تناغم الحمقى على مسرح السياسة العالمية
حينما نتحدث عن الحماقة والحمقى فهو تعبير بقدر ما هو سياسي ونفسي فهو أيضاً يمكن قياسه من منظور قانوني مجرد.
عندما يتأمل المراقب والمحلل الاستراتيجي المشهد الجاري أمام أعيننا على مسرح السياسة العالمية ينتابه إحساس عميق بالقلق، ويقفز إلى ذهنه سؤال محير: هل هي مصادفة تاريخية أن يظهر كل هؤلاء الفاعلين ومتخذي القرار على مسرح السياسة العالمية بمثل هذه الحماقة وانعدام الرشد في إدارة الشؤون السياسية والاقتصادية العالمية؟
وهل هي مصادفة أن تتناغم الشخصيات الحمقاء في كل من الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وفي إدارة مفوضية الاتحاد الأوروبي والأمين العام لحلف " الناتو " في وقت واحد وعلى مسرح فعل عالمي واحد؟
وهل كان للظهور المتزامن لهؤلاء القادة والفواعل السياسية والاقتصادية الدولية تأثير وانعكاس في هذه الفوضى العالمية؟ أم إنه كان سبباً لحدوث هذه الفوضى؟
وهل نحن أمام مؤشرات لا تخطئها عين المحلل المدقق لتسارع انهيار المنظومة الرأسمالية العالمية الراهنة؟
والحقيقة أنه حينما نتحدث عن الحماقة والحمقى فهو تعبير بقدر ما هو سياسي ونفسي فهو أيضاً يمكن قياسه من منظور قانوني مجرد.
لقد عرّف القانون -سواء الجنائي أو المدني أو المرافعات -الشخص المعتاد Normal Person أو السلوك المعتاد Normal Behavior بأنه السلوك الذي ينتهجه الشخص باعتدال في حال مواجهة موقف طارئ أو أزمة طارئة في حياته اليومية، أو هو السلوك الذي ينتهجه الشخص العاقل الرشيد Rational في حياته وفي الظروف والمواقف العادية أو الطارئة.
ومن ثَم فإن الخروج عن حدود الاعتدال والوسطية في سلوك الشخص يمثل انحرافاً عن السلوك المعتاد، وسواء أكان هذا السلوك يرتبط بحياة المواطن العادي أم يرتبط بشخصيات من مستوى راسمي سياسات الدول والحكومات أم من مستوى متخذي القرارات فيها، فإن طريقة ردود أفعالهم تجاه الأزمات وشكل التعبير في خطابهم العام والرسمي تجاه هذه الأزمات ينبغي له أن يخضع للقياس الكمّي والنوعي المرتبط بحقيقة مصالح هذه الدول القومية، وطبيعة الأخطار والتهديدات التي تواجه دولهم ومجتمعاتهم.
الحقيقة أن كل ما شهده العالم خلال السنوات العشر الأخيرة يعبّر بشكل أو بآخر عن درجة ملحوظة من الحماقة السياسية لدى كبار صناع السياسات في كثير من الدول الغربية، وكذا الولايات المتحدة الأميركية. فكيف نفسر هذه الحماقة السياسية في خلق واصطناع كثير من هذه الأزمات الدولية (كوريا والشرق الآسيوي – أوكرانيا وروسيا – فلسطين والكيان الإسرائيلي – سوريا ومحاولات تدميرها – العراق ومحاولات تقسيمه – اليمن والعدوان السعودي -الإماراتي – السودان وما يجري فيه – الدور الإماراتي المريب والمشبوه في الإقليم -الصين وتايوان وبحر الصين الجنوبي – حروب المقاطعة والحصار الاقتصادي والسياسي ضد روسيا ودول في أميركا الجنوبية مثل فنزويلا والبرازيل وبوليفيا وكولومبيا)؟ وطريقة إدارة هذه النزاعات والأزمات الدولية، تجعلنا نقلق جدياً من اقتراب لحظة انفجار كوكبنا بفعل تنامي هذه الصراعات واستمرارها لسنوات من دون أفق للحل والتسوية، خصوصاً بعد أن تصاعدت الأصوات والتهديدات بشأن استخدام محتمل للقنابل النووية (التكتيكية منها أو الاستراتيجية).
وحينما يقارن المرء بين الصراعات والنزاعات التي دارت في مناطق العالم المختلفة في العقود الخمسة الماضية (1945-1992)، والتي عرفت بالحقبة ثنائية القطبية، والتنازع بين قوتين عظميين: الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي، والولايات المتحدة ومعسكرها الرأسمالي، مصحوبتين بأيديلوجيتين متناقضتين، وبين تلك الصراعات والنزاعات الجارية في الوقت الراهن يكتشف حقيقة واحدة وهي أن العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء حقبة الثنائية القطبية قد أصبح أكثر خطراً وأشد فتكاً وأبعد أثراً على الخرائط الجيو-سياسية، والأوضاع الجيو-استراتيجية في العالم.
