لماذا أكثر ترامب وبايدن من شعارات "عودة أميركا"؟

يعيش العالم أمام إمبراطورية منهارة، بدأت ترتبك وتتخبط وتتوتر أكثر في استخراج أدواتها من "صندوق العجب"، ولكنها عندما تفقد السيطرة في ذلك أكثر، سنكون أمام الحرب العالمية بالطريقة التي عهدناها!

  • من
    من "أميركا عظيمة مجدداً" إلى "أميركا عادت"!

لم يكن ترامب أول من استخدم عبارة "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى"؛ وكان ريغان قد استخدمها في بداية الثمانينيات من القرن المنصرم، وكذلك استخدمها كلينتون عام 1991م. لم ترتبط العبارة بكلينتون أو ريغان، ولم تتحوّل إلى شعار انتخابي أو عنوان للسياسة الخارجية إلا مع دونالد ترامب. 

لا يعود الأمر إلى اختلاف شخصي بين ترامب من جهة، وريغان وكلينتون من جهة أخرى؛ ولكنه يعود إلى اختلاف الظروف والمعطيات الدولية التي عاشتها هذه الإدارات الأميركية. جاء ريغان في المراحل الحاسمة للتطور الرقمي، الذي كان عتبة التفوق فيه لصالح الغرب، فالتصق عنوان "حرب النجوم" بريغان أكثر من أي شيء آخر، في حين جاء كلينتون في العام الأول من ولادة العالم الجديد، عالم القطب الواحد، فالتصق به عنوان "نهاية التاريخ".

جاء ترامب في لحظة تاريخية مختلفة؛ كانت ملائمة تماماً لشعار "أميركا عظيمة مرة أخرى"، لأن ملامح الهبوط والضعف كانت طاغية على ملامح الإمبراطورية الأميركية. جاء ترامب بعد عام واحد من الدخول الروسي على خط المواجهة ضد الحرب الكونية على سوريا، في الوقت الذي اعتقد فيه العالم أن حركة روسيا انكفأت داخل حدودها الجغرافية، القريبة على الأقل، إلى الأبد. وجاء ترامب في لحظة استثنائية من هزيمة التيارات التكفيرية في سوريا والعراق، ليس على أيدي قوات دولية، ولا تحالف دولي، وإنما على أيدي أبناء المنطقة، في مشهد لم يتوقعه الأميركي بعد احتلاله للعراق عام 2003م. 

لم يكن يملك الرئيس القادم من عالم الأعمال قاموساً كافياً للتعامل مع فكرة قوى صاعدة على المستوى العالمي، تزاحم وتنافس وترفض وتتوقف عند مصالحها وتحالفاتها، ولا مع فكرة تنظيمات مقاومة تمتلك خبرة في الميدان، لذلك كله انصرف سريعاً إلى العالم الذي يعرفه، عالم الصفقات والابتزاز بالمال، فسجّل "إنجازاته" في ملفات الدفع باتفاقيات التطبيع، والإعلان عن القدس عاصمة لـ"إسرائيل" وإعلان السيادة الإسرائيلية على الجولان، وإجبار دول الخليج على إبرام صفقات مالية تضرها وتنفعه.

من "أميركا عظيمة مجدداً" إلى "أميركا عادت"

نسيت واشنطن ثنائيات البيت الأبيض، التي كانت ترى فيها فرق عمل محترفة ( نيكسون / كسنجر، كارتر/بريجنيسكي، ريغان / فريدمان)، وظهر ثنائي من نوع آخر، ثنائي ليس فيه مفكر استراتيجي أو باحث مهم أو محترف سياسة، ثنائي أعمال عائلي ( ترامب /كوشنر). وبعد سلسلة من الخطابات التي تشبه تعميمات الشركات الداخلية، وسلسلة من الإجراءات الممسوحة بشعبوية كاريكاتورية، جاء بايدن أيضاً بخطاب استعادة، ولكن ليس استعادة القوة، وإنما استعادة الصورة (America is back).

