أزمة ممر زانجزور وتداعياتها.. كيف يمكن أن تغيّر أذربيجان مواقفها السياسية؟

إذا كانت الفوائد الاقتصادية تبرر حماس بعض الدول لمشروع ممر زانجزور، فإن الشكوك في النوايا السياسية لكل من تركيا وأذربيجان تفرض بعض الاختلافات في المواقف بين الأطراف المعنية به.

  •  ممر زانجيزور هو مشروع تركي/أذربيجاني يسعى للربط البري بين أذربيجان وجمهورية نخـﭽوان.
     ممر زانجيزور هو مشروع تركي/أذربيجاني يسعى للربط البري بين أذربيجان وجمهورية نخـﭽوان.

ليس سراً مدى الأهمية التي تحظى بها أذربيجان في المشروع الأميركي/التركي لتطويق الدول الرافضة للهيمنة الأميركية (الصين/روسيا/إيران) عبر آسيا الوسطى، والصراع على مصادر الطاقة.

وهي الأهمية التي تحدث عنها زبيغينيو بريجنسكي بوضوح في كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى: التفوق الأميركي وحتمياته الجيو إستراتيجية " حيث يقول: "وبالرغم من صغر مساحة أذربيجان وضآلة عدد سكانها، فإنها تعدّ، بما تملكه من مصادر طاقة كبيرة، حساسة جيوبوليتياً، سدادة الزجاجة الحاوية على ثروات حوض بحر قزوين وآسيا الوسطى، والتي يمكن أن تصبح بلا قيمة إذا أضحت أذربيجان خاضعة كلياً لسيطرة موسكو.

وأن أذربيجان المستقلة والمرتبطة بالأسواق الغربية بأنابيب نقل النفط التي لا تمر عبر أرض يسيطر عليها الروس، تصبح أيضاً صلة وصل رئيسة بين الاقتصادات المتقدمة والمستهلكة للطاقة من ناحية وبين الجمهوريات الآسيوية الوسطى الغنية بالطاقة من ناحية ثانية ".

 إن ما قاله مستشار الأمن القومي الأميركي السابق يفسر بدرجة كبيرة أسباب الانزعاج الإيراني من مشروع "ممر زانجيزور " الذي تسعى كل من أذربيجان وتركيا لإتمامه، كما يفسر كذلك سر الحماس الروسي الغريب لفكرة رفع الحصار عن الروابط الاقتصادية والنقلية في منطقة القوقاز، كونها ترى أن وضع الروابط النقلية تحت إشرافها سوف يسمح لها بالسيطرة على ممرات الطاقة العابرة من أذربيجان إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، وبالتالي امتلاك ورقة ضغط هامة في مواجهة العقوبات المفروضة عليها.

 ممر زانجيزور (ممر سيونيك): هو مشروع تركي/أذربيجاني يسعى للربط البري بين أذربيجان وجمهورية نخـﭽوان التابعة لها والذاتية الحكم، والتي ترتبط بدورها بحدود قصيرة مع تركيا من الجنوب تبلغ 8 كيلو متر، عبر ممر زانجيزور على طول الحدود بين أرمينيا وإيران.

وبالرغم من أن الممر لم يكن من بين بنود وقف إطلاق النار بين أذربيجان وأرمينيا عام 2020، فإنه طرح لاحقاً بواسطة الرئيس الأذري إلهام علييف في 2021 وتبنّته تركيا عقب المباحثات الثلاثية بعدما أبدت أرمينيا استعدادها للمشاركة في إعادة بناء خطوط السكك الحديدية السوفياتية التي تربط بين أذربيجان وجمهورية نخـﭽوان التابعة لها، بيد أن الموقف الأرمني كان رافضاً تماماً فكرة الممر، إذ أكد رئيس الحكومة نيكول باشينيان أن أرمينيا لن تسمح لأذربيجان أن يكون لها ممر من خلال الأراضي الأرمنية، وكان رد أذربيجان هو شن سلسلة من الهجمات على أرمينيا بهدف السيطرة على الممر، تحقيقاً لتهديدات إلهام علييف بأن بلاده ستحصل على الممر بالقوة إذا لم تقبل أرمينيا بالمشروع.

