حكومة نواف سلام المأزومة قبل أن تبدأ

ولدت حكومة نوّاف سلام خاسرة قبل أن تبدأ، فلا قدرة لديها على إرغام المقاومة على تسليم سلاحها، ولا قدرة لديها كذلك على إرغام الكيان الصهيوني على الانسحاب من النقاط التي رفض الانسحاب منها.

  • هل ولدت حكومة نوّاف سلام خاسرة قبل أن تبدأ؟
    هل ولدت حكومة نوّاف سلام خاسرة قبل أن تبدأ؟

نادراً ما حصلت حكومة لبنانية على هذا الدعم الذي حصلت عليه حكومة الرئيس نوّاف سلام المشكّلة حديثاً، سواء على المستوى العربي أو العالمي، وليس من الصعب التخمين أنّ الجميع يأمل أن تقوم هذه الحكومة بأقصى الضغوط على المقاومة الإسلامية الممثّلة في حزب الله بتسليم سلاحها وحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية. لكنّ السؤال الأساسي هو: إلى أيّ مدى يثق هؤلاء بقدرة نوّاف سلام أو أيّ رئيس حكومة آخر بتحقيق هذا الهدف؟

الواقع أنّ كلّ من عاش في لبنان أو لديه بعض العلم بأوضاعه يدرك تماماً مدى عدم قابليّة هذه الأماني للتحقّق على الإطلاق، سواء حصر السلاح بيد الدولة، أو حتى تسليم المقاومة الإسلامية لسلاحها، وأنّ كلّ ما يأمله هؤلاء يقتصر على سحب اعتراف الدولة اللبنانية بالمقاومة، وبالتالي شرعيّة كفاح حزب الله كمبرّر لممارسة أقصى قدر من الضغوط عليه، وإجباره على الانكفاء إلى الصراعات الداخلية اللبنانية، وترك المواجهة مع الكيان الصهيوني لفترة تمكّنه من استعادة عافيته، والأهمّ الادّعاء الإعلامي لكلّ من قادة الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني وأتباعهما في الداخل اللبناني والعربي بتحقيق إنجاز ما يغطّي تماماً الفشل القتالي والخيبات الميدانية. 

 في لبنان ونظراً للحالة العشائرية التي تسيطر على معظم مناطقه، ينتشر السلاح بشكل كبير بين الأفراد، وليس سرّاً أنّ حزب الله ليس الحزب اللبناني الوحيد الذي يمتلك السلاح، بل إنّ العشائر اللبنانية في مختلف المناطق يمتلك بعضها أسلحة ربما لا تتوفّر لجيوش بعض الدول الصغيرة، وبالتالي فلا واقعية تماماً لمن يتحدّث عن حصر السلاح بيد الدولة، وهو شعار للاستهلاك المحلي ليس أكثر.

في الناحية القتالية، لا يعدّ السلاح هو المشكلة الرئيسية، وإنما إعداد الفرد المقاتل من ناحية التدريب البدني والذهني، والعقيدة القتالية، ومثل هذه المقوّمات متوافرة لدى أفراد حزب الله الذين راكموا خلال السنوات الماضية العديد من الخبرات القتالية والتدريبية، وتدرك قيادة الحزب تماماً أنّ تسليم السلاح يعني السماح لأجهزة استخبارات وأمن الكيان الصهيوني بتتبّع هؤلاء الأفراد وتصفيتهم مهما بلغ عددهم، كونهم سيمثّلون خطراً مستمرّاً يمكن أن ينفجر في أيّ لحظة.

ومن هنا من الممكن التأكيد بكلّ اطمئنان، أن لا حزب الله سيقوم بتسليم سلاحه، ولا حكومة نوّاف سلام قادرة على القيام بمهمة إجباره على تسليم سلاحه، ولا العالمان العربي أو الغربي لديهما القناعة بقدرة أيّ طرف على القيام بهذه المهمة، لكن المشكلة الأساسية هي الضغوط والاستفزازات التي ستمارس على قيادة الحزب، وحتى على الطائفة الشيعية ككلّ، بهدف إجبارها على التفرّغ للداخل اللبناني، والسماح للكيان الصهيوني ولو لفترة مؤقتة بتحقيق إنجاز أمني على حدوده الشمالية.

