أثينا وعودة المخاوف من التحرّكات العسكرية التركية
استثمار أثينا في علاقاتها العسكرية مع الولايات المتحدة الأميركية، يبدو أكثر إلحاحاً بالنظر إلى التطوّرات في الاستراتيجية العسكرية التركية، خاصة في ظلّ التطوّرات التي طرأت مؤخّراً في سوريا.
تدخل كلّ من اليونان وتركيا العام الجديد 2025، بذهنيّة تختلف كلّياً عن الذهنية التي بدا أن العلاقات بينهما قد دخلتها في كانون الثاني/يناير 2024. ففي كانون الثاني/يناير الماضي، دشّنت واشنطن "معادلة توازن" جديدة بين البلدين على المستوى العسكري، بعد موافقتها على احتمالية بيع مقاتلات الجيل الخامس "أف-35" إلى أثينا، واحتماليّة بيع المزيد من مقاتلات "أف-16" إلى تركيا، وذلك بعد انضمام أنقرة إلى دول حلف الناتو الموافقة على انضمام السويد إلى الحلف.
وعلى الرغم من أنّ هذه "المعادلة"، ظلّت من وجهة النظر التركية، غير متوازنة، بالنظر إلى الفارق الكبير في القدرات القتالية بين مقاتلات "أف-35" الشبحيّة، والنسخ الأحدث من مقاتلات "أف-16"، إلا أنّ أنقرة في الوقت نفسه نظرت إلى هذه التسوية، كحلّ مرحليّ يضمن وقف التدهور الذي شاب العلاقات بينها وبين واشنطن خلال السنوات الأخيرة ـــــ
والذي مثّل استبعاد أنقرة من برنامج تصنيع وتطوير مقاتلات "أف-35" أحد أهم ملامحه ـــــ وفي الوقت نفسه يوفّر لسلاح الجو التركي فرصة لتحسين الوضع العملياتيّ لأسطوله من الطائرات المقاتلة، خاصة أنّ عملية دخول مقاتلات "أف-35" في الخدمة لدى سلاح الجو اليوناني، ستبدأ عملياً عام 2028 وستستمرّ حتى عام 2033.
كان الرهان التركي في هذا الصدد، يضع في الاعتبار إمكانية عدم مضيّ أثينا في صفقة مقاتلات "أف-35"، أو على الأقلّ عدم قدرتها - على المستوى المادي - على الإيفاء بمتطلّبات هذه الصفقة الضخمة، التي كانت تتضمّن شراء نحو 40 مقاتلة من هذا النوع، بقيمة تناهز 9 مليارات دولار، وهو ما تحقّق جزئياً، حيث وقّعت أثينا في تموز/يوليو الماضي، صفقة شراء 20 مقاتلة فقط من هذا النوع، بقيمة إجمالية تصل إلى 3.76 مليارات دولار، مع إمكانية زيادة العدد في المستقبل، وهو عدد أقلّ ممّا كان متوقّعاً، لكنه يبقى كافياً لمنح سلاح الجو اليوناني، قدرة ضاربة معتبرة، سواء على مستوى مهام القصف الدقيق والعميق، أو فرض السيادة الجوية.
تسريع التفاوض التركي حول "تايفون"
توقيع صفقة مقاتلات "أف-35" بشكل رسمي، وكذا الدخول المتتالي للمقاتلات الفرنسية "رافال" في سلاح الجو اليوناني، الذي بات يملك حالياً 18 مقاتلة من هذا النوع، ضمن تشكيلاته العاملة، من بينها 12 مقاتلة كانت تخدم سابقاً في سلاح الجو الفرنسي، و6 مقاتلات جديدة، كانت هذه جميعاً حوافز كافية لشروع أنقرة في جهد استثنائي، لدفع المفاوضات الشاقة التي أطلقتها منذ عام 2021، مع تجمّع الدول الأوروبية المصنّعة لمقاتلات "يوروفايتر تايفون"، وتحديداً ألمانيا وبريطانيا وإسبانيا وإيطاليا، خاصة أنه بات من الواضح أنّ عمليات تحديث مقاتلات "أف-16" الأميركية في الترسانة التركية، سوف تأخذ وقتاً طويلاً، بالنظر إلى أن هذه العمليات ستتمّ بأيادٍ تركية.
مسار التفاوض التركي مع الدول الأربع، كان إطاره الرئيسي الممانعة الألمانية الشديدة لحصول تركيا على هذا النوع من المقاتلات، حيث ظلّ الموقف الألماني في هذا الصدد على حاله، رغم نجاح أنقرة في الحصول على الموافقة المبدئية من بريطانيا وإيطاليا وإسبانيا على التوالي، وكان الدافع الألماني الأساسي في هذا الرفض، هو الموقف التركي في ملفات ترتبط بحقوق الإنسان، وكذا العمليات العسكرية التركية في دول مثل العراق وسوريا، لكن تمكّنت تركيا في النهاية من حلحلة الموقف الألماني، وأعلن بشكل رسمي منتصف تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، عن موافقة ألمانيا على بيع 40 مقاتلة من هذا النوع إلى تركيا.