هناك فوائد اقتصادية من الممكن أن يؤدي إليها هذا المشروع، لعل أهمها أنه سيوجد طريق بري بين منطقة القوقاز وآسيا الوسطى وبين تركيا ومنها إلى أوروبا، وبالتالي فهو يعد ذا أهمية كبيرة للتجارة بين الشرق والغرب، ولا سيما بين الصين والاتحاد الأوروبي حيث بلغ حجم تبادلاتهما التجارية 560 مليار يورو في عام 2019، كما أنه يدعم التجارة بين تركيا والصين والتي بلغت في 2019 نحو 210 مليار يورو.

ولهذا السبب تقوم تركيا، كتمهيد لهذا الممر، بإنشاء خط سكك حديد قارص - نخـﭽوان. من ناحية أخرى، يوفر الممر فرصاً لتوسيع شبكة السكك الحديدية بين روسيا وأذربيجان وأرمينيا وتركيا وإيران.

 وإذا كانت الفوائد الاقتصادية تبرر حماس بعض الدول لهذا المشروع، فإن الشكوك في النوايا السياسية لكل من تركيا وأذربيجان تفرض بعض الاختلافات في المواقف بين الأطراف المعنية به، خاصة بالنسبة إلى الروس والصينيين، الذين يضعون المخاوف الإيرانية موضع الاعتبار حتى مع قبولهم له.

 بالنسبة إلى أذربيجان، فإن جانب الاستفادة الاقتصادي واضح، إذ سيعزز موقع أذربيجان كمركز لوجيستي بين الشرق والغرب، كما تطمح كل من أذربيجان وتركيا لزيادة التبادل التجاري بينهما عقب إنشاء الممر ليبلغ 15 مليار دولار، خاصة بعد توقيع البلدين اتفاقية التجارة التفضيلية، والتي منحت 30 سلعة أذرية ميزة تفضيلية في تركيا. لكن الأمر يتجاوز هذه المكاسب، إذ يتبنى الأذريون المشروع التركي في التواصل بين الأمم التركية، والمقصود بها دول آسيا الوسطى بالإضافة إلى تركيا وأذربيجان، وهو المشروع المدعوم من قبل حلف "الناتو" والولايات المتحدة الأميركية.

لكن ثمة مشكلة أخرى بخصوص أذربيجان ذاتها التي عادت لتبني نزعة توسعية، بدأت منذ عهد الرئيس الأذري الراحل أبو الفضل ألتـﭽـي باي ذي التوجهات الليبرالية والموالي لتركيا، تطالب بتوحيد أذربيجان الكبرى والتي تشمل في تصوراتها كلاً من أرمينيا ومساحة كبيرة من إيران والتي يعيش على أراضيها 20 مليون أذربيجاني، ومن المؤكد أن أذربيجان سيكون لها وضع قوي في حال تمكنت من إنشائه يمكنها من إثارة موضوع أذربيجان الكبرى لاحقاً.

 من ناحية تركيا، فإنها تسعى لتحقيق التواصل البري مع الدول الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى والتي يتجاوز إجمالي ناتجها المحلي تريليون دولار، ولكن ثمة أهداف أخرى لعل أهمها حصار النفوذ الإيراني المنافس لها في المنطقة، وقد بدأت هذه المحاولات بتأسيس منظمة الدول التركية في أكتوبر 2009، وتؤدي سيطرة أذربيجان على هذا الطريق الذي يقع على الحدود الإيرانية- الأرمينية إلى قطع الطريق الموصل بين إيران والقوقاز ثم أوروبا ووضعه تحت سيطرة الأتراك، ما سيهدد مسارات التجارة والطاقة الإيرانية، والأهم تهديد وحدتها السياسية كذلك، ومن الواضح أن الأتراك يدركون مدى أهمية أذربيجان لمشروعهم المدعوم من "الناتو"، وبالتالي يرون ضرورة تقوية علاقاتهم مع الأذريين بناء على الانتماء التركي خوفاً من استغلال إيران للانتماء الديني المشترك بينها وبين أذربيجان، حيث يسود المذهب الشيعي الإثنى عشري في البلدين، ومن الملاحظ أن مشروع أذربيجان الكبرى كان موجهاً لإيران بالأساس في محاولة لعزل أذربيجان عن النفوذ الإيراني.

