خلفيات التحركات الأميركية في ملف غرينلاند وأهدافها

تصريحات ترامب حيال غرينلاند، والتي لوّحت بشكل أو بآخر بإمكانية السيطرة الأميركية عليها، تسببت في موجات متتالية من ردود الفعل، تراوحت بين الصدمة في مكان، والخشية في مكان آخر.

  • غرينلاند وطموح أميركي دائم للاستحواذ عليها.
    غرينلاند وطموح أميركي دائم للاستحواذ عليها.

من جملة تصريحات وقرارات أميركية مثيرة للجدل اتخذتها إدارة ترامب خلال الأسابيع الأخيرة، جاءت تصريحات عدة أدلى بها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بشأن بعض المناطق الواقعة تحت سيادة دول أخرى، وعلى رأسها أكبر جزيرة في العالم، غرينلاند، التي ظلت حتى مطلع خمسينيات القرن الماضي، مستعمرة دنماركية، وتتمتع منذ عام 1979 بحكم ذاتي واسع النطاق داخل مملكة الدنمارك، بما في ذلك السيطرة على معظم الشؤون الداخلية، وتعيين رئيس للوزراء وانتخاب برلمان محلي، ومع ذلك، تحتفظ الدنمارك بالسلطة على السياسة الخارجية والدفاع والسياسة النقدية.

تصريحات الرئيس الأميركي حيال غرينلاند، والتي لوّحت بشكل أو بآخر بإمكانية السيطرة الأميركية عليها، تسببت في موجات متتالية من ردود الفعل، تراوحت بين الصدمة من هذا الطرح، والخشية من تأثيرات هذه التوجهات - حتى وإن لم تطبق عملياً - على الأمن الأوروبي وتماسك حلف "الناتو"، وهو تماسك يعاني منذ بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، من معوقات عدة، أفرزتها ظهور تباينات داخلية حيال جملة من القضايا الإستراتيجية.

غرينلاند وطموح أميركي دائم للاستحواذ عليها

حقيقة الأمر، أن توجهات ترامب المعلنة هذه، ليست في مجملها جديدة، بل إن الرغبة الأميركية في ضم غرينلاند، تضرب بجذورها في التاريخ المعاصر، فقد كانت نقطة انطلاق هذه الرغبة، على يد وزير الخارجية الأميركي، ويليام سيوارد، أواخر القرن التاسع عشر، الذي كانت له "طموحات" مطابقة للطموحات التي أعرب عنها مؤخراً الرئيس الأميركي الحالي ترامب، حيال مناطق عديدة تقع خارج السيطرة الأميركية، مثل كندا وألاسكا وأيسلندا، من زاوية الرغبة في تحويل الولايات المتحدة لتصبح قوة عالمية، من خلال التوسعات المتتالية من المناطق الاستوائية إلى المنطقة القطبية.

وقد نجح سيوارد بالفعل في شراء ألاسكا من روسيا مقابل 7.2 مليون دولار عام 1867، وشرع في محاولة فعل الأمر نفسه حيال غرينلاند، إذ كان يرى أن عملية السيطرة على غرينلاند، ستجبر كندا التي تقع بين ألاسكا وغرينلاند، على القبول بأن تكون جزءاً من الولايات المتحدة الأميركية، لكن لم تسفر محاولات سيوارد عن أي نتائج فعلية.

تجددت الطموحات الأميركية حيال غرينلاند عام 1910، حين استكشفت آنذاك إدارة الرئيس الأميركي ويليام تافت، إمكانية شراء غرينلاند، بسبب اتضاح أهمية موقعها الإستراتيجي بين الولايات المتحدة وأوروبا، وكذا تزايد الاهتمام الأميركي بموارد القطب الشمالي، لا سيما المعادن بمختلف أنواعها.

في ذلك التوقيت، تزايد الجهد الأميركي في هذا الصدد، لدرجة دخول كل من الولايات المتحدة والدنمارك في مباحثات، تمحورت حول مقترح تقدم به السفير الأميركي في الدنمارك، موريس إيغان، تقوم بلاده بمقتضاه بمبادلة أراض تملكها في الفلبين، بأراضي غرينلاند وجزر الهند الدنماركية، لكن توقف التفاوض حول هذا الأمر، مع اندلاع الحرب العالمية الأولى.

