بعد تجربة اقتصادية فاشلة.. هل تعود مصر إلى قيَم الاشتراكية العربية؟
ماذا حصدت مصر من التحوّل غرباً عام 1974، ومن تخليها عن قيادة العرب، وخصوصاً في قضية فلسطين عام 1979، سوى التبعية الاقتصادية وانحسار التنمية المحلية؟
يبدو للمراقب أنّ الحدث الاقتصادي المصري من تضخمٍ في الأسعار وانهيار للعملة هو ابن ساعته، ولكنّ الحقيقة أنّه حاضر ودائم منذ 50 عاماً عندما تخلّت مصر عن نهج الاشتراكية العربية منذ عام 1972، الذي كان من بنات أفكار نخبتها، وفي مقدمة تلك النخبة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، فماذا حصدت مصر من التحوّل غرباً عام 1974 ومن تخليها عن قيادة العرب، وخصوصاً في قضية فلسطين عام 1979، سوى التبعية الاقتصادية وانحسار التنمية المحلية وتراجع النتاج الفكري والفني الذي كان يرفد كلّ العرب؟
بعد 18 عاماً على قيادته النهج الاشتراكي العربي وهدف الوحدة العربية، توفي الرئيس المصري جمال عبد الناصر في 30 أيلول/سبتمبر 1970 في سن الشباب (52 عاماً) بمقاييس اليوم الصحّية.
عام 1952، عندما قامت ثورة 23 يوليو المصرية، لم تكن الأفكار الاشتراكية حاضرة بعد في ذهن "الضباط الأحرار"، ومنهم عبد الناصر، بل كان همّهم نجاح الانقلاب على الملك فاروق وحاشيته وإنهاء حال الفوضى والفساد التي دهمت البلاد في مطلع ذلك العام، فكان الجيش المصري هو جسر العبور لنقل السلطة من الإقطاع والعائلات الأرستقراطية المحيطة بالملك إلى تقوية الطبقة الوسطى ودخول العصر الحديث، وهذه كانت تجربة الجيوش في عدد من دول أميركا اللاتينية وآسيا وإفريقيا.
منذ البداية، حدّد قادة الثورة مسار مصر بأنّ التحرر الوطني من الاستعمار هو الخطوة الأولى، تليها حتماً خطوات نحو التحرّر الاجتماعي، وأنّ نضال الشعب المصري ليس ضد الاستعمار الغربي فحسب، بل ضد الإقطاع المحلي المهيمن على المجتمع أيضاً، وضد تعسّف الرأسمالية الوحشية في الاقتصاد. لذلك، كان النظام الجديد في مصر ديمقراطية شعبية وعدالة اجتماعية.
كان واضحاً لدى قيادة الثورة المصرية أنّ عودة الجيش إلى الثكنات وتسليم السلطة للباشوات لن يحصل، فالطبقة المهترئة التي رفضت مراراً تطبيق الإصلاحات منذ الثورة الأولى عام 1919 ستعود أقوى من السابق، وستعود مصر إلى الحالة التعيسة التي كان يعانيها الشعب المصري في ظلِّ أسرة الخديوي التي وضعت يدها على معظم الأراضي الزراعية، ومعها عدد من الباشوات من أصول تركية وألبانية، ما شكّل أخطبوطاً سياسياً – اقتصادياً قاتلاً.
بعد ثورة مصر الأولى عام 1919، وفي عشيّة الثورة الثانية عام 1952، كان ثمّة 90 باشا يملكون 3 أرباع الأراضي الزراعية، في حين كان أقلّ من 10% من المصريين فقط يملك قطعاً صغيرة، والأغلبية الساحقة من المصريين لا تملك شيئاً.
لم تمتلك النخبة الإقطاعية الحاكمة معظم ثروات مصر وتحتكر السلطة فحسب، بل إنّها منحت نفسها أيضاً إعفاءات من أي ضرائب على الدخل، كما منعت أي مشاريع قوانين أو رسوم يمكن أن تحدث تغييراً نحو الأفضل بالنسبة إلى عامة الشعب (وهذا يحدث في لبنان اليوم).
أمام هذا الوضع غير القابل للعلاج بأساليب الحكم السائدة في مصر آنذاك، تسلّمت نواة الضباط الأحرار مهمة إدارة الدولة ورفع معنويات الشعب وتقديم بعض الإصلاحات، إلا أنّ الإصلاح الوحيد الذي ترك أثراً إيجابياً في الفترة الأولى (1952 – 1956) كان التوزيع الأولي للأراضي، إذ إنّ تجربة مصر في الاشتراكية كانت في بدايتها، وهي عمل تراكمي، عشوائي أحياناً، عالج أوضاع مصر وحاجات الشعب، ولم يكن تطبيقاً صارماً فورياً لعقيدة ماركسية كالصين وروسيا، أو عملاً بأفكارٍ مسبقة جاء بها الضباط الأحرار من خلفياتهم السياسية والاجتماعية.