أهمية هذه الخطوة لم تقتصر فقط على الرفع المستقبلي للقدرات القتالية لسلاح الجو التركي، بل تضمّنت أيضاً دلائل مهمة ترتبط بإمكانية التعاون التركي مع كبرى الدول الأوروبية على مستوى التصنيع العسكري، بما يمنح أنقرة خلال المدى المنظور، أفضليّة ممتدّة الأثر أمام اليونان، خاصة على المستوى الجوي.
تضاف إلى هذه الخطوة، خطوة تركية أخرى لا تقلّ في أهميتها، ألا وهي شروع شركة "روكيتسان" التركية للصناعات الصاروخية، في تطوير نسخ فرط صوتية من الصاروخ الباليستي قصير المدى "تايفون". هذا الصاروخ في نسخته الحالية، يمثّل في حدّ ذاته مبعث قلق كبير لأثينا، منذ أول اختبار ناجح تمّ عليه في تشرين الأول/أكتوبر 2022، وحينها أصاب بشكل دقيق هدفاً يقع على بعد 561 كيلومتراً، بزمن تحليق بلغ 458 ثانية، وهو ما اعتبر حينها بمثابة إنجاز مفصلي للصناعات الصاروخية التركية، حيث كانت هذه المرة الأولى التي يتمّ اختبار صاروخ يتجاوز مدى تحليقه حاجز الـ 300 كيلومتر.
تعمل أنقرة حالياً على تطوير نسخة فرط صوتية من هذا الصاروخ، وهو ما يعني عملياً تشكيل تهديد جدّي على المواقع العسكرية اليونانية الأساسية، بما في ذلك القواعد الجوية وكتائب الدفاع الجوي، والتي أصبحت جميعها بشكل عملي، ضمن مدى التهديف المستقبلي للمقاتلات والصواريخ التركية.
ردّ فعل يوناني سريع على التحرّكات التركية
في ضوء المشهد السالف ذكره، عكفت أثينا على سلسلة من الخطوات المتسارعة، لملاحقة التحرّكات التركية، ومحاولة سدّ الثغرات الناتجة عن هذه التحرّكات. المحور الأول في هذه الخطوات كان تطبيق تعديلات جذرية في المسار العسكري اليوناني، عبر المصادقة الشهر الماضي، على موازنة دفاعية قياسية، بلغت 6.5 مليارات دولار، أي ما يناهز 6.1 مليارات يورو، بنسبة ارتفاع تقارب 73 في المئة، مقارنة بالموازنة الدفاعية لعام 2019. اللافت في هذا الإطار، أنّ هذه الموازنة قد حظيت بدعم حزبي شبه كامل، بما في ذلك أحزاب المعارضة الرئيسية في البرلمان اليوناني، كما أنّ نسبة الموازنة الدفاعية اليونانية من الناتج المحلي ـــــ وتبلغ 3 في المئة ـــــ تعتبر عملياً الأكبر بين معظم دول الاتحاد الأوروبي.
الحاجة اليونانية لهذه الموازنة القياسية، لا ترتبط فقط بالصفقات العسكرية المرتقب توقيعها أو استلامها خلال المدى المنظور فقط، بل ترتبط أيضاً بسلسلة من المشاريع العسكرية طويلة الأمد، على رأسها مشروع "القبة الدفاعية"، الذي تمّ البدء في دراسته منتصف عام 2022، ويتلخّص في تكوين ما يشبه "منطقة دفاع جوي موحّدة"، تشمل قطاعات المجال الجوي اليوناني كافة، تستهدف مواجهة أنشطة الطائرات المسيّرة التركية، خاصة في منطقة بحر إيجة، سواء عبر التشويش عليها أو عبر استهدافها بشكل مباشر، عبر شبكة دفاع جوي شاملة متعددة الطبقات، تشمل كامل المجال الجوي اليوناني، من أيفرس شمالاً إلى كريت جنوباً، ولعل هذه الخطة كانت من أهم أسباب بدء وزارة الدفاع اليونانية في نيسان/أبريل الماضي، التفاوض مع شركة "رافائيل" الإسرائيلية، لشراء منظومة الدفاع الجوي الصاروخي قصيرة المدى "سبايدر"، المتخصصة في عمليات مكافحة الأنشطة الجوية المسيّرة.