ظل هذا الملف مجمداً طيلة فترة الحرب العالمية الأولى، لكن عاد الاهتمام الأميركي به مرة أخرى، عقب سقوط الدنمارك تحت سيطرة الجيش الألماني عام 1940، إذ بادرت الولايات المتحدة خلال العام التالي التحرك للسيطرة على غرينلاند بموجب مبدأ "مونرو"، الذي يحظر على الدول الأوروبية التوسع في نصف الكرة الأرضية الغربي. أسست الولايات المتحدة الأميركية وجوداً عسكرياً على أراضي غرينلاند، بموجب اتفاقية "الدفاع عن غرينلاند"، التي وقعتها الولايات المتحدة، مع السفير الدنماركي في واشنطن، ومنحت الولايات المتحدة الحق في بناء القواعد العسكرية على الجزيرة والوصول إليها، وبذلك تمكنت واشنطن من إحباط أي محاولات ألمانية للسيطرة على الممرات البحرية والجوية التي تقع بين غرينلاند وبريطانيا، والتي تعرف باسم "فجوة جيوك".

عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، أعادت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق، هاري ترومان، طرح فكرة شراء جزيرة غرينلاند، كرد على بدء الدنمارك الحديث عن انتفاء الحاجة لاستمرار وجود الجيش الأميركي على أراضي غرينلاند، وقد عرضت الإدارة الأميركية حينها - في ضوء بروز تهديد القاذفات الروسية بعيدة المدى - شراء الجزيرة مقابل 100 مليون دولار، على شكل سبائك ذهبية، خلال زيارة قام بها وزير الخارجية الدنماركي إلى واشنطن في كانون الأول/ ديسمبر 1946، لكن رفضت الدنمارك العرض الأميركي، وتوصل الجانبان لاتفاقية في نيسان/أبريل 1951، سميت "اتفاقية الدفاع عن غرينلاند"، منحت الولايات المتحدة حقوقاً واسعة النطاق في التمركز العسكري والوصول إلى جزيرة غرينلاند، مع التزام بالدفاع عن الجزيرة ضد أي تهديد خارجي. 

"عسكرة" غرينلاند في المنظور الأميركي

من خلال الاتفاقية سالفة الذكر، استحوذت واشنطن على السيادة العسكرية شبه الكاملة على غرينلاند، ما مكّنها من تكثيف وجود عسكري نوعي على أراضيها، استمر حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي، إذ انتشر على الجزيرة نحو عشرة آلاف جندي أميركي، تمركزوا في قواعد بحرية وجوية عدة، وأخرى خاصة بالرصد الجوي والبحري، على رأس هذه القواعد، قاعدة "سوندرستروم" الجوية، التي تم إغلاقها عام 1992، وقاعدة "ثولي" الجوية الواقعة على الساحل الشمالي الغربي لغرينلاند، على بعد 1524 كيلومتراً فقط من القطب الشمالي، و1207 كيلومترات شمال الدائرة القطبية الشمالية، وهي تعدّ عملياً القاعدة العسكرية الأميركية الأقصى في نصف الكرة الأرضية الشمالي، وتم افتتاحها عام 1941 خلال الحرب العالمية الثانية، ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم، تعدّ موقعاً أساسياً لمنظومة الإنذار المبكر الأميركية ضد الصواريخ الباليستية.

أيضاً استغلت واشنطن وجودها في جزيرة غرينلاند خلال فترة الحرب الباردة، لتأسيس شبكة من مواقع الرصد الراداري، تحولت منذ مطلع ستينيات القرن الماضي، إلى منظومة متكاملة للإنذار المبكر ضد الصواريخ والمقاتلات السوفياتية، امتدت عملياً من ألاسكا مروراً بكندا وصولاً إلى غرينلاند، وكان الهدف الأساسي من هذه المنظومة، التي تم إغلاقها بشكل كامل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، التحذير بشكل مبكر من أي هجوم بالصواريخ العابرة للقارات من جانب الجيش الأحمر.