كانت ثمّة مهام طارئة تسبق الإصلاح الاقتصادي الجذري في مصر:
أولاً: أنهى مجلس قيادة الثورة 72 عاماً من الاحتلال البريطاني (1880-1952)، وأخذت مصر تحتفل منذ ذلك الوقت بعيد الجلاء.
ثانياً: أنهت ثورة 1952 مئة عام من هيمنة إدارة قناة السويس البريطانية – الفرنسية على شؤون مصر عندما احتفلت مصر بعيد التأميم عام 1956.
ثالثاً: أنهت الثورة 150 عاماً من النظام الملكي الاستبدادي، وأعلنت الجمهورية المصرية، وكانت المهمة الأولى بعد طرد الملك فاروق من البلاد التصرّف بأملاكه وأملاك أسرته من قصور وأطيان وعقارات وإنهاء احتكار أسرة الخديوي وحاشيتها أراضي الفلاحين (الإصلاح الزراعي).
كانت خطوة ضرب النظام الإقطاعي إذاً في صلب الإصلاح الاقتصادي والتحوّل الاشتراكي؛ ففي عام 1954، صدر مرسوم يحدد ملكية الأرض للفرد أو الوحدة العائلية بمئتي فدان يمكن أن تزيد إلى 200 فدان أخرى إذا كان للمالك زوجة وطفلان أو أكثر.
كانت هذه خطوة جبارة وغير مسبوقة. وقد عطّلت منظومة الباشوات التي كان يملك كل منهم أراضي شاسعة تجعله فرعوناً صغيراً على البلاد والعباد. وفي الاتجاه نفسه، أنهت الثورة ألقاب الباشوية والبيك؛ رمز الطبقية المتوحشة[1].
كان في ذهن عبد الناصر ورفاقه إعادة احترام الذات وعزّة النفس إلى الفلاح تحديداً، وإلى المواطن المصري بشكل عام، وانتشالهم من حفرة الفقر المدقع[2]. وكان واضحاً في كتاب عبد الناصر الصغير "فلسفة الثورة" أنّ الهمّ الاجتماعي كان الأولوية.
مضت 10 سنوات حتى تبلورت اشتراكية مصر، وبالتالي الاشتراكية العربية، من خلال دستور 1956 الذي حدّد الطبيعة الاشتراكية لنظام الحكم في مصر، وأقرّ للمرّة الأولى في تاريخ مصر الطويل بحقوق المواطنين الاجتماعية والاقتصادية، إضافةً إلى حقوق الإنسان والحريات الشخصية.
ولتحقيق هذه الحقوق والحريات، دخل في صلب الدستور تشريع "التخطيط الاقتصادي" لكي يتم توجيه معظم النشاط الاقتصادي في البلاد نحو مصلحة الشعب.
بعد الإصلاح الزراعي، بدأت تظهر قرارات التأميم الأولى، ولعل أبرزها تأميم قناة السويس في تموز/يوليو 1956، ثم تأميم مصالح فرنسا وبريطانيا في تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه ردّاً على العدوان الثلاثي من "إسرائيل" وبريطانيا وفرنسا على مصر، ولكن التأميم الأوسع لمصلحة الاشتراكية أتى في سياق الجمهورية العربية المتحدة – وحدة مصر وسوريا عام 1958.
بعض إنجازات حقبة جمال عبد الناصر
وكان من إنجازات حقبة عبد الناصر مجانية التعليم، وبناء السد العالي، والتأمين الصحي، ونهوض قطاع صناعي مصري (تأسيس وبناء 1200 مصنع، أحدها مصنع الحديد والصلب عام 1954)، وعضوية العامل والفلاح في مجلس الشعب، وحق المرأة في الترشّح والانتخاب.
وكانت حكمت أبو زيد أول امرأة تتقلّد منصب وزير (كانت وزيرة للشؤون الاجتماعية)، وكذلك أُطلقت محطات إذاعة وتلفزة وطنية. وقادت مصر في ظل عبد الناصر منظمة عدم الانحياز والوحدة الأفريقية ومنظمة المؤتمر الإسلامي.