فلنتأمل معاً صراعات حقبة القطبية الثنائية، حيث نشأت: أزمة برلين في أوروبا في أواخر الأربعينيات، والحرب الكورية في مطلع الخمسينيات، والأزمة الكوبية الشهيرة في مطلع الستينيات، والحرب الفيتنامية الأميركية والهند الصينية في منتصف الستينيات حتى منتصف السبعينيات، وأخيراً الأزمة الأفغانية في الثمانينيات والتسعينيات. وكلها كانت أزمات عنيفة ولكنها ظلت تحت السيطرة، وأدارها عقلاء من الجانبين حتى لو كنا نختلف مع هذا الطرف أو ذاك سياسياً وأيديولوجياً.
وهنا، تبرز أسماء كبرى وعاقلة من قبيل "دوايت آيزنهاور" و"جون كينيدي" "ونيكسون" و"هنري كيسنجر" " زيجنو بريزنسكي" من الجانب الأميركي، و"شواين لاي"، و"ماوتسي تونغ" في الصين، و"خورتشوف" والثلاثي " بودجوني – بريجنيف – كوسيجين " من الجانب السوفياتي، وفي ألمانيا برزت أسماء "فيلي برانت" و "وليم كول" و "شميدت" والمستشارة "إنجيلا ماركيل "، كما برزت أسماء " الجنرال شارل ديغول" و" فرانسو ميتران" و "جاك شيراك" من الجانب الفرنسي... وهلم جرا.
وعلى الجانب العربي، برزت قيادة جمال عبد الناصر في مصر وهواري بومدين في الجزائر، والملك فيصل في السعودية، والشيخ زايد في الإمارات وحافظ الأسد في سوريا وهكذا.
أما بقية الصراعات والنزاعات التي دارت في تلك الحقبة فقد كانت السمة المميزة لها أنها أشبه بحالة الطلق وتعسر الولادة بين حركات التحرر الوطني في معظم دول الجنوب للتخلص من القبضة الاستعمارية لدول الغرب الإمبريالي، وبهذا المعنى كانت أقرب إلى آلام موضعية لا تهدد البشرية، أو تدخلها في صراعات وجودية بعكس ما يجري في واقعنا الراهن.
وهنا، يندهش المرء كيف تجمّع كل هؤلاء الحمقى Foolish في وقت واحد، من قبيل، المستشار الألماني الحالي "شولتس" والرئيس الفرنسي "ماكرون" والرئيسيْن الأميركييْن "دونالد ترامب" ومن بعده "جو بايدن" وفي بريطانيا خمس شخصيات متعاقبة على رئاسة مجلس الوزراء في أقل من خمس سنوات لم تترك خلفها ومعها بصمات إيجابية سوى أزمات ومخلفات سلبية، والأمين العام لحلف الناتو " ينس ستولتنبرغ " الذي احترف صب الزيت على نار كل أزمة في أوروبا وفي العالم فيدعو إلى الحرب ويدفع إليها دفعاً، ورئيسة المفوضية الأوروبية المندفعة ورافعة راية الحروب والمقاطعات " فون أوندرلاين"، و"شارل ميشيل"، وفي الجانب الأميركي نجد وزير الخارجية اليهودي الصهيوني "أنتوني بلينكن" ومستشار الأمن القومي "جاك سوليفان" ومعظم الطاقم المعاون للرئيس الأميركي الحالي من اليهود والصهاينة، تماماً كما كان الرئيس الأميركي السابق "دونالد ترامب" والطاقم المعاون له من أشد المتعاطفين مع الحركة الصهيونية وفي مقدمتهم زوج ابنته "جاريد كوشنر"، ووزير خارجيته " مايك بومبيو".
وقس على ذلك زعماء ورؤساء أقل شأناً في أوروبا الشرقية يدفعون العالم دفعاً إلى الحرب، خصوصاً ضد روسيا والصين، وبقية شعوب أهل الجنوب.
أما في الكيان الصهيوني فبرزت أسماء بقدر ما تتميز بالعنصرية والوحشية بقدر ما تتمتع بالغباء السياسي، من قبيل "بنيامين نتنياهو" و "يوآف غالانت" و"سموتريتش" و"بن غافير" و "أفيغدور ليبرمان" و "إسرائيل كاتس" وبقية هذه الضباع في اليمين الصهيوني العنصري الذي بات يسيطر على الساحة السياسية والحزبية في هذا الكيان.