لكن، رغم تراجع الخطر القادم من روسيا، عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، حافظت واشنطن على وجودها العسكري في غرينلاند، والذي يتمثل في قاعدة "ثولى" الجوية، التي تم تغيير اسمها في نيسان/أبريل 2023، إلى قاعدة "بيتوفيك" الفضائية، ويتمركز فيها حالياً نحو 200 جندي أميركي، يعملون ضمن الجناح الفضائي الحادي والعشرين في قيادة الفضاء التابعة للقوات الجوية الأميركية، وتتضمن هذه القاعدة مجموعة من أنظمة الإنذار الصاروخي والدفاع والمراقبة الفضائية. إلى جانب هذه القاعدة، تنتشر بشكل سنوي مفرزة صغيرة من الحرس الوطني الجوي الأميركي، في مدينة "كانجرلوسواك" على الساحل الغربي للجزيرة، للتدرب على العمليات القتالية المختلفة في البيئة الجليدية.

حقيقة الأمر أن الوجود العسكري الأميركي في غرينلاند، تضمن خلافات عدة بين واشنطن وبين السكان المحليين في الجزيرة ومن خلفهم الدنمارك، وتوجد أمثلة عديدة على ذلك، من بينها الخطة التي كانت تعتزم الولايات المتحدة تنفيذها بشكل سري خلال ستينيات القرن الماضي، تحت اسم "Iceman"، لنشر ما يصل إلى 600 صاروخ باليستي نووي متوسط ​​المدى، في صوامع إطلاق تحت أرض الجزيرة، تمتد لأكثر من 4000 كيلومتر، ولأجل هذا الغرض، أسس الجيش الأميركي معسكر "سينشري" شرقي قاعدة "ثول" الجوية، وادعى حينها أن الغرض الأساسي من هذا المعسكر هو البحث العلمي، لكن بعد ذلك بسنوات اتضحت ملامح الخطة الأميركية، التي في النهاية لم يتم تفعيلها بشكل عملي نظراً لأن طبيعة الصفائح الجليدية التي تحيط بالصوامع التي كان الجيش الأميركي سيبنيها تحت الأرض، تتسم بالتحرك المستمر، وفي النهاية تم بحلول منتصف الستينيات، إلغاء هذا المشروع بشكل كامل.

هذا التوجه تضاف إليه حوادث أخرى مثل تحطم قاذفة أميركية من نوع "بي-52" في غرينلاند عام 1968، وعلى متنها شحنة مكوّنة من أربع قنابل هيدروجينية تكتيكية، وكذلك الخلافات المستمرة حتى الآن بين السلطات المحلية في الجزيرة وواشنطن، بشأن المخلفات التي تركها الجيش الأميركي في قواعده السابقة على الجزيرة، مثل قاعدة "بلوي إيست تو" في مدينة "إيكاتيك" شرق غرينلاند، التي تم تأسيسها خلال الحرب العالمية الثانية، ثم تم إغلاقها عام 1947، لكن ما زال موقع القاعدة يضم مباني متداعية مملوءة بالأسبستوس، ومستودعات عديدة مملوءة بوقود الطائرات المحتوي على الرصاص، وشاحنات معدنية متآكلة، وربما حتى مئات من صناديق الديناميت غير المنفجرة، وهو ما تسبب في أضرار بيئية كبيرة أثارت غضب السكان المحليين.

على المستوى الاستراتيجي، تمثل جزيرة غرينلاند بشكل عام، أقصر طريق من أميركا الشمالية إلى أوروبا، وهذا يمنح الولايات المتحدة اليد العليا الاستراتيجية لجيشها ونظام الإنذار المبكر الذي يراقب عمليات إطلاق الصواريخ الباليستية والعابرة للقارات، كما أن موقع الجزيرة يعدّ استراتيجياً بامتياز بين روسيا وأميركا الشمالية، وعملياً يعدّ النطاق الجوي بين الجانبين، أقصر مسار لصاروخ باليستي روسي مطلق نحو الولايات المتحدة، ومن هذا المنطلق، تبرز أهمية قاعدة "بيتوفيك" الفضائية الأميركية.