وشهدت مصر في عهده أيضاً أول سيارة تُجمع وتُركب وتُصنع في مصر (سيارة نصر)، وأول طائرة حربية مصرية مقاتلة "القاهرة 300"، وتصنيع صواريخ القاهر والرائد والظافر، ولم تشهد فتنة طائفية.
من اشتراكية البلد الواحد إلى الاشتراكية العربية
من الخطوات المتبعة لجعل القوانين والدستور حقيقة مجسّدة في مصر وسوريا أثناء الوحدة، جرت سلسلة جديدة من التأميمات في شباط/فبراير 1960، إذ تم تأميم المصارف وشركات التأمين في خطوة لتوجيه التوفير والاستثمار، ما أسهم في إنجاح مشاريع التخطيط الذي تقوم به دولة الوحدة. وتوّجت الخطوات القانونية والدستورية بقوانين العمل عام 1961 والميثاق القومي الذي وضع أسس الاشتراكية العربية.
وكان من نتائج القيادة المصرية - السورية للمسار العربي أنّ عقد الستينيات لم ينصرم إلا وقد أصبحت معظم الدول العربية تسير في النهج العربي الاشتراكي، حتى إنّ هناك دولاً عربية حافظت على نظام الاقتصاد الحر، ولكنّها طبقت بعض أوجه الاشتراكية، مثل البرامج الاجتماعية ومشاريع التنمية.
ومن نتائج هذه القيادة أيضاً التحوّل الكبير في هندسة توجّه مصر نفسها في تلك المرحلة، إذ إنّ النهج الاشتراكي الذي قاد مصر، وبرفقة سوريا بالذات، دمج القومية العربية والاشتراكية، ليلد مفهوم "الاشتراكية العربية" في الوجدان المصري. وكان من أهدافه نهضة العرب تنموياً وبشرياً ووحدة العرب من المحيط إلى الخليج.
لا شكّ في أنّ المفاهيم التي حددها ميشال عفلق لنجاح الوحدة العربية كان في أساسها التحوّل نحو الاشتراكية والابتعاد عن الاستعمار الاقتصادي، ولكن رغم أنّ حزب البعث كان موجوداً على الأرض في سوريا منذ 1946، وكان سبّاقاً إلى الكلام عن الوحدة العربية وعن الاشتراكية، فإنه لم ينتقل إلى حيّز التطبيق سوى في الستينيات بعد الانفصال عن مصر، وبعد تسلّم قادة الحزب الحكم في سوريا والعراق.
ولم تكن حركة 23 تموز/يوليو في مصر مجرّد انقلاب عسكري أنهى الملكية عام 1952، وأفسح المجال ليصبح عبد الناصر رئيساً للجمهورية، بل كانت نقطة تحوّل ثورية اقتصادية واجتماعية شغلت كل سنوات الحكم من الحقبة الناصرية، وأطلقت الاشتراكية العربية بدءاً بقرار ضرب الإقطاع.
ولم يكن ما فعلته مصر قليلاً، فقد ساندت في عهد عبد الناصر كفاح الدول العربية ضد الاستعمار الغربي وبناء الدولة الاشتراكية العربية داخل كل دولة، والدلالة على ذلك أنّ معظم الدول العربية التي حصلت على استقلالها كانت عشية وفاة عبد الناصر عام 1970 تسير في نهج الاشتراكية العربية التي وضع أسسها، وهي: مصر وسوريا والعراق والجزائر وليبيا والسودان واليمن الجنوبي واليمن الشمالي.
وفي تونس ولبنان، جرت تعديلات وإصلاحات مهمة في الاتجاه نفسه؛ فقد حصلت إصلاحات في تونس في الستينيات في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة، من تطور في البنية التحتية وغيرها (المواصلات والتربية والتعليم والصحة وتحرير المرأة...)، وبقيت 3 ممالك تابعة للغرب اقتصادياً وسياسياً هي المملكة العربية السعودية والمملكة الهاشمية الأردنية والمغرب.
وشهد لبنان تحولات في عهد الرئيس فؤاد شهاب (1959-1964) الذي كان مقرّباً إلى مصر في تلك الفترة، فأطلقت الدولة اللبنانية برامج اجتماعية، وأهّلت البنية التحتية من مياه وكهرباء وطرق في المحافظات البعيدة عن بيروت، وانتعشت الأحزاب التي تلهج بالاشتراكية، وتحوّل بعضها من اليمين إلى اليسار في منتصف الستينيات (الحزب السوري القومي مثلاً). وفي أحزاب اليمين اللبناني نفسها، منها حزب الكتائب، كانت بعض الرموز الشابة تُطلق شعارات تقدمية واشتراكية.