في شباط/فبراير 2018 شارك الناشط اللبناني المعادي لحزب الله، لقمان سليم في محاضرة تحت عنوان "تفكيك شفرة حزب الله"، وختم سليم (وهو ينتمي للطائفة الشيعية) مداخلته في هذه المحاضرة بعبارة تحريضية واضحة: "الشيعة اليوم بحاجة لنكبة لكي يستفيقوا ممّا هم فيه". كان سليم يهدف إلى أن يدفع الشيعة ثمناً مكلفاً جداً نتيجة تأييدهم لحزب الله، ورفضهم للمشروع الأميركي والعلاقات مع الكيان الصهيوني، وهو ما سيجبرهم، بحسب تصوّره، على التراجع عن هذا التأييد.

وبالرغم من أنّ عبارة لقمان سليم تتجاهل حجم النكبات التي حلّت على الطائفة الشيعية منذ بدايتها مع وفاة النبي (ص)، وحتى الآن نتيجة مواقفها، ورغم ذلك لم تتغيّر هذه المواقف أبداً، فمن الواضح أنّ كلّاً من الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني قد أخذا كلمته بعين الاعتبار، وقاما بتنفيذها حرفياً في الحرب الأخيرة، بدءاً من الدمار الواسع الذي شهدته الضاحية الجنوبية والجنوب عموماً، وانتهاء باغتيال سماحة الشهيد السيد حسن نصر الله (قده)، ثم الشهيد السيد هاشم صفي الدين (قده)، وغيرهما من قادة الحزب، وهو ما اعتبرته الحكومتان الأميركية والصهيونية النكبة المطلوبة، بحسب توصيف لقمان سليم، لكسر ظهر الطائفة الشيعية ومنعها من دعم حزب الله.

على أنّ المعطيات في الشارع الشيعي حتى الآن تشير إلى نتائج مختلفة عن أمنيات سليم، فقد أدّت معركة طوفان الأقصى وما بعدها إلى تلاحم أقوى بين أمل وحزب الله، بل أنّ بعض المعارضين للحركتين في الوسط الشيعي صار يتجنّب هذه المعارضة في الوقت الحالي خوفاً من سقوط شعبيته، فقد أدّى الهجوم الشامت وغير الواعي لبعض أعداء الحزب على شهدائه والطائفة الشيعية ككلّ لمزيد من التلاحم بين أبنائها، بعد أن استشعروا أنهم جميعاً مستهدفون في المرحلة المقبلة، الأمر الذي قد يؤدّي إلى صعوبات كثيرة بالنسبة لمحاولة حكومة نوّاف سلام تنفيذ أيّ مشروعات مرضيّة للأميركيّين والصهاينة في الفترة المقبلة.

لقد كان الرهان الأساسي من هذه النكبة المزعومة هو عزل حزب الله داخل بيئته الأساسية، ممّا سيجعل تجريده من السلاح مسألة وقت لا أكثر، إلا أنّ الواقع الشيعي مختلف وصادم لمن لا يقرأ التاريخ جيداً، فالتلاحم الشيعي في هذه المرحلة، بل والتلاحم الإسلامي والعربي، الذي أبرزه التشييع المليوني للشهيد السيد حسن نصر الله (قده) والشهيد السيد هاشم صفي الدين (قده)، لن يحمي فقط سلاح المقاومة، بل سيؤدّي لاحقاً إلى تهميش دور الحكومة اللبنانية وربما إسقاطها تدريجياً نتيجة عدم قدرتها على تحقيق المطلوب من قبل خصوم المقاومة سواء في الخارج أو ممثّليهم في الداخل، الأمر الذي قد يؤدّي إلى صدام بين هؤلاء وبين المقاومة، سواء أكان سياسياً أو عسكرياً، أو إلى اشتعال جبهة الجنوب مرة أخرى.

أما بالنسبة للعدو الصهيوني، فيبدو أنه لا يثق في قدرة أصدقاء الداخل اللبناني على تنفيذ هذه المطالب وحدهم، كما لا يثق بمدى ثبات الأوضاع في سوريا الخاضعة للسيطرة التركية، وهو ما يجبره على أن يكون موجوداً في نقاط حدودية كنوع من المراقبة للتحرّكات في الجنوب، وكمحاولة للادّعاء بوجود نصر لم يحدث على الأرض أصلاً، مع تصوّره أنّ انشغال الحزب في الفترة المقبلة بالداخل اللبناني سيعيق مقاومته لهذا الوجود الصهيوني. 

ولا سيما بعد سقوط النظام في سوريا وإغلاق المعبر الذي كانت المقاومة تتزوّد من خلاله بالسلاح، وكمحاولة للضغط على الحكومة اللبنانية لتنفيذ المطلوب منها بأقصى سرعة ممكنة حفاظاً على شرعيّتها، وهنا يحرق الكيان الصهيوني الحجة الأساسية التي كان أعداء المقاومة يلوكونها في الإعلام اللبناني سابقاً، وهي أن لا ضرورة لسلاح المقاومة عقب الانسحاب الصهيوني من جنوب لبنان، ويمنح سلاحها شرعيّة واقعيّة في الجنوب حتى لو لم تعترف بها الحكومة اللبنانية.

ماذا عن الدور التركي؟ 

كان المتوقّع أنّ الدور التركي سيكون أكثر تأثيراً في لبنان عقب انتصاره في سوريا، لكنّ الواضح أنّ وهج هذا الانتصار يتراجع تدريجياً، عقب نجاح الإيرانيين في اجتذاب الورقة الأذرية من اليد التركية، وبالتالي فهناك أزمة مقبلة تواجه هذا المشروع في المنطقة، سواء من ناحية القوقاز وآسيا الوسطى، أو من ناحية الخلافات مع الشركاء الأميركيّين بخصوص الورقة الكردية في العراق وسوريا. 

ويظل السيناريو الأسوأ هو استجابة العلويين في سوريا للاستفزازات السلفية والتمترس في مناطقهم بطرطوس واللاذقية، وبالتالي حرمان النظام الجديد في سوريا، ومن خلفه تركيا، من موارد الغاز والطاقة على الساحل السوري، والأهمّ إشعال الموقف في الداخل التركي بين العلويين وحكومة إردوغان. 

ومثل هذه المستجدّات تمنع تركيا من الانغماس بقوة في الداخل اللبناني ومحاولة الصدام مع المقاومة الإسلامية والطائفة الشيعية، وإلا فإنها تضحّي بسهولة بكامل الورقة الأذرية (ذات الغالبية الشيعية) تماماً وتمنحها كهدية مجانية لإيران. وفي هذه النقطة سيكون الأتراك مضطرّين لتفاهمات مع إيران وروسيا لن تكون في مصلحة الكيان الصهيوني بكلّ تأكيد.

إذاً اللاعبون التقليديون وغير التقليديين في لبنان من حلفاء أميركا لن يستمرّوا في الدور ذاته، بل سيتولّى الأميركيون متابعة هذا الملف بأنفسهم سعياً لتأمين وضع الكيان الصهيوني ومشروع الممر التجاري بين الولايات المتحدة الأميركية والهند عبر شبه الجزيرة العربية، والذي تمّ ربطه بتطبيع العلاقات السعودية والإماراتية مع الكيان الصهيوني. 

ينطلق هذا الممر من ميناء موندرا الهندي إلى السعودية على الخليج ثم براً عبر أراضيها والأراضي الأردنية حتى الكيان الصهيوني ثم إلى أوروبا ومنها للولايات المتحدة، وقد حظي هذا المشروع بدعم قوي من قبل الكيان الصهيوني في محاولة لتجنّب البحر الأحمر عقب نجاح القوات اليمنية في منع وصول السفن إليه خلال معركة طوفان الأقصى، الأمر الذي دفع الرئيس الأميركي في لقائه مع رئيس الوزراء الهندي يوم 14 شباط/فبراير الجاري للإعلان عن مرور هذا الممر عبر الكيان الصهيوني. 

ومن المؤكّد أنّ هذا الممر الذي طرحت فكرته في 3 تشرين الأول/أكتوبر 2023 على هامش قمة العشرين، أي قبل طوفان الأقصى بأربعة أيام، لا يمكن أن يتمّ في ظلّ التهديدات الصاروخية للمقاومة في غزة ولبنان. ولعلّ هذا ما يفسّر تصريحات ترامب الجنونية حول ترحيل سكان غزة والضفة الغربية إلى مصر والأردن، والضغط الأميركي المسعور على الحكومة اللبنانية فيما يتعلّق بنزع سلاح المقاومة.

لكنّ هذه الأوضاع الجديدة ربما تجبر قوى أخرى كانت بعيدة عن لبنان بسبب التأثير في أوضاعها على التدخّل، فمصر المتضرّر الأكبر من تنفيذ هذا الممر الذي سيؤثّر سلباً على قناة السويس، ربما تجد نفسها مضطرة لتغيير موقفها المعلن من حزب الله، وحتى حركات المقاومة الفلسطينية؛ كما قد تضطرّ لمراجعة موقفها من الحوثيين في اليمن. أما الصين، والذي يهدّد إنشاء هذا الممر مبادرتها " الحزام والطريق "، فسوف تكون مضطرة للتدخّل من أجل عرقلته بطريقة أو بأخرى. 

أما الرابح الأكبر فيما يحدث فهما كلّ من إيران وروسيا، وكلاهما سيجدان الفرصة السانحة لأن يكونا موجودين بمنتهى الكثافة في البحر الأحمر، عبر قواعدهما في كل من السودان وإريتريا، والأهم وجود دوافع قوية بالنسبة لإيران بتوثيق العلاقة أكثر مع السودان ومصر، وبالرغم من العقوبات الأميركية التي وقعت يوم 4 شباط/فبراير الجاري على ميناء تشابهار الإيراني والتي قد تؤثّر على ممر تشابهار – بيترسبورج، ضمن سياسة ترامب لفرض العقوبات القصوى على إيران، فمن الواضح أنّ الإيرانيين لم يهتموا كثيراً بهذه العقوبات الهادفة بالأساس للمساومة أكثر من القدرة الواقعية على تطبيقها بشكل مؤثّر، خاصة أنّ الهند ذاته مشارك أساسي في هذا الممر. 

لقد ولدت حكومة نوّاف سلام خاسرة قبل أن تبدأ، فلا قدرة لديها على إرغام المقاومة على تسليم سلاحها، ولا قدرة لديها كذلك على إرغام الكيان الصهيوني على الانسحاب من النقاط التي رفض الانسحاب منها، وقيامها بالضغط على المقاومة لتسليم أسلحتها مرفوض من قوى داخلية وخارجية، وعدم قيامها أو تهاونها في الضغط على المقاومة مرفوض كذلك من قوى داخلية وخارجية، ومراهنة الحكومة على الالتزام بسياسة الرقص على الحبال بين كلّ هذه القوى لن تكون مرضية لأيّ منها في هذه اللحظة الفاصلة. وبالتالي سيكون على لبنان أن يتحمّل مرة أخرى صراعاً دولياً على أراضيه لا يمكن التنبّؤ بالطريقة التي سيتمّ بها حسم نتائجه.