مخاوف أميركية متزايدة من الهيمنة العسكرية الجوية لبكين
المساعي الأميركية لتطوير مقاتلات الجيل السادس تسير في مسار متقدّم، إلا أنّ الخطوة الصينية "الجريئة"، بالكشف للمرة الأولى عن نماذج مقاتلات الجيل السادس الخاصة بها، تشير إلى مساعٍ صينية لإرباك أميركا.
أثارت عدّة تحرّكات جوية للجيش الصيني خلال الأسابيع الماضية، مخاوف جدّية لدى واشنطن من تطوّر التوجّهات العسكرية لبكين، لتركّز على تحقيق "الهيمنة الجوية" على المستوى الإقليمي ـــــ وربما الدولي ـــــ وهو ما يضاف إلى التطوّر المتسارع الذي طرأ على القوة البحرية والقوة الصاروخية والقوة المسيّرة للجيش الصيني على مدار السنوات الماضية. التحرّك الجوي الأول لبكين تمثّل في الكشف بشكل عملي للمرة الأولى أواخر الشهر الماضي، عن طائرتين مقاتلتين جديدتين ـــــ يعتقد أنهما تنتميان للجيل السادس من المقاتلات ـــــ أجرت كلّ واحدة منهما تحليقاً تجريبياً على مدار يومين متتاليين، احتفالاً بذكرى ميلاد الزعيم الصيني ماوتسي تون.
أمّا التحرّك الثاني فيرتبط بملف تايوان، حيث نفّذت القوات البحرية الصينية في التوقيت نفسه، ما يمكن وصفه بأنه التحرّك البحري الأكبر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بعد أن أجرت مناورات بحرية في المياه المحيطة بتايوان، شملت نحو 40 قطعة بحرية، وتضمّنت تنفيذ غارات جوية وهمية على السفن، والتدرّب على تنفيذ عمليات الحصار البحري والجوي، كما تضمّنت أيضاً التدرّب على عمليات استهداف نماذج لمرافق عسكرية تايوانية وأميركية، منها نموذج طبق الأصل كامل الحجم من مطار "تايتشونغ" الدولي في تايوان، تمّ تشييده في صحراء جوبي، ونموذج آخر بالحجم الطبيعي لحاملة طائرات أميركية من الفئة "فورد"، إلى جانب نماذج مجسّمة لمدمّرات أميركية موضوعة على قضبان، لمحاكاة عمليات المناورة التي قد تحاول القطع البحرية تنفيذها لتفادي الاستهداف الجوي.
تكريس الخشية الأميركية من وصول بكين لـ "الهيمنة الجوية"
حقيقة الأمر أنّ المخاوف الأميركية من زيادة التركيز الصيني على تطوير قواتها الجوية، تمّ التعبير عنها بشكل واضح ومفصّل، من خلال تصريحات أدلى بها في أيلول/سبتمبر 2022، الجنرال مارك دي كيلي، الذي كان آنذاك رئيساً لقيادة القتال الجوي (ACC)، قال فيها إن سلاح الجو الأميركي، رصد محاولات صينية لتطوير أنظمة قتال جوي، مماثلة لما تسعى الولايات المتحدة الأميركية لتطويره، من خلال برنامج الهيمنة الجوية للجيل المقبل من المقاتلات ـــــ الذي يعرف اختصاراً باسم (NGAD) ـــــ بما في ذلك طائرة مقاتلة مأهولة تنتمي للجيل السادس.
هذا التصريح تمّ تأكيد مضمونه الشهر الجاري، خلال تصريحات أدلى بها العميد دوج ويكرت، قائد السرب الاختباري 412، المتمركز في قاعدة "إدواردز" الجوية الأميركية، ويعدّ أحد أهمّ الأسراب التدريبية في سلاح الجو الأميركي، حيث قال ويكرت إن التقديرات الأميركية تشير إلى أنه بحلول عام 2027، سيحظى الجيش الصيني في النطاق الواقع غرب "خط التاريخ الدولي" ـــــ أي في نطاق آسيا وأفريقيا ـــــ بتفوّق عددي ونوعي كبير، مقارنة بالوجود العسكري الأميركي في هذه المناطق.
