حروب العالم... اختبار رباط التحالف الإيراني الروسي
المواجهة الروسية الأطلسية في أوكرانيا، والعدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان، هما الاختبار الأثقل لصلابة التحالف الروسي الإيراني ومدى تحركه.
انطلقت قمة البريكس في قازان يوم الثلاثاء، الثاني والعشرين من أكتوبر. وعلى الرغم من النقاط الاقتصادية الحساسة على جدول الأعمال، والتي يقع في مركزها مهمة الخلاص من هيمنة الدولار، فإن الجانب الأمني يشكل هاجساً مركزياً لدول المجموعة، في ظل المواجهات الساخنة في العالم.
وكانت إيران اقترحت، في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، تأسيس إطار أمني لمجموعة بريكس. قبل انطلاق هذه القمة بـ11 يوماً فقط، كان اللقاء بين الرئيسين بوتين وبزشكيان في عشق آباد في تركمانستان. وبذلك تتتالى اللقاءات الروسية الإيرانية، في إطار المنظمات والمجموعات التي ينتسب إليها البلدان، أو في إطار ثنائي.
ليس مستغرباً تصاعد مستوى العلاقات الإيرانية الروسية في ظل محاولات الغرب استعادة هيمنته على العالم في 3 خطوط استراتيجية؛ الشرق الأوسط، المحيط الغربي للصين، شرقي أوروبا وروسيا. ولا انفكاك بين هذه الخطوط في المواجهة الدائرة. داخل هذه المعادلة العريضة، الممتدة على مساحات جغرافية واسعة، تتساءل الأوساط السياسية والثقافية عن مدى دعم روسيا لإيران في أي مواجهة شاملة تحدث في الشرق الأوسط.
فرضيات ترسم حدود الدعم الروسي لإيران
الفرضية الأولى تقول إنّ الترابط بين جبهات المواجهة ضد الهيمنة الأميركية يجب ألا تنفكّ، أقله لجهة الدعم المتبادل بين الأطراف المركزية في الخطوط الاستراتيجية الثلاثة، إيران والصين وروسيا (أو ما اصطلح البعض على تسميته RIC).
في اللقاء الذي جمع الرئيسين بزشكيان وبوتين في عشق آباد، قال الرئيس الإيراني بزشكيان إن إيران وروسيا تتمتعان بقدرات متبادلة ومتكاملة، ويمكنهما مساعدة إحداهما الأخرى، بينما قال الرئيس بوتين إن البلدين يتعاونان في المستوى الدولي ويتشاركان في تقييم مشترك للأزمات الدولية.
تصريحات بزشكيان وبوتين ليست إلا تكثيفاً للتقارب المفاهيمي بين البلدين، وإن كانا يتبعان نظامين سياسيين مختلفين نسبياً. على سبيل المثال، يرفض المرشد خامنئي ما يسميه "دبلوماسية التذلل أو دبلوماسية التسول"، والتي تنتهجها دول كثيرة في علاقتها بالولايات المتحدة. ومن جانب آخر، عندما غادرت روسيا الحقبة السوفياتية، وتبنت نظام التعددية الحزبية والانتخابات، رفضت أن تغرق في الوصفة الليبرالية لنظام الحكم السياسي، فعدَّت نموذجها شكلاً من أشكال "الديمقراطية السيادية"، أي أن صندوق الاقتراع لا يمكن أن يسمح له أن يذهب بسيادية الدولة.
يَعُدّ البعض أن اجتماع روسيا وإيران على هدف مواجهة الهيمنة الأميركية لا يكفي، وأنً الترابط العضوي بين البلدين (بحسب عالم الاجتماع دوركهايم، فإن الترابط الآلي بين الدول والأمم هو الذي يعتمد على مكونات الدين واللغة والثقافة، أما الترابط العضوي فهو ذلك الذي يعتمد على شبكة المصالح الاقتصادية وكذلك الأمنية، والتي تجعل مصير هذه الدول مشتركاً).
تَعُدّ الفرضية الأولى أن حجم المصالح المشتركة بين روسيا وإيران، ليس قليلاً؛ ومن ذلك:
1. وجود علاقة أمنية تكاملية بين البلدين، فروسيا التي ركزّت في برنامجها العسكري على الصواريخ بعيدة المدى لمواجهة الناتو، وركزّت على سلاح الجو، تحتاج في لحظتها الراهنة إلى التركيز على الصواريخ قصيرة المدى والمسيرات، وهذا ما تمتلكه إيران. في حين أن إيران التي ركزّت برنامجها العسكري على الجانب الصاروخي، تحتاج في لحظتها الراهنة إلى تعزيز جانب الطائرات الحربية وأنظمة الدفاع الجوي، وهذا ما تمتلكه روسيا. تصاعد الحديث عن هذا الشكل من "التحالف العسكري"، بعد زيارة شويغو إلى إيران في الخامس من آب/أغسطس عام 2024.
2. روسيا وإيران شريكتان في رحلة العقوبات الأميركية المغلّظة على اقتصاديهما. وعملتاهما المحليتان تخوضان معركة حامية للافتكاك من هيمنة الدولار العالمية. لذلك تجدان أن الأنسب هو تعظيم شبكة التبادل التجاري في الأطر الواسعة، ومن ضمنها البريكس، انطلاقاً من قاعدة التخلي الدائم عن نظام سويفت.
3. لإيران تجربة فريدة في بناء برنامجها للطاقة النووية السلمية، وتحديداً في شق التعلم الذاتي الداخلي في تكنولوجيا الطاقة النووية. إلى جانب ذلك ثمة مشاريع مشتركة مع الخبرات الروسية النووية في هذا البرنامج، الأمر الذي يوطّد العلاقة العضوية بين الطرفين.
حتى إن الولايات المتحدة تجد نفسها تائهة في محاولات العودة إلى الاتفاق النووي، فكيف لها أن تعود إليه، وأن تحافظ على العقوبات على روسيا في الوقت نفسه؟ وسارت التصريحات الإيرانية والروسية في اتجاه متكاتف بخصوص هذه النقطة، وكان آخرها لهجة التهديد الروسية لأي استهداف إسرائيلي للمنشآت النووية الإيرانية، وسبق ذلك بشهور إصدار بيان مشترك، إيراني وروسي وصيني، بشأن الموقف تجاه الاتفاق النووي.
4. جمعت الحرب الكونية ضد سوريا بين إيران وروسيا، ومع أن "إسرائيل"، التي تصطف في المعسكر الأميركي في هذه الحرب، نجحت في المزاوجة بين استهداف المستشارين الإيرانيين في سوريا وتجنّب التعرّض للوجود الروسي في سوريا (ولو كان عن طريق الخطأ)، فليس من السهل استمرار المعادلة الإسرائيلية بهذا الشكل، في حال انزلقت المنطقة إلى حرب شاملة.
5. تُعَدّ شبكة نقل "شمال جنوب" واحداً من المشاريع الاستراتيجية في النقل التجاري بين البلدين، التي حاولت دمج دول أخرى في مسارات المشروع المتعددة (الهند، أذربيجان) و(كازاخستان، تركمانستان، أوزبكستان) في حال تم تعزيز المسار الشرقي للخط.
الفرضية الثانية في قراءة العلاقة الإيرانية الروسية تقول إن السمة التنافسية بين البلدين سوف تطغى على حساب التعاون، وتراهن هذه الفرضية على مجموعة من المحددات، منها:
1. تَعُدُّ هذه الفرضية أن المنافسة الاقتصادية بين البلدين سوف تعوِّق التحالف بينهما، نظراً إلى التشابه بين اقتصادَي البلدين القائمين، في شق منهما، على إنتاج الطاقة (لكن هذه الفرضية تتجاهل جهود بناء شراكة استراتيجية بين البلدين، إضافة إلى قدرة الاقتصاد الصيني على امتصاص جزء كبيراً من ناتج البلدين معاً في نشاطه الصناعي).
2. تراهن هذه الفرضية على الفوارق الأيديولوجية بين النظامين، وهذا الاختلاف الأيديولوجي يساهم في تباعد الموقفين من الشعوب الإسلامية التي تعيش على محيطهما المشترك. لذلك تستبعد إحدى الدراسات في مركز بيغن السادات (دراسة بعنوان هل تدعم روسيا إيران إذا شنّت هجوماً واسعاً على "إسرائيل"؟)، تستبعد هذه الدراسة تقارباً مماثلاً لذلك الذي حدث بين ستالين وماو تسي تونغ، وتحديداً في المراحل التي سبقت انتصار الشيوعيين في الصين عام 1949.
(من الجدير بالذكر أن صورة الشهيد إبراهيم رئيسي عندما أدّى صلاته في الكرملين كانت تعبيراً عن فرضية مقابِلة تقول إن التحالف السياسي الضروري بين إيران وروسيا شدّ من الوشائج بين الهيئات الدينية للطرفين على أرضية حوار الأديان/الحضارات.. ذهب تيار آخر إلى أبعد من ذلك بوصفه الأمر تحالف روسيا الأرثوذكسية مع الإسلام الثوري في العالم).
3. تراهن هذه الفرضية على نجاح "الغواية الأميركية" لأحد الطرفين، الإيراني والروسي، فتقول إنه في حال نجاح ترامب في الانتخابات المقبلة، سوف يعمل على تبريد جبهة أوكرانيا وتسخين جبهة الشرق الأوسط، عندها يكون قد خلق فجوة في مبدأ الاهتمام في الحرب بين موسكو وطهرا. وفي حال فوز كامالا هاريس، وفي حال تمت العودة إلى الاتفاق النووي، فإن شغف إيران في المواجهة سيتراجع (لا تأخذ هذه الفرضية في الاعتبار، التصريحات الإيرانية الروسية المتكررة، وإن بصيغ مختلفة، بشأن أن أي تخفيف للتصعيد مع الغرب، ليس مرتبطاً بالحفاظ على والتعزيز من العلاقات الاستراتيجية في مبدأ الاتجاه شرقاً).
خلاصة
تبدو عوامل الجذب في العلاقة الروسية الإيرانية أكثر من عوامل الطّرد، ولذلك يمكن عدّ الفرضية الأولى أكثر قرباً إلى الواقع، ولاسيما أن عامل الارتباط لمواجهة الهيمنة الأميركية ليس قليلاً، فمشروع الناتو الذي خطّ عام 1994م في التوسع شرقاً وجنوباً، جعل المصير الإيراني والروسي مشتركاً.
لا شكّ في أن المواجهة الروسية الأطلسية في أوكرانيا، والعدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان، هما الاختبار الأثقل لصلابة التحالف الروسي الإيراني ومدى تحركه.
وإذا انطلقت روسيا وإيران في مواجهتها للولايات المتحدة، من مبدأ "متى تغرق واشنطن في جبهة الطرف الآخر، كي أتمكن أنا من الانقضاض"، فستكون النتائج وخيمة على موسكو وطهران معاً، لذلك، فإن ولادة عالم جديد تفترض "وحدة الساحات" الدولية، هذه المرة!