ترامب يحطّم السياسة لبناء الترامبية

يُعيد ترامب تشكيل بنية الحكم الأميركية وفق رؤية أحادية تنطلق من الاقتصاد كأداة للإكراه السياسي، متجاوزاً المحدّدات القانونية الدولية، ومنطلقاً من مقاربة نفعيّة قصوى تتعامل مع العالم باعتباره سوقاً مفتوحاً للابتزاز.

  • كيف يرى ترامب العالم؟
    كيف يرى ترامب العالم؟

كلّ ما ذكره الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن الوضع المأساوي في غزة، وعدم قابليّة العيش، والدمار، والقتل الجماعي، والبيئة غير الصالحة، والقنابل غير المنفجرة… كان يمكن أن يشخّصه في رجلٍ يبعد أقلّ من متر إلى يمينه.

لكنّ الرئيس الأميركي لا يأبه بذلك كلّه، بل إنّ عينه تقع على أشياء أخرى، فماذا يريد؟

تبدو أولويات ترامب الآن بالتدريج الآتي:

- عملية واسعة لسحب الموارد والأموال من الخارج إلى أميركا، وتجميع أوراق المواقف السياسية من الدول المختلفة بين يديه، بالقوة والتهديد الاقتصادي والعسكري، وصولاً إلى الصفقة. وفي هذه تندرج سياسة تحقيق "السلام" بالقوة، أينما أراد هو ذلك، واستخدام عائدات هذه السياسة في سياق حسم الصراع الداخلي مع الدولة العميقة والعولميّين.

- السيطرة على الداخل بعد حسم الصراع، وتأسيس منظومة حكمٍ خاصة به، أو دولة عميقة لكن على قياس مشروعه.

- حصار الصين، بعد إخضاع شركائها المحتملين، واحتوائهم بالتهديد والضغوط وإسقاط الأنظمة، أو بالصفقات. كيف يمكن تحقيق ذلك؟

عنوان المواجهة الكبرى مع الصين يحكم كلّ سياسة ترامب الخارجية، ويمكن تفسير ضغوطه على الجميع من هذا المنطلق، بصورةٍ مباشرة، أو غير مباشرة.

إخضاع الشركاء المحتملين قبل لحظة المواجهة الكبرى حاجة ضرورية، لأنّ الحرب في عمقها اقتصادية وتقوم على الموارد الأولية ولا سيما النادرة منها، موارد الطاقة، والحضور الدولي عبر الشراكات السياسية والاقتصادية وخطوط العبور من مركز الإنتاج إلى الأسواق، وهذه كلّها تتجسّد في دولٍ وممرات ومضائق وشركاء من غير الدول، وهؤلاء كلّهم يقعون في عدسة منظار ترامب وعقوباته، أو مغرياته. فمن أين بدأ الرجل حربه؟

يطلق ترامب مشروعه من التموضع الجيوسياسي في مفاصل حركة العالم: الشرق الأوسط، باناما، مدخل القطب الشمالي (غرينلاند)، مضائق الخليج والبحر الأحمر: هرمز وباب المندب.

الضربة الأميركية الأخيرة في الصومال، والضغط المستمر على إيران، ومشروع الريفييرا الشرق-أوسطية، والضغوط للتطبيع من دون دولة فلسطينية، كلّها محاولات للتموضع الجيوسياسي الذي يهدف إلى إخضاع الحلفاء والخصوم، وشركاء الصين المحتملين*، بما يشمل شرايين مشروع "حزام واحد، طريق واحد".

كيف يرى ترامب العالم إذاً؟

العالم الحقيقي هنا، بدوله وحضاراته وناسه وتاريخه وعقائده وروحانيّته… ليس إلا بيئة أعمال بالنسبة لترامب.

حيث يجوز الاستحواذ بالقوة على أصول الآخرين، والتعامل معهم ككائنات جاهزة للنقل من مكان إلى آخر تحت وقع الصدمة والعنف، لتجنيبهم مخاطر القتل، الذي يمارس بدعمه المباشر وبأسلحته.

لا آخر هنا، فقط مصلحة أميركا التي يجب أن تعود عظيمةً مجدّداً، وهذه غايةٌ تبرّر أيّ وسيلة، حتى التطهير العرقي والإبادة الجماعية والترحيل القسري والقتل العمومي…

أكثر من ذلك. يشمل المشروع تحطيم السياسة كعلم وممارسة، ويقوّض أسس العلاقات الدولية والقوانين الدولية والإنسانية، والقيم والأخلاق والأعراف وما راكمه البشر منها طوال التاريخ.

