرّت بعدها، وعلى رأسها التجربة الإسبانية، مثّلت لحظةً كاشفة في التاريخ المعاصر، أجبرت المجتمعات الغربية على طرح السؤال الأخلاقي الأهم: من نحن عندما يُباد الآخر؟ وماذا يعني أن نصمت حين يكون الصوت حياة؟
لم يعد ما يجري مجرد صراعٍ جيوسياسي، بل إعادة تشكيلٍ للضمير الاجتماعي العالمي. الثقافة، والرياضة، والسياسة، والحركات الشعبية تتلاقى اليوم في مقاومةٍ رمزية تُعيد ترتيب القيم وتفضح الزيف الذي اختبأ خلف حيادٍ مزيّف.
وإسبانيا، بما حملته من موقفٍ رسميٍّ وشعبيٍّ موحّد بعد الحرب، قدّمت نموذجاً يُحتذى به: كيف تتحول الدولة من متلقٍّ إلى فاعل، وكيف يصبح التضامن سياسةً لا شعاراً.
ويبقى السؤال مفتوحاً أمام بقية الدول الغربية: هل تلتقط نبض مجتمعاتها كما فعلت مدريد؟ أم تواصل الصمت، حتى يصبح الصمت ذاته شريكاً في الجريمة؟