طوفان الأقصى والإدارة السياسية للحرب (1-2)
خال الأيام الـ50 الأولى من الحرب، وحتى بداية سريان ما سمي بأسبوع التهدئة وتبادل الأسرى، بدا أن الإدارة السياسية لهذه الحرب غير المسبوقة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني والصراع الفلسطيني الصهيوني يشوبها الكثير من التخبط والارتباك.
إذا كانت الحرب عملاً سياسياً بوسائل أخرى -كما قال المفكر الاستراتيجي الألماني كلاوزوفيتز، واستقر عليه المحللون الاستراتيجيون في العالم أجمع- فيظل السؤال الحيوي: كيف جرت الإدارة السياسية للحرب لدى قيادات محور المقاومة عموماً، وقيادة المقاومة الفلسطينية خصوصاً؟
خال الأيام الـ50 الأولى من الحرب (7 تشرين الأول/أكتوبر)، وحتى بداية سريان ما سمي بأسبوع التهدئة وتبادل الأسرى بين الطرفين، بدا أن الإدارة السياسية لهذه الحرب غير المسبوقة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني والصراع الفلسطيني الصهيوني يشوبها الكثير من التخبط والارتباك، خصوصاً في الأسابيع الثلاثة الأولى من الحرب أو القصف، ما حدا بالمحللين والمعلقين العرب والأجانب إلى التناقض وعدم الحسم في فهم ديناميات هذه الجولة الجديدة ومآلات جولة الصراع.
ويكاد يصيب المحلل المدقق درجة من القلق والفزع بسبب ما يُلاحظ من انغلاق العقل التحليلي لدى كثير من المعلقين والمراقبين العرب في البرامج الحوارية والإعلامية في التعامل مع هذه الجولة الجديدة من الصراع والحرب في غزة، كأنها شبيه أو معادل لما جرى في 7 جولات سابقة، بدءاً من عام 2006 حتى يومنا هذا. وحتى يتبين لنا الفارق النوعي بين الجولات السبع السابقة وتلك الجولة الجديدة، نشير سريعاً إلى ما جرى في تلك الجولات السابقة:
الجولة الأولى عام 2006: بدأت هذه الجولة حقيقة في 9 حزيران/يونيو 2006 عصراً، حين قامت مدفعية الزوارق البحرية الإسرائيلية بقصف شاطئ غزة، ما أسفر عن استشهاد 8 فلسطينيين من أسرة واحدة، وإصابة ما لا يقل عن 30 آخرين.
ورداً على هذه العملية الإجرامية، قامت قوات المقاومة الفلسطينية في غزة في 27 حزيران/يونيو بمهاجمة إحدى الدبابات الإسرائيلية على تخوم غزة وأسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط.
استمرت المعركة من 27 حزيران/يونيو حتى 26 تشرين الثاني/نوفمبر، وراح ضحيتها نحو 1430 شهيداً، من بينهم 400 طفل و240 امرأة، و134 شرطياً فلسطينياً، إضافة إلى 5400 جريح. وقد أطلق عليها الجانب الإسرائيلي اسم "أمطار الصيف"، وكان يرأس الحكومة الإسرائيلية يهود أولمرت.
الجولة الثانية عام 2008: بدأت بالعدوان الإسرائيلي على غزة صبيحة 27 كانون الأول/ديسمبر 2008 واستمرت حتى 18 كانون الثاني/يناير 2009، وأطلق عليها الإسرائيليون اسم "الرصاص المصبوب"، فيما سماها الفلسطينيون "معركة الفرقان".
وقد استمرت لمدة 22 يوماً، وراح ضحيتها 1400 شهيد، منهم 300 طفل، وآلاف الجرحى والمصابين، وشُرد الآلاف من منازلهم. وكان يدير الحكومة الإسرائيلية أيضاً يهود أولمرت.
الجولة الثالثة عام 2012: بدأت في 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2012 حتى 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2012، بعدما قام الكيان الإسرائيلي باغتيال القائد العسكري لحركة حماس أحمد الجعبري.
أطلقت "إسرائيل" على هذه المعركة اسم "عمود السحاب"، فيما أطلقت عليها حركة حماس اسم "حجارة السجيل". وقد راح ضحيتها 165 فلسطينياً، من بينهم 42 طفلاً، وجرح 1220، بينهم 430 طفلاً، وكان يدير الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو.
الجولة الرابعة عام 2014: بدأت بقرار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أيلول/سبتمبر عام 2014 تحت مسمى عملية "الجرف الصامد"، فيما أطلق عليها الفلسطينيون "العصف المأكول".