انطوى الشعار على فكرة أن أميركا كانت مخطوفة، ويجب استعادتها، وركّز بايدن في خطاباته الأولى على استعادة مكانة الولايات المتحدة في العالم، وإصلاح العلاقة مع الأوروبيين، وترقيع صورة واشنطن بعد الانسحاب من اتفاقيات حساسة كاتفاقية باريس للمناخ. ومع أن مهمة بايدن الكبرى كانت في استعادة الصورة، إلا أن جوهرها تمحور حول رفع عتبة واشنطن التنافسية أمام الصين وروسيا. 

في دورتين رئاسيتين، لم تعد أميركا عظيمة مجدداً، ولم تستعد صورتها المزيفة في قيادة العالم الحر، وإذا كانت دورة ترامب الرئاسية الأولى قد تزامنت مع إهانات ممتدة جغرافياً لواشنطن ( دخول روسيا على خط المواجهة في سوريا، هزيمة التنظيمات التكفيرية في المنطقة، هزيمة غوايدو في فنزويلا)، فبايدن أيضاً دخل البيت الأبيض ويغادره بحزمة إهانات مماثلة ( الانسحاب من أفغانستان، بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، طوفان الأقصى).

بين الشعارين Make America Great Again و America is back، تعترف واشنطن ضمنياً أنها على سكة الهبوط، وإلاّ فما الذي يعنيه التركيز على شعارات الاستعادة، استعادة القوة، الصورة، المكانة؟

خارج الشعارات... صندوق العدّة الأميركي 

لا يتفق الديمقراطيون والجمهوريون على الحاجة إلى شعارات الاستعادة فقط، وإنما أيضاً على مثلث الأدوات التي تستخدمها واشنطن ( الحرب – العقوبات – الثورات الملوّنة). ليست الطبيعة الشخصية للرئيس هي التي تحكم، متى تُستخدم أي من هذه الأدوات، وأي!

جورجيا... الثورة الملونة لم تعد تعمل 

في جورجيا عام 2003م، وعندما كانت الحرب الساخنة تدور في العراق وأفغانستان، كان خيار إشعال الثورات الملونة في محيط روسيا هو الأنسب لواشنطن. أسقطت التحركات إدوارد شفرنادزه حليف موسكو في جورجيا، وجاءت بشاب متحمس للغرب، ميخائيل ساكشفيلي. أغرت تجربة "القبضات" المرفوعة في الشوارع واشنطن، وعدّتها آلية ليس فقط للتخلص من الأنظمة المناوئة، ولكن أحياناً أخرى للتخلص من الأنظمة الصديقة، التي تعفّنت، وبات من الأفضل استبدالها والتخلص منها وتجديدها. 

كانت "ثورة الورد أو الزهور" كما يفضل الغرب تسميتها، هي الأرضية المبتغاة لدخول جورجيا إلى "الناتو"، وعندما دخلت الحرب على العراق وأفغانستان حالة الروتين ( مقاومة، استهداف، إرسال مزيد من القوات، سحب قوات)، ارتأت واشنطن تسخين الجبهة في محيط روسيا، فكانت الحرب السريعة عام 2008م في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية بمنطق مشابه (إلى حد ما) لما جرى في لوغانسك ودونيتسك. فُرضت على روسيا آنذاك مجموعة من العقوبات، ولكنها كانت أقل بكثير من الجولتين التاليتين عام 2014 و2022. 

اليوم، في مشهد مختلف تماماً، ولكن للأهداف نفسها، تهدد واشنطن بفرض عقوبات على جورجيا نفسها، لأنها باتت أكثر ميلاً إلى موسكو، وأبعد عن الاتحاد الأوروبي و"الناتو"، وأطياف ساكشفيلي لا تجد طريقاً إلى السلطة.