سيتفوّق الجيش الصيني بنسبة 12 إلى 1 في ما يتعلق بأعداد الطائرات المقاتلة الحديثة ـــــ بما في ذلك تفوّق بنسبة 5 إلى 3 في طائرات الجيل الخامس ـــــ إلى جانب تفوّقه بنسبة 3 إلى 1 في أعداد طائرات الدوريات البحرية، مع تفوّق كاسح فيما يتعلّق بالقاذفات، حيث يصل عددها في ترسانة سلاح الجو الصيني إلى 225 قاذفة على الأقل.
أما على المستوى البحري، فيتمتّع الجيش الصيني بتفوّق فيما يتعلّق بحاملات الطائرات وسفن الإنزال البرمائي، تبلغ نسبته 3 إلى 1، وتفوّق مماثل فيما يتعلّق بـ الغوّاصات والقطع البحرية متعدّدة المهام، تبلغ نسبته في الأولى 6 إلى 1، وفي الثانية 9 إلى 1.
إذاً مما سبق يمكن استخلاص تصاعد المخاوف الأميركية من التطوّر المتسارع في التسليح الجوي الصيني، وهو ما تكرّس من خلال التحليق الأول لطائرتين مقاتلتين جديدتين، تحملان ملامح متعددة لمستقبل مقاتلات "الجيل السادس". وعلى الرغم من عدم توفّر معلومات كافية عن قدراتهما، إلا أنّ المعروف أنّ إحداهما تسمّى "J-36"، وتمّ تصميمها بشكل مثلّث "دلتا" عديم الذيل، وتمّ تزويدها بثلاثة محرّكات، لتصبح بمثابة مقاتلة متعدّدة المهام شبحيّة التصميم، مع احتمالية كبيرة لأنّ تمتلك القدرة على التحليق بسرعات فرط صوتية من دون استخدام تقنية "الحارق اللاحق"، التي تقتضي استخدام كامل القدرة التشغيلية للمحرّكات الجوية.
هذه الخصائص تكفي ـــــ على الأقلّ في الوقت الحالي ـــــ لاعتبار أنّ الصين تتجه حالياً إلى تفعيل معادلة جوية أساسية، تجمع بين الأداء الأسرع من الصوت، والقدرات الشبحيّة متعدّدة الجوانب، وهذا أيضاً ـــــ للمفارقة ـــــ هو أحد أهم أهداف البرنامج الأميركي المسمّى "برنامج الهيمنة الجوية للجيل المقبل من المقاتلات"، والذي أصبح شبه متوقّف في الوقت الحالي، بسبب اعتبارات مالية وإجرائية.
ولعلها مفارقة ـــــ متكرّرة في تاريخ الصناعات العسكرية الصينية ـــــ أن يكون تصميم الطائرتين الجديدتين، مستوحى من تصميمات طائرات مقاتلة سبق وحاولت واشنطن إنتاجها في مناسبات سابقة، خاصة طائرة "Hopeless Diamond"، وهي أوّل تصميم لطائرة شبحيّة التصميم، تمّ العمل على تطويرها من جانب شركة "لوكهيد مارتن" الأميركية في سبعينيات القرن الماضي، لكنها لم تتمكّن من التحليق بشكل عملي، كما أنه يمكن ربط تصميم الطائرتين الصينيتين، بتصميمات لطائرات أميركية أخرى، مثل الطائرة القتالية المسيّرة "X-47"، التي تطوّرها منذ عام 2003 شركة "نورثروب جرومان" الأميركية.