 أما الجانب الروسي، فثمة اعتقاد أن إنشاء هذا المشروع (ممر زانجزور) سوف يدعم النفوذ الروسي في منطقة القوقاز، كما سيحقق للروس السيطرة على حركة انتقال الطاقة إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، وربما يعتقد الروس أنه بالإمكان السيطرة مستقبلاً على ممارسات الأذريين والأتراك في حال تم الاتفاق على أن يكون المشروع تحت سيطرتهم الأمنية، لكن من الواضح أن كلاً من تركيا وأذربيجان وحتى أرمينيا يسعون لتحييد الجانب الروسي، خاصة مع رغبة الأذريين بالسيطرة المطلقة على الممر، الأمر الذي قلل من حماس روسيا لدعمه، وهو ما يفسر نجاح إيران في عرقلته (أي ممر زانجزور) حتى الآن.

لماذا يدعم الأميركيون والغرب المشروع التركي؟ 

 هناك عدد من الأهداف التي يرغب الأميركيون في تحقيقها عبر دعم المشروعات التركية في المنطقة لعل أهمها: تطويق إيران وإضعاف نفوذها في المنطقة عبر الدولتين التركيتين فتركيا عضو في "الناتو"، بينما أذربيجان تعد دولة مقربة من الغرب.

 أما الهدف الثاني، فهو احتواء المحور الرافض لهيمنتها (روسيا، الصين، إيران) عبر إثارة النزعات العرقية والدينية داخل أراضيه، حيث سيؤدي صعود النبرة الوحدوية التركية المشوبة بالتوجهات الدينية إلى العديد من المشكلات للدول الرافضة للهيمنة الأميركية، وخاصة روسيا التي يعيش فيها 13 مليون متحدث بالتركية. الصين كذلك، والتي يتحدث نحو 14 مليون من مواطنيها بلغات تركية، لديها العديد من المشكلات في منطقة شينجيانج التي تقطنها عرقية الويغور التركية، وقد سبق بالفعل أن تعرضت العلاقات الصينية- التركية لأزمة في 2019 بعد الاتهامات التي وجهت للصين باضطهاد الويغور[1]. كما ستعاني إيران أيضاً حيث يشكل الأتراك الأذريون ثلث الشعب الإيراني، بالإضافة إلى التركمان والقشقايي.

 كذلك ترغب الولايات المتحدة في دعم النموذج الأذربيجاني كنموذج لدولة علمانية تدين غالبية سكانها بالمذهب الشيعي، ولديها علاقات قوية مع الغرب والكيان الصهيوني، وبالتالي محاولة تقليص نفوذ النموذج الثوري الديني لإيران على الشيعة في العالم، عبر استقطاب أبناء الطائفة لنموذج مقابل يناسب مصالح الولايات المتحدة وممثليها في كل من الشرق العربي وآسيا الوسطى.

 الموقف الإيراني

بالرغم من القلق الإيراني تجاه المواقف السياسية لأذربيجان وعلاقتها مع الكيان الصهيوني وحلف "الناتو"، فإن المسؤولين الإيرانيين يدركون أن لا مجال للصدام مع أذربيجان نتيجة الروابط التاريخية والدينية بين البلدين، وبالتالي يسعى الإيرانيون إلى محاولة ترسيخ علاقتهم مع الدول الناطقة بالفارسية في آسيا الوسطى (أفغانستان وطاجيكستان) حيث تمثل الدولتان حاجزاً جغرافياً في مواجهة هذا المشروع، كما يبدو من اللقاءات المكثفة بين الإيرانيين والأذريين في الفترة الأخيرة رغبة البلدين في عدم الذهاب بعيداً في هذا الخلاف، إلا أن هذه النوايا لا تغني عن محاولات إيران الحثيثة لتغيير السلوك والسياسات الأذرية.