أوكرانيا... بعد الحرب يتغير كل شيء

3 أعوام بعد وصول بوتين إلى الكرملين، كانت كافية لاستنفار الغرب لصناعة الثورات الملونة في محيط روسيا، وإذا كانت "ثورة الورد" مهّدت الطريق لجورجيا تفضّل الغرب، فقد نجحت الثورة البرتقالية في أوكرانيا في إيصال فيكتور يوتشينكو إلى الرئاسة. سارت أوكرانيا على خطى أبطأ من جورجيا باتجاه فكرة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي و"الناتو"، ولا يعود ذلك إلى عدم جاهزيتها، إذا ما قورنت بجورجيا، ولكن لحساسيتها الجغرافية / الديمغرافية الأعلى بالنسبة إلى روسيا. 

"عبقرية المكان" أعادت أوكرانيا سريعاً إلى حاضنتها الروسية التاريخية، وجاءت بيانكوفيتش،المقرب من روسيا، عام 2010م. أعيد تفعيل سلاح الثورات الملونة، وعمّت الاحتجاجات كييف، بمطالبات متطابقة مع مطالبات الاحتجاجات في جورجيا اليوم، وعلّق الغرب عليها وتضامن معها، باللغة نفسها والمفردات نفسها ( العنف الموجّه ضد المتظاهرين، ضرورة الاستجابة للمطالب، إلخ..).

إلى جانب ذلك، فُرضت العقوبات الأقسى على روسيا، ولم تكن الأصعب بسبب ضخامة بنودها، فهي لا تقارن بالعقوبات التي فرضت عام 2022م، ولكن روسيا لم تكن مستعدة لتحمّل هذه العقوبات عام 2014، كما كانت عام 2022. 

في أوكرانيا، كانت المواجهة عام 2022 بتوقيت روسي، ولكنها كانت بدفع غربي وصولاً إلى الحافّة، لا لشيء إلا لأن مطالب روسيا في العودة إلى النظام الأمني في شرق أوروبا إلى عام 1997م لم يكن مطروحاً للنقاش على طاولة الغرب، وما زال هذا البند هو الذي يحرك الغريزة الأميركية في أوكرانيا، كما في جورجيا.

سوريا ومحور المقاومة... حدود الاستطالة لعشرية النار 

لا يكفي مصطلح الثورة الملونة لوصف الحالة في سوريا، فما جرى كان تحريك موجة ساخنة من نشاط التنظيمات التكفيرية، التي لم تستهدف سوريا وحدها، وإنما أيضاً العراق ولبنان، وأيضاً محاولات متكررة لإرباك إيران من الداخل. عام 2012م، كانت الحرب هي الخيار المفضّل أميركياً، ولكنها الحرب بالوكالة عبر الجماعات المسلحة أولاً، والدعم بقوات مساندة محدودة وقواعد عسكرية محددة ثانياً. 

اصطدم خيار الحرب في الجدار، بالتحديد على منعطف العام 2017م. أدرك ترامب ذلك، وسارع إلى اتخاذ خطوات أخرى من الضلع المفضّل (العقوبات)، فرض قانون قيصر، وغلّظ من بنوده، انسحب من الاتفاق النووي الإيراني وفرض عقوبات جديدة على إيران ( التي تلقت في مسيرتها منذ انتصار الثورة 5155 عقوبة)، ومع الإقرار بالضرر الذي تسببت به العقوبات، إلا أنّها لم تتمكن من تغيير الواقع الاستراتيجي للمواجهة. 

وإذا كانت العقوبات هي الضلع المفضل لترامب، فصناعة الثورات الملونة هي الضلع المفضل للديمقراطيين، وحاولت الإدارة الديمقراطية صناعة ارتباك داخلي في إيران (مهسا أميني)، وحاولت إعادة مناخات 2011 إلى سوريا، ولو في لحظات متقطعة وأماكن متباعدة في الجغرافيا السورية.

استقرت حدود التماس منذ عام 2017 في سوريا، وكأنها لحظات مجمّدة من التاريخ، وكان لا بد من كسرها في كل الأحوال، وفي الوقت الذي كان محور المقاومة يبحث عن توقيته الخاص لتلك المهمّة، فضّلت "إسرائيل" وواشنطن تحريك اللحظة، ولا سيما بعد الفشل في لبنان، وجرّ "إسرائيل" إلى قرار وقف إطلاق النار، تحت ضغط عمليات المقاومة. 