النقطة الأهم في هذا الصدد، ترتبط بأنّ واشنطن باتت على يقين أنّ عمليات تطوير سلاح الجو الصيني، تضمّ في طيّاتها إنتاج مجموعة جديدة من الأنظمة الجوية المأهولة وغير المأهولة المتطوّرة، يتمّ تصميمها لتعمل في الميدان القتالي بشكل تكاملي، يتمّ من خلاله توزيع المهام عليها ضمن أسراب موحّدة، وهذا ربما يفسّر تحليق المقاتلتين الجديدتين، بمعيّة مقاتلات أخرى في الخدمة لدى سلاح الجو الصيني، هما المقاتلة الشبحيّة "J-20"، والمقاتلة متعدّدة المهام "J-16". لكن هنا يجب أن نضع في الاعتبار أنّ هناك أنواعاً أخرى من الطائرات الصينية المتقدّمة، لم يتمّ الكشف عنها بشكل رسمي حتى الآن، مثل القاذفة الشبحية "H-20"، التي ألمحت بكين للمرّة الأولى عن بدء عمليات تطويرها عام 2016.
الجهود الصينية في هذا الإطار، لم تقتصر فقط على تطوير مقاتلات متقدّمة، بل شملت أيضاً تطوير تقنيات داعمة مختلفة، تشمل آليات التحليق والقتال بشكل مشترك بين المقاتلات المأهولة والطائرات من دون طيار، واستخدام الذكاء الاصطناعي في عمليات إدارة النيران، فضلاً عن أجهزة الاستشعار والأسلحة المتقدّمة التي سيتمّ تجميعها كجزء من بنية القتال الجوي الأوسع نطاقاً في الصين في المستقبل.
وكذلك تُبذل الجهود لتطوير التسليح الخاصّ بمقاتلات الجيل السادس، حيث تقوم بكين في الوقت الحالي بتطوير صواريخ اشتباك جوي فرط صوتية، يمكن أن تتعامل مع الأهداف الجوية الفرط صوتية، والقاذفات الشبحيّة مثل القاذفة الأميركية الجاري تطويرها حالياً "B-21"، وهو ما سيعطي للصين مستوى إضافياً من الأفضلية على المستوى الجوي، حيث سيوفّر تجهيز الطائرات المقاتلة بهذا النوع من الصواريخ، إمكانية تدمير الأهداف الجوية خارج مدى الرؤية البصرية خلال ثوانٍ معدودة.
تايوان في ذهنية التطوير التسليحي الصيني
إذا ما وضعنا جانباً مسألة التنافس الصيني مع الولايات المتحدة الأميركية حول برامج مقاتلات الجيل السادس، تظهر نقطة أخرى بالغة الأهمية في هذا الإطار، ترتبط بما يمكن أن نعتبره "تجهيزاً" من جانب بكين، لعملية تبدو محتملة للغاية في المدى المنظور، لإعادة السيطرة على تايوان، حيث بات من الواضح أنّ امتلاك قدرات عسكرية تساعد على تحقيق هذا الهدف، يعتبر من المحرّكات الأساسية للاستراتيجية الصينية على المستوى التسليحي.
من المنظور العسكري، ستكون القوة الجوية التي تقودها الولايات المتحدة، والتي تتألّف من القوات الجوية الأميركية وحاملات الطائرات التابعة للبحرية الأميركية، بدعم من اليابان وأستراليا وتايوان وربما كوريا الجنوبية وغيرها، هي الطرف الأساسي الذي ستواجهه القوات الصينية في حالة مهاجمتها لأراضي تايوان، وهي قوة جوية كبيرة ومتفوّقة، من الممكن أن تعيق العمليات البحرية والبرمائية للصين، لذا فإنّ القدرة على التصدّي الجوي تشكّل أهمية بالغة بالنسبة للصين، وهو ما يمكن اعتباره تفسيراً منطقياً للجهد الصيني الحالي فيما يتعلّق بمقاتلات الجيل السادس، التي ستوفّر لبكين القدرة على مواجهة القدرة الجوية الأميركية.