يضاف إلى ذلك تطبيق بعض الإصلاحات الهيكلية في البنية العسكرية اليونانية، عبر إطلاق عدة إجراءات أساسية، من بينها إقرار مجلس الوزراء اليوناني في آذار/مارس الماضي، مشروع قانون قدّمته وزارة الدفاع اليونانية، بشأن الابتكار الدفاعي، والذي يعتبر بداية جديدة لعمليات التصنيع والتطوير العسكري اليونانية، عبر إنشاء مركز للتطوير والبحوث في مجال التقنيات ذات الاستخدام المزدوج، خاصة التقنيات المسيّرة، التي تحاول أثينا منذ سنوات اللحاق بأنقرة فيما يرتبط بعمليات تطويرها، وقد كان من أهم نتائج تدشين هذا المركز، إعلان هيئة الصناعات الجوية اليونانية، أوائل عام 2023، عن البدء في عمليات تطوير وصناعة أول طائرة هجومية من دون طيار محلية الصنع، تحت اسم "جريباس"، بهدف البدء في اختبارات التحليق الأولية الخاصة بها بحلول العام الجاري 2025.
مشروع القانون الذي قدّمته وزارة الدفاع اليونانية، تضّمن أيضاً العديد من الإصلاحات الأخرى، من بينها تحديث الإطار المؤسسي للمؤسسات التعليمية العسكرية العليا، وإنشاء هيئة مشتركة لتكنولوجيا المعلومات لجميع فروع القوات المسلحة اليونانية الثلاثة، بهدف تطوير البنية التحتية الرقمية لمعالجة تحديات الأمن السيبراني، وإنشاء قسم للذكاء الاصطناعي وقسم لتحليل البيانات الضخمة. وقد تمّ تعزيز هذه الإصلاحات في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، عبر إعلان وزير الدفاع اليوناني، عدة تغييرات على الخدمة العسكرية الإلزامية، من المقرّر تنفيذها خلال العامين المقبلين، تتضمّن السماح للجنود بالتجنيد طواعيّة بشكل منتظم، بمن في ذلك النساء، وكذلك ترقيات للزي العسكري والمعدات، على أن تستغرق عملية تطبيق هذه التغييرات نحو ثلاث سنوات لتعديل النظام الاحتياطي.
بعد ذلك بشهر واحد، قدّم وزير الدفاع اليوناني للبرلمان، خطة تفصيلية لإصلاح المؤسسة العسكرية، بهدف تحقيق قدر أكبر من الكفاءة والتحديث في جميع فروع القوات المسلحة اليونانية. تركّز هذه الخطة على تحسين أوضاع الأقسام الثلاثة الرئيسية في الجيش اليوناني ـــــ الجيش والبحرية والقوات الجوية ـــــ لتلبية الاحتياجات التشغيلية الحالية بشكل أكثر فعّالية، وتشمل هذه الخطة حلّ ما لا يقلّ عن ست كتائب مشاة تعاني من نقص في المجنّدين، وإعادة تخصيص الأفراد لوحدات أخرى، وإغلاق نحو 132 مرفقاً عسكرياً غير مستغَلّ، بحلول عام 2030.
تكثيف عمليات شراء المنظومات القتالية الجديدة من جانب اليونان
تضمن الخطة التفصيلية سالف الذكر، بنوداً هامة ترتبط بالقوات الجوية اليونانية، منها ما يرتبط بتحويل التركيز في عمليات الصيانة وإطالة العمر التشغيلي، على ثلاثة أنواع أساسية من الطائرات المقاتلة، وهي مقاتلات "أف-16" و"رافال" إلى جانب مقاتلات "أف-35" التي سيتمّ الحصول عليها خلال المدى المنظور، هذا إلى جانب العمل على الإخراج التدريجي لمقاتلات "ميراج-2000" من الخدمة في سلاح الجو اليوناني، واستكمال عمليات تحديث مقاتلات "أف-16" بلوك 50، الموجودة في الخدمة الفعلية، إلى المعيار "فايبر".
النقطة الأهم في هذه الخطة على المستوى الجوي، ترتبط بأنها تضمّنت الإشارة إلى عملية التفاوض على شراء ست مقاتلات جديدة من نوع "رافال" من فرنسا، ما يرفع عدد هذه المقاتلات في صفوف القوات الجوية اليونانية إلى 30 مقاتلة، علماً أنّ أثينا قد أعلنت في أيار/مايو الماضي، أنها تتفاوض مع فرنسا، على شراء 40 مقاتلة إضافية من هذا النوع، بهدف استبدال المقاتلات المتقادمة من نوع "ميراج-2000"، وهو ما يرفع بشكل قياسي من كفاءة سلاح الجو اليوناني، خاصة في ظل القدرات المتفوّقة للنسخة "أف-4" من مقاتلات "رافال"، والتي ستعمل بشكل متكامل مع مقاتلات "أف-35" الشبحية، والمقاتلات اليونانية المحدّثة من نوع "أف-16"، التي تمّ إعلان إتمام تحديث المقاتلة رقم 20 منها إلى المعيار "فايبر" في تموز/يوليو الماضي.
يضاف إلى ما سبق، سعي أثينا إلى إضافة المزيد من الوسائط الجوية المتطوّرة إلى ترسانتها، فدخلت منتصف العام الماضي في مفاوضات مع الولايات المتحدة الأميركية، لشراء أربع طائرات صهريج جويّ مستعملة، من نوع "كي سي ـــــ 135"، ومنحت واشنطن شركة "سيكورسكي" للصناعات الجوية، عقداً في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، لتزويد اليونان بـ 35 مروحية من نوع "بلاك هوك"، يتوقّع أن يتمّ تسليمها بين عامي 2027 و2028، إلى جانب ملفات أخرى للتعاون بين الجانبين على المستويين الجوي والبحري، تضمّن التفاوض على شراء الطائرات الأميركية من دون طيار "أم كيو-9"، والتفاوض على تنفيذ برنامج للتصنيع المشترك لفرقاطة جديدة من الفئة "كونستليشن"، بهدف دعم الأسطول الهجومي اليوناني، الذي سيشهد أيضاً تغيّرات هامّة في المدى المنظور، مع إدخال أربع فرقاطات جديدة من الفئة "أف دي أي"، لتحلّ محلّ الفرقاطات القديمة من الفئة "أس"، والاستحواذ المستقبلي على كورفيتات جديدة، من خلال برنامج "إي بي سي" التابع للاتحاد الأوروبي.
حقيقة الأمر أنّ استثمار أثينا في علاقاتها العسكرية مع الولايات المتحدة الأميركية، يبدو أكثر إلحاحاً بالنظر إلى التطوّرات السالف ذكرها في الاستراتيجية العسكرية التركية ـــــ خاصة في ظلّ التطوّرات التي طرأت مؤخّراً في سوريا، والتي قد يرتبط بها تطوّرات لاحقة في ليبيا وشرق المتوسط ـــــ لذا تبدو الاستراتيجية اليونانية الحالية، مرتكزة على دعم هذه العلاقات وتوسيعها، خاصة بعد أن نجحت في رفع مستوى هذه العلاقات، لتتضمّن وجود عسكري أميركي في مواقع استراتيجية متعددة في جميع أنحاء اليونان، بما في ذلك القواعد العسكرية اليونانية في قاعدة خليج سودا البحرية، وقاعدتا "لاريسا" و"ألكسندروبولي".
هنا لا بدّ من الإشارة إلى أن أثينا قد ناورت بشكل واضح بملف الدعم العسكري المقدّم لأوكرانيا، من أجل الحصول على ما تحتاجه من قدرات عسكرية من الولايات المتحدة الأميركية، فمن جهة تفادت ـــــ حتى الآن ـــــ الرضوخ للضغط الأميركي الدافع نحو إرسال منظومات الدفاع الجوي متوسطة/بعيدة المدى "أس-300" التي يمتلكها الجيش اليوناني إلى أوكرانيا، وذلك عبر تسويق دواعٍ استراتيجية "منطقية"، أهمها عدم امتلاك أثينا بديلاً مكافئاً لهذه المنظومات، يمتلك القدرة على سدّ الفجوة التي ستنتج عن غياب هذه المنظومة من شبكة الدفاع الجوي اليونانية. لكنّها في الوقت نفسه قدّمت دعماً بالذخائر والأسلحة المتوسطة إلى الجيش الأوكراني، وأعلنت الشهر الماضي، أنها ستزوّد الجيش الأوكراني بنحو 24 صاروخاً مضاداً للطائرات، من نوع "سي سبارو" قصيرة المدى، من مخزونات البحرية والقوات الجوية اليونانية.
المساعي اليونانية الحالية في هذا الصدد، تستهدف إقناع واشنطن بمنح الجيش اليوناني، قدرات صاروخية متفوّقة، كمحاولة للردّ على عمليات تطوير الصواريخ الباليستية من جانب أنقرة، والحديث هنا يدور حول "صاروخ الضربة الدقيقة"، المسمّى "بي أر إس إم"، حيث يدرس الجيش اليوناني حالياً، ترقية ثلثي أسطوله من الراجمات الصاروخية الأميركية الصنع "هيمارس"، إلى مستوى "إيه-2"، بما يسمح بإطلاق هذا النوع من الصواريخ، الذي يصل مداه إلى 400 كيلومتر، وهو ما سيسمح للجيش اليوناني بامتلاك قدرة صاروخية مكافئة للتطوّرات الحالية في الراجمات الصاروخية التركية.