في سوريا، جرّبت واشنطن أضلاع المثلث أكثر من مرة، والآن تعود إلى ضلع الحرب من جديد، ولكن آفاق فشله أكبر، لأسباب كثيرة منها:

1. لسوريا وحلفائها في محور المقاومة تجربة ميدانية طويلة في التعامل مع الجماعات المسلحة وأدواتها، وربما يكون عامل المسيرات هو العنصر الإضافي الذي أدخل على تكتيكات هذه الجماعات منذ عام 2017. 

2. كانت السنوات الأربع الأولى من الجولة الأولى من عشرية النار هي الأصعب، ولكن العامل الروسي الذي برز عام 2015م، هو حاضر من اليوم الأول في هذه الجولة.

3. إذا كانت سوريا قد واجهت العزلة الدولية المصنّعة في الجولة الأولى، فهي تتلقى اليوم اتصالات مباشرة من الدول التي عزلتها، وتحركت ضدّها، وهذا كاف لتعطيل الخطط الغربية، أقله، على المسارين الدبلوماسي والسياسي. 

خلاصات... المثلث الأميركي المكسور 

1. في صندوق العدّة الأميركي، لا تخرج الأدوات (الحرب، العقوبات، الثورات الملونة) بعشوائية. فعندما تواجه واشنطن روسيا في أوكرانيا عسكرياً، لا تميل إلى مواجهة مماثلة مع الصين في تايوان، وربما تنزع حينها باتجاه الحرب الاقتصادية أو التركيز على نتائج الانتخابات في تايوان نفسها. هو مبدأ في السياسة الخارجية تكرّس مع هنري كسنجر، وهو الاستمرار في محاولة فكّ الارتباط الصيني- الروسي، وعدم تجريب مواجهتهما معاً، في وقت واحد. إذاً، التوقيت في المواجهات الأميركية، يخضع أيضاً لما يجري في المكان على مختلف الجبهات العالمية؛ على سبيل المثال تعرّضت فنزويلا إلى السقف الأعلى من الضغوطات ( العقوبات، صناعة الثورات الملونة، التهديد بالحرب) أعوام 2018-2019، آنذاك لم تكن الجبهات ساخنة لا في روسيا ولا في الصين، كما أن خطوط التماس استقرّت نسبياً في سوريا. 

2. الكثير من أدوات الصندوق الأميركي فقد صلاحيته، وبدأ يعطي مفعولاً عكسياً. يقول دونالد ترامب في نادي نيويورك للاقتصاد، قبيل فوزه في الانتخابات، إن خسارة الدولار كعملة عالمية هو بمنزلة خسارة الولايات المتحدة في حرب تعيدها إلى دولة عالم ثالث، والعقوبات تتسبب في تراجع الدولار. 

تعيش الإمبراطورية الأميركية هذه الحالة من نهاية صلاحية الأدوات (الحرب، العقوبات، الثورات الملونة)، وهذا بالضبط ما يكرّس حالتها كقوة هابطة.

3. التكرار المستمر لأدوات المثلث الأميركي خلق مناعة لدى القوى الصاعدة. اليوم ينشأ عالم اقتصادي مستقل عن واشنطن، وعناصر الاستقلال تنمو بتسارع؛ فالتكتلات الاقتصادية مثل "بريكس" تمتلك النسبة الديمغرافية الأكبر في العالم، والموارد الأكبر، لذلك تستطيع خلق حالة تبادلات مستقلة، وتستطيع التحرك خارج إطار الدولار وسويفت، وتستطيع التحرك خارج إطار براءات الاختراع الأميركية، لأن واشنطن لم تعد أساساً رائدة هذه البراءات. 

يعيش العالم أمام إمبراطورية منهارة، بدأت ترتبك وتتخبط وتتوتر أكثر في استخراج أدواتها من "صندوق العجب"، ولكنها عندما تفقد السيطرة في ذلك أكثر، سنكون أمام الحرب العالمية بالطريقة التي عهدناها!