بلغ عدد الضحايا الفلسطينيين 2189 شهيداً، من بينهم 513 طفلاً، فيما بلغ عدد الجرحى 11100، من بينهم 3374 طفلاً، وتضرر 113 ألف منزل.
الجولة الخامسة عام 2019: بعد اغتيال الجيش الإسرائيلي القائد العسكري لحركة الجهاد الإسلامي بهاء أبو العطا صباح 12 تشرين الثاني/نوفمبر 2019، ومحاولة قتل عضو المكتب السياسي للحركة أكرم العجوري. بدأت هذه الجولة من الحرب، وسميت من العدو الإسرائيلي "صيحة الفجر". وقد بلغ عدد الشهداء 34 شهيداً، وأصيب 100 شخص، وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية هو بنيامين نتنياهو.
الجولة السادسة عام 2021: بسبب التعدي المتكرر على المسجد الأقصى من جانب المستوطنين اليهود والجيش الإسرائيلي بدءاً من نيسان/أبريل عام 2021، وما تلاها من أحداث واعتداءات وطرد سكان حي الشيخ جراح الفلسطينيين واستبدالهم بمستوطنين يهود، بدأت فصائل المقاومة بقصف المستعمرات الصهيونية في غلاف غزة والمدن الكبرى في الكيان الإسرائيلي.
استمرت الحرب 11 يوماً. وقد سقط فيها 243 شهيداً فلسطينياً، منهم 66 طفلاً و39 امرأة و17 مسناً، وجُرح 1910 آخرون، وأدت إلى نزوح 75 ألف فلسطيني، وشملت هدم 1447 وحدة سكنية، وسبب أضراراً لـ13 ألف وحدة سكنية أخرى، وكان رئيس الوزراء هو بنيامين نتنياهو.
الجولة السابعة عام 2022: بدأت حين قامت "إسرائيل" في آب/أغسطس عام 2022 باغتيال بعض قادة حركة الجهاد البارزين. وقد أطلقت عليها "إسرائيل" اسم "الفجر الصادق"، فيما أطلقت عليها حركة الجهاد "وحدة الساحات"، وبلغ عدد الشهداء فيها 24 شهيداً، من بينهم 6 أطفال، وأصيب 203 أشخاص، وكان رئيس الوزراء هو بنيامين نتنياهو أيضاً.
الجولة الثامنة الحالية عام 2023: بدأت بهجوم مباغت قامت به كتائب القسام في السابع من تشرين الأول/أكتوبر عام 2023، وكانت هذه هي المرة الثانية في تاريخ الصراع العربي – الصهيوني التي تبادر فيها قوات عربية إلى تولي زمام المبادرة بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973. وقد راح ضحيتها 1200 قتيل إسرائيلي، وأسر بين 250 و400 إسرائيلي عسكريين ومدنيين.
وفي اليوم التالي، بدأت القوات الإسرائيلية أكبر عملية قصف وإبادة لسكان قطاع غزة. وخلال الأيام الخمسين الأولى من حرب الإبادة تلك، وقبل سريان ما سمي "أسبوع التهدئة الإنسانية"، ارتكبت القوات الإسرائيلية أكثر من 1500 مجزرة راح ضحيتها حتى لحظة كتابة هذه السطور (في فجر الخامس من كانون الأول/ديسمبر) أكثر من 15899 شهيداً، منهم أكثر من 7500 طفل، وأكثر من 5 آلاف امرأة، ونحو 250 من الطواقم الطبية، ونحو 74 صحافياً ومصوراً، علاوة على 8 آلاف مفقود تحت الأنقاض، منهم أكثر من 5 آلاف طفل.
يضاف إلى ذلك أكثر من 45 ألف مصاب وجريح (إصابة الكثيرين منهم قاتلة)، وتدمير 31 مستشفى من أصل 35 مستشفى في القطاع، وتدمير نحو 75 مركزاً صحياً فرعياً، وتدمير 136 منشأة حكومية، وقتل نحو 130 من العاملين في منظمة الأونروا التابعة للأمم المتحدة، وتدمير 55 سيارة إسعاف، وتدمير 260 ألف وحدة سكنية تدميراً جزئياً، علاوة على تدمير 50 ألف وحدة سكنية تدميراً كلياً.
ومن بين 80 مخبزاً في قطاع غزة، جرى تدمير 23 مخبزاً في شمال القطاع لفرض حالة من الجوع والحرمان، إضافة إلى فرض حالة من الحصار والحرمان من المياه والكهرباء وإمدادات الغذاء والوقود، واستهداف عدد كبير من مدارس الأونروا التابعة للأمم المتحدة -التي لجأ إليها مئات الآلاف من الأسر والعائلات الفلسطينية حماية من القصف الوحشي الممنهج الذي تقوم به الطائرات الحربية الإسرائيلية، والقصف المدفعي العشوائي، وقصف البوارج البحرية العشوائي- مثل مدرسة الفواخرة، ونزوح أكثر من 1.5 مليون فلسطيني من شمال ووسط القطاع إلى جنوبه.
وقد قدَّرت المصادر الإسرائيلية حجم المتفجرات التي ألقيت على سكان قطاع غزة خلال هذه الفترة الأولى من الحرب بأكثر من 40 ألف طن، بما يكاد يزيد على وزن قنبلتي هيروشيما وناكازاكي الذريتين اللتين ألقاهما الجيش الأميركي على اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية.
وبهذا، يكون نصيب كل كيلومتر مربع من قطاع غزة نحو 109.6 طن من المتفجرات، أي أن المتر المربع الواحد ناله 110 غرامات من المتفجرات شديدة الانفجار، وهو معدل غير مسبوق في تاريخ الحروب منذ أن اخترع العالم الفيزيائي ألفريد نوبل المتفجرات في عالمنا المعاصر، ناهيك بعمليات القتل اليومية في الضفة الغربية، والتي راح ضحيتها خلال الفترة نفسها أكثر من 254 شهيداً فلسطينياً، علاوة على أكثر من 3500 معتقل جديد.
هكذا، وخلال 4 أيام فقط من القصف الوحشي في هذه الجولة الجديدة من الحرب، سقط أكثر من مجموع الضحايا الذين سقطوا خلال جولات الصراع السبع السابقة، فضلاً عن الأضرار.
وقد بدا بوضوح (منذ الأسبوع الأول لهذه الجولة من الصراع لكل من يعرف تاريخ هذا الصراع وجولات الحروب والعدوان على غزة منذ عام 1955) أننا بصدد نوع جديد من الحروب، ونوع جديد من الذخائر والأسلحة، ونوع جديد من الأهداف العدوانية للحرب، فماذا كانت الأهداف الاستراتيجية للحرب من جانب قوات الاحتلال الصهيوني ومؤسساته السياسية والعسكرية؟
أولاً: الطرف الإسرائيلي النازي
منذ اللحظة الأولى لاستفاقة المؤسستين السياسية والعسكرية في الكيان الإسرائيلي من ضربة الهجوم المباغت لكتائب القسام يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، بدا أن هاتين المؤسستين مدفوعتان بالرغبة في الانتقام والثأر من ناحية، وتنفيذ الخطة أو الحلم القديم بتهجير سكان قطاع غزة إلى سيناء المصرية من ناحية أخرى. وقد حددت "إسرائيل" أهدافها من الحرب على النحو التالي:
1-الانتقام البشع والإجرامي واللاإنساني من سكان غزة -كل سكان غزة من دون استثناء– عبر قصف جوي ومدفعي غير مسبوق في تاريخ هذا الصراع.
2- استعادة هيبة قوة الردع وإعادة الاعتبار إلى الجيش الإسرائيلي الذي تعرض للإذلال والمهانة في الهجوم الفلسطيني يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وضمان الأمن الإسرائيلي ضد سكان غزة أولاً، وسكان فلسطين كلها ثانياً، وسكان البلدان العربية جميعهم ثالثاً.
3-الإعلان الرسمي أمام العالم الغربي وأمام مؤيدي "إسرائيل" عن أن هدف هذه العملية العدوانية الوحشية الجديدة هو سحق منظمة حماس –وكل منظمات وفصائل المقاومة المسلحة في غزة– ومحو سلطتها السياسية على القطاع من ناحية، واسترداد الرهائن والمحتجزين الإسرائيليين لدى حماس وبقية فصائل المقاومة منذ هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر من ناحية ثانية.
4-إجراء عملية جراحية ديموغرافية وجغرافية في قطاع غزة -وهذا هو الهدف الاستراتيجي الحقيقي الذي لم يُخفِه القادة والسياسيون- يتم من خلالها تدمير كل مباني ومنشآت ومكونات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والصحية في قطاع غزة، من أجل تهجير سكان القطاع (البالغ عددهم نحو 2.3 مليون نسمة) قسراً إلى سيناء، وتنفيذ الخطة السرية الصهيونية القديمة بترحيلهم إلى صحراء سيناء أو غيرها من المنافي والمهاجع.
وهكذا شهد العالم –بالصوت والصورة– أبشع عملية إبادة جماعية وتطهير عرقي Genocide منذ الحرب العالمية الثانية.