يضاف إلى ذلك أن موقع غرينلاند مهم أيضاً لمراقبة الممر الملاحي المزدوج بين كل من غرينلاند وآيسلندا وبريطانيا - أو ما يعرف بفجوة "جيوك" - علماً أن الجيش الأميركي يحتفظ بقاعدة جوية/بحرية مشرفة على هذه الفجوة على أراضي أيسلندا، تسمى قاعدة "كيفلافيك"، وهذه الفجوة تزايدت أهميتها، بعد أن عززت روسيا وجودها العسكري في القطب الشمالي على نطاق واسع خلال العقود الماضية، وأعادت فتح القواعد السوفياتية القديمة، وعملت على بناء بنية تحتية عسكرية جديدة مثل مدرجات الهبوط ومرافق الرادار، بالتزامن مع الترقيات المستمرة في أسطولها البحري، لا سيما سلاح الغواصات النووية.

فقد بات واضحاً أن المعدلات الحالية لذوبان جليد القطب الشمالي، ستؤدي إلى توسيع المسرح العملياتي لروسيا، ما يتيح قدرة أكبر على المناورة البحرية والوصول المباشر إلى شمال الأطلسي عبر فجوة جيوك. وهذا من شأنه أن يسمح للقوات البحرية الروسية بتجاوز المضائق التقليدية، التي يحتفظ حلف "الناتو" فيها بوسائط مكثفة للمراقبة والرصد. 

الاقتصاد أولاً في منظور ترامب

رغم وجاهة الطرح الخاص بأهمية جزيرة غرينلاند بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية على المستوى الاستراتيجي والعسكري، من منطلق أن واشنطن تبدو حالياً في طور إكمال مشروع دام قروناً، لتوسيع وتعزيز القوة الأميركية في القطب الشمالي لأميركا الشمالية، والذي بدأ بشراء ألاسكا في عام 1867، وأنهى عملياً استعمار روسيا لأقصى شمال غرب أميركا الشمالية. إلا أن الجانب الاقتصادي في هذا الملف يبدو أساسياً، وربما طاغياً حتى على الجانب الإستراتيجي، وفي هذا الإطار، يمكن النظر من زاويتين أساسيتين.

ترتبط الزاوية الأولى بالموارد الطبيعية التي تمتلكها هذه الجزيرة، حيث تكمن الموارد الطبيعية الأكثر قيمة في غرينلاند في ثروتها المعدنية الهائلة، والتي تحمل إمكانات حقيقية لتعزيز اقتصادها، خاصة على ساحلها الغربي، وتشمل المعادن الثمينة مثل الذهب والبلاتين، وعدداً من المعادن الأساسية، منها الزنك والحديد والنحاس والنيكل والكوبالت واليورانيوم والجرافيت والتيتانيوم، بجانب مجموعة من العناصر الأرضية النادرة، بما في ذلك النيوديميوم والديسبروسيوم والبراسوديميوم والليثيوم والزركونيوم، وتشير التقديرات الأميركية إلى أن غرينلاند تحتوي على 39 من المعادن الخمسين التي تعدّ بالغة الأهمية للأمن القومي الأميركي، خاصة في المجال التكنولوجي وأنظمة الدفاع العسكرية، بما في ذلك الشاشات الإلكترونية وأنظمة التوجيه والليزر والرادار والسونار.

علاوة على ذلك، تقدر هيئة المسح الجيولوجي الأميركية، وجود ما يزيد على 17.5 مليار برميل غير مكتشف من النفط، و148 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي قبالة غرينلاند. ولكن الجدوى الاقتصادية لاستكشاف الموارد أعاقتها عزلة المنطقة وطقسها القاسي، وبنيتها التحتية الرديئة، وقرار سياسي صدر في عام 2021 بتعليق إصدار تراخيص جديدة لاستكشاف النفط والغاز بسبب مخاوف تتعلق بالتأثير البيئي. ومع ذلك، فإن ذوبان الجليد وزيادة إمكانية الوصول إلى الممرات البحرية يزيدان من جدوى استكشاف بعض هذه الموارد.

قائمة الموارد الهامة التي تحتويها هذه الجزيرة، تشمل أيضاً احتياطيات ضخمة من المياه العذبة، وكميات ضخمة من "دقيق الصخور" الذي يقع تحت الغطاء الجليدي للجزيرة، وتم الكشف مؤخراً عن خصائص هامة له، إذ يحتوي على تركيبة غذائية معينة، تمكنه من تجديد ظروف التربة في أماكن أخرى، وتحسين الغلة الزراعية، وسبق وتمت تجربته في حقول الذرة في غانا، وحقول الشعير في الدنمارك، وأدى إلى زيادة بنسبة 30 إلى 50 في المئة في إنتاجية المحاصيل.

الزاوية الثانية ترتبط بمواجهة الاستراتيجية الروسية والصينية الحالية في نطاق القطب الشمالي، حيث تقع غرينلاند على جانبي ممرين محتملين للشحن عبر القطب الشمالي، الأول هو الممر الشمالي الغربي الذي يتماس مع الساحل الشمالي لأميركا الشمالية، والثاني هو الطريق البحري عبر القطب الشمالي الذي يعبر منتصف المحيط المتجمد الشمالي.

خلال السنوات الأخيرة، توسعت كل من بكين وموسكو، في بناء كاسحات الجليد، ما مكنهما من زيادة حركة سفنهما المدنية في القطب الشمالي، خاصة بعد أن رفع ذوبان الجليد من الجدوى التجارية لهذه الممرات البحرية، وهو ما قد يقلل من وقت العبور، ويوفر بدائل لنقاط الاختناق البحرية التقليدية، والواقع أن الشحن عبر القطب الشمالي، قد ارتفع بالفعل بنسبة 37 في المئة بين عامي 2013 و2023، وفقاً لمجلس القطب الشمالي.

ولكن، على الرغم من زيادة مستوى النفوذ الصيني والروسي في المنطقة، فقد نجحت الولايات المتحدة إلى حد كبير في تحجيم أي محاولات من جانبهما للتوغل في غرينلاند على المستوى الاقتصادي، خاصة الصين، التي كثفت جهودها، منذ إعلان نفسها دولة "قريبة من القطب الشمالي" عام 2018، لربط أوروبا وشرق آسيا من خلال "طريق الحرير القطبي" الذي يعبر المحيط المتجمد الشمالي، ومنذ ذلك التوقيت، استثمرت في كل من أيسلندا وفنلندا والنرويج، وبدأت منذ نحو عقد من الزمان، في محاولة الوجود في غرينلاند، ففي عام 2015، زار وزير المالية والداخلية في غرينلاند الصين، لمناقشة الاستثمار المحتمل في التعدين والطاقة الكهرومائية والموانئ وغيرها من مشاريع البنية التحتية. وتقدمت شركات صينية عدة، بعروض لبناء مطارات في الجزيرة، وطُرحت عروض من جانب شركات التعدين الصينية، في حين عرضت شركات أخرى شراء قاعدة بحرية مهجورة شمال شرق الجزيرة، بجانب عرض آخر لبناء مركز بحثي ومحطة أرضية للأقمار الصناعية بالقرب من عاصمة الجزيرة "نوك"، لكن ساهمت واشنطن بشكل أساسي في عدم إتمام معظم هذه العروض، وحجمت بشكل كبير أي وجود اقتصادي للصين في غرينلاند.

ابتزاز أميركي لأوروبا

من حيث الشكل، لا تعد رغبة الرئيس الأميركي في الاستحواذ على جزيرة غرينلاند جديدة، فقد أعرب عام 2019 عن التوجه نفسه، لكن من حيث المضمون، هناك اختلاف أساسي، ففي عام 2019 كان هدف ترامب من هذا الطرح، حمل الدنمارك على إنفاق المزيد من ميزانيتها العسكرية على مراقبة غرينلاند، أما في الوقت الحالي، فتبدو الأهداف الأميركية بين الضغط على الدنمارك لمزيد من الوجود الأميركي - العسكري والاقتصادي - على أرض غرينلاند، أو تحفيز حلف "الناتو" للقيام بدور أكبر في أمن هذا النطاق الحيوي، وهو الجانب الذي بدء يشهد بعض النشاط عقب تصريحات ترامب حول الجزيرة، حيث أعلنت الدنمارك أنها ستنفق نحو 2 مليار دولار، لتعزيز قدراتها العسكرية في القطب الشمالي.

في جانب آخر، تعبر توجهات ترامب حيال غرينلاند، عن قراءة "قاصرة" لتوجهات سكان غرينلاند في ما يتعلق بالعلاقة الحالية مع الدنمارك، فمعظم الأحزاب السياسية في غرينلاند تطالب باستقلال الجزيرة، وبموجب قانون الحكم الذاتي الصادر عام 2009، يحق للجزيرة تنظيم استفتاء لهذا الغرض، وهو ما يرغب الرئيس الأميركي في تحفيز السلطات في غرينلاند على القيام به، بعد الانتخابات العامة التي ستجري في الجزيرة منتصف العام الجاري، لكنه في الوقت نفسه يتجاهل حقيقة أن هذه الجزيرة هي موطن لنحو 60 ألف شخص، 90 في المئة منهم من سكان قومية "الإنويت" التي تعد أساس الوجود البشري في هذه الجزيرة، ولها نظرة سلبية حيال أي وجود أجنبي على أراضي الجزيرة، لذلك لا يمكن الربط بين رغبتهم في الاستقلال، وقبولهم بإمكانية الانضمام إلى دولة أخرى، علماً أن استطلاعات الرأي المحلية أشارت إلى أن 6 في المئة فقط من المستطلعة آراؤهم، قد يرغبون في أن تترك غرينلاند الدنمارك، وتصبح بدلاً من ذلك جزءاً من الولايات المتحدة.

مما سبق يمكن القول إن التموضع الاستراتيجي والاقتصادي الأميركي في غرينلاند لا يبدو حرجاً، بل يبدو في وضع جيد، يمكن تطويره بشكل أو بآخر من دون المخاطرة بتوتير العلاقة مع الدنمارك أو حلف "الناتو"، الذي تعدّ كوبنهاغن جزءاً منه، وبالتبعية جزيرة غرينلاند تعدّ أيضاً جزءاً من المنظومة التابعة للحلف، كما أنها ترتبط بالاتحاد الأوروبي، كواحدة من 25 دولة وإقليماً في ما وراء البحار.

خلاصة القول إن واشنطن لا تحتاج - على المستوى العملي - للتلويح بضم غرينلاند، كي تستفيد من أهميتها الاقتصادية والإستراتيجية، فملكية غرينلاند ليست شرطاً أساسياً للولايات المتحدة للحصول على المعادن الحيوية منها، إذ أعربت سلطات الجزيرة مراراً، عن استعدادها لتعزيز العلاقات التعدينية مع الولايات المتحدة، وتطوير الاتفاق الذي توصل إليه الجانبان عام 2019، لتعزيز التعاون في تطوير قطاعات الطاقة والمعادن الرئيسية. أما على المستوى العسكري، فيمكن تحديث الاتفاقية الحالية التي تؤطر الوجود العسكري الأميركي على الجزيرة، أو حتى إبرام اتفاقية جديدة، يمكن أن تمنح الولايات المتحدة مزيداً من حقوق الوصول العسكري الذي تحتاجه، وتوفر أساساً للتكاليف المشتركة المرتبطة به، وهذا من شأنه أن يتجنب الأعباء الأحادية الجديدة على الولايات المتحدة لمشاريع البنية التحتية العسكرية اللازمة.

من هنا، يمكن اعتبار توجهات ترامب حيال غرينلاند، محاولة لابتزاز حلف "الناتو"، ودفعه للقيام بدور أكبر في حماية المنظومة الأوروبية، وتقليل الأعباء الملقاة على واشنطن في هذا الصدد، وهذا يشمل بشكل أساسي القطب الشمالي، الذي توضح الاستراتيجية الوطنية الأميركية الخاصة به بوضوح، أنه موطن لبعض أقرب حلفاء الولايات المتحدة وشركائها مثل كندا والدنمارك وفنلندا وأيسلندا والنرويج والسويد. استمرار "تطرف" ترامب في هذه التوجهات، ربما يكون له آثار سلبية على المستوى الإستراتيجي، منها توجيه ضربة أخرى للعلاقات بين حلف "الناتو" وواشنطن، وتكريس فكرة أن الحدود السيادية يمكن تقويضها وانتهاكها باسم "الأمن القومي"، ناهيك بتأثيرات هذا التوجه على ملف القطب الشمالي، واحتمالية أن يؤدي إلى دفع الصين وروسيا إلى اتخاذ خطوات عسكرية واستراتيجية في أجزاء أخرى من القطب الشمالي الأوروبي.