ومن البديهي أن تشهد حقبة عبد الناصر أيضاً ولادة مؤسسة القمة العربية عام 1964 وتجارب وحدوية بين دول عربية شاركت فيها مصر وسوريا والعراق وليبيا واليمن والسودان.
من الاشتراكية العربية إلى الاشتراكية العالمثالثية
الأمر لم يقتصر على دول مصر وسوريا والعراق وشقيقاتها العربيات في ما بعد، بل إنّ التحوّل الاشتراكي كان منتشراً في بلدان العالم الثالث التي كانت تخرج تباعاً من نير الاستعمار الغربي في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، فلا يمكن فصل تجربة الاشتراكية العربية عن مسار دول العالم الثالث في الخمسينيات والستينيات، عندما خرجت الأمم الناهضة، ومنها العرب، من نير الاستعمار الغربي، وكان من الطبيعي أن تبحث عن نظام اقتصادي يلاقي طموحات شعوبها.
هذا النظام لم يكن تقليداً لأنظمة أوروبا الغربية وأميركا، بل كان تطبيقاً لمبادئ اشتراكية محلية، كما فعلت بعض دول أميركا اللاتينية (كوبا وفنزويلا ونيكارغوا وتشيلي...)، وأفريقيا (الكونغو وباتريس ولومومبا وتانزانيا وإثيوبيا والصومال...)، وآسيا (الصين وفيتنام ولاوس...).
وفي هذا الطريق، وُلدت مجموعة دول عدم الانحياز في باندونغ في إندونيسيا في نيسان/أبريل 1955، وكان جمال عبد الناصر من عمالقتها، إلى جانب شو إن لاي من الصين، وأنديرا غاندي من الهند، وجواهر لال نهرو من باكستان، وجوزيف تيتو من يوغسلافيا، وأحمد سوكارنو من إندونيسيا.
وشهد عقد الخمسينيات أكبر حركة تحريرية واستقلال الجزء الأكبر من المستعمرات في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، إذ أخذت الدول الوليدة تطالب بمكان لها في العالم، ووقفت بعيدًا عن الحرب الباردة وأحلافها، وسعت لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تضع نهاية للهيمنة الغربية بكل صورها وأشكالها، ثم كان المؤتمر الثاني في بلغراد عاصمة يوغسلافيا عام 1961، الذي كرّس عبد الناصر وتيتو زعيمين لدول العالم الثالث، وأبرز هواري بومدين من الجزائر.
تجربة مصر والاشتراكية العربية لم تفشل مطلقاً، بل تمّ ضربها وتصفيتها ليخيّم الاستعمار الجديد بظلاله على العرب والعالم، فالاشتراكية العربية كانت في طريقها إلى النجاح لو لم يجرِ إجهاضها بالعدوان الخارجي، سواء بالحرب العسكرية المتواصلة من 1948 إلى 1970، وخصوصاً عدوان 1967، أو بالحصار الاقتصادي الاعلامي الدبلوماسي القاتل.
وكان الوعد بالبحبوحة والازدهار إذا وافقت مصر على قصقصة جناحيها ودخلت ذليلة مظلة الاستعمار الجديد، وجاءت الفرصة بعد وفاة عبد الناصر وظهور خلفه أنور السادات، ولكن مصر، ولمدّة 40 عاماً، لم تنجح في عهدي أنور السادات وحسني مبارك (1970-2011) في خلْق تنمية واقتصاد يحاكيان الدول الثريّة، وفقدت أي مكانة محتملة لها في النظام الدولي الحالي مقارنة بعهد عبد الناصر الذي وضعها كقوة إقليمية تخاطب العالم من موقع العزّة والكرامة، ولم تحقق لشعبها مستوى نموّ واستهلاك مرتفعَين.
ومن البديهي أنّ الأمور اتجهت نحو الأسوأ بعد الثورة المصرية الثالثة في 25 كانون الثاني/يناير 2011، إذ استطاع فريق التبعية الاقتصادي والعسكري والاستخباراتي والسياسي أن يعيد مصر إلى الحظيرة ومواصلة النهج النيوليبرالي والاغتراب عن الكتلة العربية.
في عهد عبد الناصر، كانت قيمة الدولار الأميركي بالجنيه المصري هي 40 قرشاً مصرياً، وارتفعت إلى 6 جنيه في عام 2011، وإلى 27-30 جنيهاً اليوم.
[1] مجدي حماد، ثورة 23 يوليو 1952، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ص 162.
[2] بثينة عبد الرحمن التكريتي، جمال عبد الناصر نشأة وتطور الفكر الناصري، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2000، ص 189.