مشروع يقطع مع التاريخ بصورةٍ حادّة، ليؤسّس للسلام على طريقة الابتزاز والتهديد، وخارج مفهوم الحقوق الذي مات فلاسفة ومناضلون، وسالت دماء الشعوب على طريقه.

فأيّ مستقبل، وهل لنجح واقعيّاً؟

لنعد إلى تدريج الأولويات، وتبيان تناقضاتها ومخاطرها، وتالياً إمكانية تحقّق المشروع.

يُعيد ترامب تشكيل بنية الحكم الأميركية وفق رؤية أحادية تنطلق من الاقتصاد كأداة للإكراه السياسي، متجاوزاً المحدّدات القانونية الدولية، ومنطلقاً من مقاربة نفعيّة قصوى تتعامل مع العالم باعتباره سوقاً مفتوحاً للابتزاز، لا مجال فيه للاعتراف بالتاريخ، الأعراق، القوميات، أو الحقوق المتجذّرة.

وهنا يأتي العنوان صاحب الأولوية الآن، وهو إعادة تعريف العلاقات الدولية. كيف؟

قبل اسبوع، وخلال اجتماعه بنتنياهو، صعق ترامب العالم بإعلانه الشروع بتوطين سكان غزة خارجها، في خطوة تُعيد تعريف السيادة الوطنية من منظور القوة المطلقة، وتوظّف التهجير كأداة لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية.

هذا الطرح ينسجم مع عقيدته التي ترى أنّ إدارة الصراعات لا تتمّ عبر التفاوض التقليدي، بل عبر فرض وقائع جديدة تُجبر الفاعلين الدوليّين على قبولها تحت وطأة الضغط الاقتصادي والعسكري.

هذا يعبّر أيضاً عن تحوّل في السياسة الخارجية يستبعد الالتزام الأخلاقي أو القانوني من معايير تحديد طبيعة العلاقات مع الحلفاء، وقدرتهم على توفير المكاسب الاستراتيجية والمالية للولايات المتحدة. ماذا عن العنوان الثاني؟

تعتمد المرحلة الثانية، على إعادة تشكيل الداخل الأميركي عبر خلق صدمة اقتصادية وسياسية. تتمثّل في وقف الحروب الخارجية لإعادة توجيه الموارد نحو الداخل، وتعزيز الاقتصاد عبر سياسات حمائيّة، وإعادة هيكلة شبكات التصنيع والاستثمار. وفي ذلك تناقضات كثيرة، تحتاج إلى بحثٍ مكثّف في سياقها الخاص.

وبالتوازي، يشنّ ترامب مواجهة مفتوحة مع ما يسمّيه "الدولة العميقة" والعولميّين، من خلال تفكيك المؤسسات البيروقراطية التي يرى أنها تُعيق إعادة التمركز الاستراتيجي للبلاد.

الهجرة غير الشرعية تمثّل محوراً آخر في استراتيجيته، حيث أعلن في خطاب التنصيب عن *سياسات صارمة* تشمل ترحيل أعداد كبيرة من المهاجرين، وتعزيز الضوابط الحدودية، واستخدام الجيش في ضبط الحدود الجنوبية.

أما العنوان الثالث فهو الأكبر والأخطر. إنه حصار الصين، وفي سياقه يأتي تحييد الخصوم قبل المواجهة الكبرى.

يدرك ترامب أنّ مواجهة الصين لا يمكن أن تتمّ بشكلٍ مباشر من دون تفكيك بيئتها الاستراتيجية. لذا، تتجه إدارته نحو إخضاع الدول التي تُشكّل روافد محتملة للنفوذ الصيني* عبر فرض العقوبات، الضغط الاقتصادي، وفرض تعريفات جمركية صارمة حتى على الحلفاء التقليديين أو المحتملين.

هذه الاستراتيجية تهدف إلى تقليل خيارات بكين وجعل أيّ مواجهة معها أكثر كلفة وأقلّ احتمالية لتحقيق مكاسب استراتيجية لها.

كيف تمارس هذه السياسة عملياً؟

يتبنّى ترامب مفهوم "التفكيك الاستراتيجي المسبق"، وهو نهج يعتمد على إخضاع الدول التي قد تُشكّل رافعة محتملة للصين في أيّ مواجهة مستقبلية.

تحقيق ذلك يتمّ عبر الابتزاز الاقتصادي، فرض العقوبات، وإعادة تعريف الشراكات الاستراتيجية وفق معيار المنفعة المالية المباشرة للولايات المتحدة، بدلاً من الاعتبارات الجيوسياسية طويلة الأمد.