وعلى الجانب العربي، حدّث ولا حرج، والقائمة تطول..
ووسط كل هؤلاء الحمقى، تاه صوت بقية العقلاء وتأثيرها في المشهد السياسي العالمي.
السمات المميزة لصراعات وأزمات حقبة الانفراد الأميركي:
هنا، نستطيع أن نميز بوضوح مجموعة من الخصائص والسمات العضوية من أهمها:
1-مع التغوّل والتوغّل الأميركي خصوصاً، والغربي الأطلسي عموماً في إدارة كل مؤسسات العمل الجماعي الدولي ( الأمم المتحدة ومجلس أمنها – مؤسسات التمويل الدولية وشروط مساعداتها – نظم الدفع والتبادل الاقتصادي العالمي – النظام المصرفي العالمي ) استسلمت بقية أطراف المنظومة الدولية في دول وحكومات الجنوب المتعثرة تنموياً لهذا المارد المتوحش، وأصبحت طوع بنان هذه القوى الغربية وأوامرها وتوجيهاتها، تحركها كيفما ترى وترغب، باستثناء دول وحكومات وشعوب قليلة تعرضت بدورها إلى حالة من الحصار والمقاطعة وكان في مقدمتها كوبا وإيران وفنزويلا وعدد محدود جداً من الدول والحكومات.
2- على المسرح الدولي، شجعت الهيمنة الغربية والأميركية على القرارات الدولية أطماعاً لإعادة تشكيل الخرائط الجيو- سياسية من جديد، ففي أوروبا زحف الحلف الأطلسي بعدوانية، مدعوماً بقرار أميركي نحو حصار روسيا والعمل على تفكيك هذا الكائن الضخم جغرافياً ( 17 مليون كيلو متر مربع ) والذي تكاد مساحته تضاعف مرتين ونصف المرة مساحة أوروبا كلها، والذي يمتلك من القدرات والثروات الحاضرة والكامنة ما يؤهله لدور قيادي في العالم لم يعد مرغوباً ولا مطلوباً، وتجسد فيه مخاطر بعيدة المدى من وجهة نظر الحمقى الجدد في الغرب وأميركا؛ فبدأت التحرشات والحصار رويداً رويداً، وتحوّلت الكتلة الشرقية التي كانت تجري في فلكه أثناء الحقبة الثنائية وتمثل له نطاقاً حيوياً للحماية إلى خصم وعدو زاحف، وتغيّرت الخريطة السياسية داخل هذه البلدان لتتولى فيها الحكم فئات يمينية محافظة موالية للغرب وأميركا بل ومعادية لروسيا الجديدة (رومانيا – أوكرانيا – بولندا- بلغاريا – التشيك – سلوفاكيا -.. إلخ ).
3-بهذه الهيمنة الاقتصادية والسياسية الأميركية والأطلسية فرضت أيديولوجيتها العدوانية على المستويات كافة وبالطريقة التي ترغبها وتطلبها، بداية من شعار العولمة والقرية الواحدة، مروراً بالليبرالية المتوحشة واقتصاد السوق المطلقة، ونهاية التاريخ وانتشار وتشجيع المثلية الجنسية وإهدار قيمة الأسرة والعائلة، فاستسلمت لها – أو تكاد تستسلم – بقية دول وشعوب العالم بما في ذلك روسيا المتعثرة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وقبل تولي الرئيس "فلاديمير بوتين"، والصين المنشغلة بتجارتها ونموّها الاقتصادي، والهند الطامعة بدور يليق بهذه الشعارات وآلياتها في العمل الاقتصادي والسياسي.
4- وبقدر ما سقطت دول الجنوب وحكوماتها وشعوبها في شبكات الفساد الواسع النطاق تارة، وحكام مستبدين تارة أخرى، بقدر ما كانت بيئتها الداخلية تستعد لاستقبال حرائق الصراع الذاتي والاحتراق الداخلي، وكان ذلك مدخلاً لدى بعض هذه الحكومات والحكام للهروب إلى الأمام بإشعال صراعات ونزاعات مسلحة مع الجيران تارة، وفي الداخل بين القبائل والطوائف والأحزاب تارة أخرى.
5- ولعل المقارنة بين أسماء هذه الشخصيات وتاريخها في المسرح العالمي في الحقبة الثنائية بتلك الأسماء والشخصيات التي برزت على مسرح السياسة العالمية في السنوات العشر الأخيرة يتجعلنا نتعجب من المصادفة التاريخية التي جمعت بين هذه الشخصيات السياسية الحمقاء في فترة زمنية واحدة، وتكاد تدفع العالم دفعاً إلى أتون حرب عالمية ثالثة لن تبقى ولن تذر على سطح كوكبنا.