يضاف إلى ذلك الاهتمام الصيني المتزايد بالأنظمة الصاروخية الفرط صوتية، وهو اهتمام يرتبط في جانب منه بالاحتماليات الكبيرة لأن تؤدّي الهجمات المتعددة الأسرع من الصوت من اتجاهات مختلفة، إلى تعقيد الدفاع الصاروخي الأميركي الذي يحمي القواعد الرئيسية الموجودة في منظومة الدفاع عن تايوان، مثل تلك الموجودة في جزيرتي جوام وأوكيناوا، كما يمكن للإطلاق المتزامن من منصات برية وبحرية وجوية، أن يطغى على أنظمة الدفاع الصاروخي الأميركية.
جدير بالذكر هنا، أنه في شباط/فبراير 2023، كشفت الصين عن ثلاثيّة أسلحتها الأسرع من الصوت، والتي تتألّف من أنظمة بحرية وجوية وبرية، بهدف أساسي وهو تعزيز قدراتها على الردع التقليدي ضدّ الولايات المتحدة وتايوان. بالإضافة إلى مقاتلات الجيل السادس، يظهر الصاروخ البحري الفرط صوتي "YJ-21"، القادر على التحليق بسرعات تصل إلى 10 ماخ، وقد تمّ اختبار هذا الصاروخ بنجاح، ويمكن اعتباره بمثابة تطوّر محوري في استراتيجية الصين لتشكيل "مناطق بحرية محظورة" في محيط تايوان، في حالة بدء عملياتها العسكرية ضدها، حيث تجعل سرعته الكبيرة أنظمة الدفاع الموجودة على متن السفن المعادية غير فعّالة.
إنّ هذا النوع من الصواريخ مجهّز لإمكانية إطلاقه من على متن القاذفات الاستراتيجية الصينية "H-6"، ما يزيد من مداه الفعّال، ويحوّله إلى تهديد فعّال للقواعد والسفن الحربية الأميركية في المحيط الهادئ. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ صاروخ "DF-17" الباليستي الأرضي، الذي تصل سرعته إلى 5 ماخ، يكمل الثالوث، ممّا يعزّز قدرة الصين على "حصار" تايوان بضربات دقيقة بعيدة المدى.
مما سبق يمكن القول إن الصين في المرحلة الحالية، باتت تولي أهمية أكبر لتطوير وامتلاك عدة أنواع من الطائرات المقاتلة التكتيكية من الجيل السادس، التي تتسم بتصميم ثوري عديم الذيل، يمتلك عدة ميزات أساسية، من بينها تقليل البصمة الرادارية للمقاتلات بشكل كبير عبر نطاقات متعددة ومن جميع الجوانب، وكذلك تقليل السحب الديناميكي الهوائي، خاصة خلال التحليق بعيد المدى على سرعات عالية وارتفاعات شاهقة. يضاف إلى ذلك ميزات أخرى ترتبط بالتسليح، مثل زيادة حجم كميات الوقود والحمولة القتالية التي تستطيع مقاتلات الجيل الجديد التسلّح بها، وهو أمر بالغ الأهمية أيضاً للعمليات الجوية بعيدة المدى.
وعلى الرغم من حقيقة أنّ المساعي الأميركية لتطوير مقاتلات الجيل السادس تسير في مسار متقدّم، إلا أنّ الخطوة الصينية "الجريئة"، بالكشف للمرة الأولى عن نماذج مقاتلات الجيل السادس الخاصة بها، لا تشير فقط إلى تحوّل كبير في القوة العسكرية الصينية، تزيد من المخاطر على الدفاع الصاروخي الأميركي، بل تشير أيضاً إلى مساعٍ صينية لإرباك أميركا وإجبارها على تسريع برامجها الخاصة بمقاتلات الجيل السادس، بشكل قد يضغط على الإنفاق الدفاعي الأميركي، ويؤثّر على القطاعات الصناعية الأخرى، خاصة وأنّ الإنفاق الدفاعي الإجمالي في الولايات المتحدة يبلغ نحو 25% من إجمالي الناتج الصناعي، في حين يبلغ في الصين نحو 4% فقط.