يُستخدم هذا النهج أيضاً داخلياً، حيث تُستثمر الأموال المُجمّعة من هذه الاستراتيجيات في تأمين السلطة الداخلية لترامب وتعزيز موقعه السياسي ضدّ خصومه في واشنطن.

هذا يطال بالتدمير مفهوم التحالف بحدّ ذاته، ويستبدله بعلاقات تعاقدية موقتة، لا ضمان لها سوى مزاجه ومصلحته المتغيّرة.

ماذا يعني ذلك؟

يقود ذلك كلّه إلى إعادة هندسة النظام الدولي وفق منطق الإكراه المطلق.

 مشروع ترامب ليس مجرّد سياسة، بل هو إعادة هيكلة جذرية لمفهوم الحكم داخلياً وخارجياً*، حيث تصبح الدولة أداة تعظيم ثروة وقوة، والمجال الدولي سوقاً للإخضاع والإكراه.

يكرّس هذا النموذج تفكّك النظام الدولي التقليدي، ويؤسّس لمرحلة جديدة يصبح فيها القانون والتعدّدية والدبلوماسية أدوات مُتجاوزة أمام منطق القوة الاقتصادية والسياسية العارية.

هل هذا مسبوق؟ وكيف ينعكس في ملفَي غزة وإيران؟

نحن أمام نموذج لم يُختبر بعد في التاريخ الحديث بهذا الشكل العلني: نموذج يُسخّر الدولة الأقوى في العالم لإدارة السياسة كما تُدار الشركات، مع كلّ ما يحمله ذلك من تداعيات على النظام الدولي القائم.

تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة بشكل دائم يمثّل ترجمةً سوريالية لهذا النهج الجديد غير المسبوق في العلاقات الدولية المعاصرة (باستثناء "إسرائيل" مع فوارق بالحجم ونطاق التأثير).

يقول ترامب إنّ سكان القطاع ليس لديهم بديل سوى مغادرته بعد الدمار الذي لحق به. لتحويله إلى "ريفييرا الشرق الأوسط". لكنّ ذلك يحمل مخاطر كبيرة على الجميع، كيف؟

لا يمكن لمصر والأردن أن تقبلا بهذا المشروع، وإن فعلتا فإنّ ذلك يعني انتحاراً مؤجّلاً لأمنهما القومي.

التفاعلات اللاحقة تجعل من البلدين بيئة غليان المظلومية التاريخية للشعب الفلسطيني، ولشعبيهما أيضاً. 

فضلاً عن إهانة متعمّدة ووقحة لكرامة الدولتين والشعبين، بإجبارهما على تجرّع كأس تصفية قضية أخوتهم وتهجيرهم مرة أخرى، على حسابهما.

قوبلت التصريحات بانتقادات حادّة من قبل الفلسطينيين والدول العربية، الذين اعتبروا الخطة بمثابة "تطهير عرقي" وانتهاكاً للقانون الدولي. لكنّ الدول المعنية تقع بين نارين: القبول الانتحاري، والرفض الذي يشتمل على مخاطر حقيقية في مواجهة غولٍ متوثّب للممارسة العنف الاقتصادي والسياسي…

ماذا عن إيران؟

مواقف ترامب في الساعات الأخيرة تقول إن إيران أصبحت قوية جداً حالياً، وإنّ الولايات المتحدة لن تسمح لها بامتلاك سلاح نووي.

اليوم عاد الرجل ليقول إنه يفضّل اتفاقاً نووياً سلمياً مع طهران، بعد ساعات من توقيع أمر تنفيذي بالعودة الى الضغوط القصوى، والعقوبات المشدّدة والخانقة.

إيران من جهتها، تعوّم سياسةً مفتعلة لتنفيس الزخم الهائج، وتسعى بشدّة إلى اتفاق جديد، يقول ترامب إنه سيكون مدعاةً للاحتفال في الشرق الأوسط كلّه.

السباق بين الضغوط والصفقة يقطع الأنفاس، لكنّ التجربة تقول إنك إذا أردت أن تحمي مصالحك ووجودك، ولو أردت الصفقة، فإنّ عليك أن تظهر استعدادك للقتال والموت.

وفي حالتنا كعرب، يمكن القول إنّ وسائل أخرى يمكن استخدامها بفاعليّة، لتعطيل التعامل مع قضايانا على أننا "لا ناس". أبرزها وضع المصالح الاقتصادية والطاقوية العالمية، عند ترامب والصينيين وغيرهم، في مقابل احترام إرادتنا وحضارتنا ومصالحنا، وعقائدنا، وسيادتنا في بلادنا.