وفي هذا الشأن، سيكون على إيران، التي تمتلك نفوذاً كبيراً في الشارع الشيعي الأذري المتدين، الضغط بقوة لتحقيق أهدافها ومحاولة الفصل بين جارتها الشيعية والمشروعات التركية المدعومة أميركياً، وتدعمها في تحقيق هذا الهدف التغيرات الأخيرة.

ففي أكتوبر 2023 نجحت إيران في إقناع أذربيجان بمبادرة (ممر أراس) حيث توصل الجانبان إلى اتفاق على إنشاء هذا الممر الذي يضم شبكة من الطرق السريعة والسكك الحديدية العابرة للحدود تقوم بالربط بين إقليم زانجيلان الأذري ومحافظة أذربيجان الشرقية ما يمكن الأذريين من الوصول إلى إقليم نخـﭽـوان، كما تسوق إيران لممر النقل الدولي الشمالي الجنوبي (INSTC) والذي تتواصل الأعمال لإنشائه، وأهمها التوقيع على بناء خط سكك حديد يربط بين مدينتي رشت الإيرانية وأستارا الأذرية، ويربط الممر بين موانئ الهند في المحيط الهندي وبين المدن الروسية مروراً بإيران وأذربيجان وصولاً إلى مدينة سان بطرسبورغ الروسية على بحر البلطيق، ثم عواصم الشمال الشرقي الأوروبية في بيلاروسيا وفنلندا ولاتفيا وأستونيا

من المؤكد أن نجاح إيران في إقناع أذربيجان بالتفاعل مع هذا الممر الدولي يمثل ضربة للنفوذ التركي في أذربيجان وإحياء للعلاقات التاريخية والدينية بين الأخيرة وبين إيران.

ورغم أن أذربيجان لن تتوقف عن محاولات الحصول على ممر زانجزور، إلا أن محاولاتها لن تكون بالقوة نفسها، فالتقارب الأرميني المتصاعد مع أميركا منذ صعود نيكول باشينيان للسلطة في 2018 بفضل ثورة ملونة، إلى درجة التوقيع منتصف شهر يناير الماضي على اتفاق تعاون استراتيجي في مجالات الاقتصاد والدفاع والأمن، والذي سبقه قيام الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بضخ 65 مليون دولار من المساعدات لأرمينيا، قد يجبر أذربيجان، التي حرصت على إبعاد الروس عن مشكلاتها لأسباب تاريخية، على إعادة تموضعها حفاظاً على مكتسباتها من الحرب الأخيرة، وهو ما سيقرب بين مواقفها وبين موقف المحور الرافض للهيمنة الأميركية.

 إن أذربيجان تمثل سدادة الزجاجة الحاوية على ثروات بحر قزوين وآسيا الوسطى، كما يقول بريجنسكي، ولذلك فهي حجر الزاوية في المشروع التركي الإردوغاني، وإذا كان من السيئ أن تكون تحت سيطرة الروس بالنسبة إلى الأميركيين، فكذلك مرفوض أن تكون تحت سيطرة إيران ، وفي حال نجحت إيران في تقليص وإضعاف النفوذ التركي فيها وربطها بالمحور المناهض للهيمنة الأميركية، فإن المشروع التركي سيصبح في حكم الميت أكلينيكياً، ومع فقدان التواصل مع دول آسيا الوسطى، لن يكون بمقدور المشروع التركي المواصلة، بالقوة نفسها، في محاولة فرض نفوذه في الشرق العربي وصولاً إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي.