لو لم يفتح حزب الله جبهة الإسناد
بخلاف قناعات كثيرين، فإن تكلفة تواني حزب الله عن نصرة غزة كانت ستكون أعلى من التكلفة الحالية.
قبل أن يُتاح لحزب الله ما يكفي من وقت لدراسة حجم مشاركته في إسناد غزة وطبيعتها، كانت الجبهة اللبنانية دخلت المعركة. منذ اليوم التالي لعملية الـ7 من أكتوبر 2023 سارع الحزب إلى تلبية نداء القائد القسامي، محمد الضيف، وآخرين من قادة حماس، للالتحاق بالعملية.
حاولت المقاومة اللبنانية، في المرحلة الأولى، حصر المعركة عند الحافة الأمامية، وفي حسابها أمران أساسيان: منع الاحتلال من الاستفراد بغزة، وتجنيب لبنان ما أمكن من تبعات الحرب.
كان موقفاً صعباً ومعقَّداً، أقلّه لمن يراقب المشهد من الخارج. زاده تعقيداً أن حزب الله وجبهات المقاومة الأخرى لم تُبلَّغ أو تُستشَر بشأن عملية أراد مخططوها أن يجعلوها "طُوفاناً". لاحقاً، أقرّ سيد شهداء الأمة، حسن نصر الله، وقائد الثورة في إيران، بما يمثلانه من موقعيهما، أنهما لم يكونا على علم بما جرى.
في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تدور حروب من نوع آخر، جرى تداول مقطع مُصوَّر للقائد في المقاومة الإسلامية في لبنان، إبراهيم عقيل، بعد استشهاده. خلاصة ما يقول: حزب الله التزم تكليفه الشرعي، ولو عاد الزمن إلى الوراء فإنه سيقوم بما قام به، لأن الواجب الشرعي يقتضي ذلك. لا يجوز مشاهدة الإسرائيلي وهو يقتل عشرات الآلاف في غزة ونحن نتفرّج.
تكلفة الخيارات البديلة
بمعزل عن الاعتبارات السياسية، تشير مواقف قادة المقاومة في لبنان والمنطقة، منذ "طوفان الأقصى"، إلى أن أساس قرار مساندة غزة يقوم على اعتبارات إنسانية وأخلاقية ودينية. قرار أسفر عن تبعات وتكاليف باهظة تحمّلها لبنان وحزب الله. لكن، هل كان هناك إمكان لتجنّب ذلك؟
يجيب المقال السابق عن الشقّ الأول من السؤال، ويتمحور الشق الثاني هنا، بشأن تكلفة الامتناع عن ذلك. منذ البداية، تشكّلت آراء رافضة مشاركة حزب الله في معركة الإسناد، حزبياً وشعبياً، عززتها حملات ترويجية مدفوعة ومُوجَّهة رافقت هذه المشاركة، طوال أشهر.
سبق التطرّق، في المقال السابق، إلى أن هذا الإسناد لم يكن ليؤدي بالضرورة إلى تجنيب لبنان حرباً استباقية إسرائيلية، نظراً إلى تضافر مجموعة اعتبارات تكثّفت في لحظة تاريخية استثنائية. الفارق الوحيد، ربما، هو "مشروعية" خيار حزب الله في خطابه الموجه إلى الداخل اللبناني، بحيث سيكون في موقع أفضل داخلياً في حال التصدي للعدوان الإسرائيلي من موقع حماية لبنان، بدلاً من حماية فلسطين أو نصرة غزة. لكن حتى هذا الأمر لم يكن مضموناً، إذ كان في إمكان "إسرائيل" اللجوء إلى أكثر من سيناريو، سبق التطرق إلى بعضها، وكلها كفيلة بجعل حربها ضد لبنان "مشروعة"، بعد تعمّدها تسخين الجبهة وجرّ المقاومة اللبنانية إلى التصعيد. واحد من الأهداف السياسية في هذا المسعى هو تحميل حزب الله مسؤولية الحرب في الداخل اللبناني وداخل بيئته.
لكن، بخلاف قناعات كثيرين، فإن تكلفة تواني حزب الله عن نصرة غزة كانت ستكون أعلى على المقاومة اللبنانية، وعلى مشروعها، من التكلفة الحالية. ويمكن فيما يلي تصوّر مجموعة نتائج ناجمة عن هذا الامتناع.
النتيجة الأولى
كان سيُقتل السيد حسن نصر الله في قلوب الفلسطينيين بدلاً أن يُستشهد من أجل فلسطين. جلاء معنى هذا المجاز يقتضي العودة إلى المواقف والحملات التي زخرت فيها الأسابيع والأشهر الأولى على فتح حزب الله جبهة لبنان، ثم الارتداد مجدداً إلى المرحلة التي تلت سقوط النظام السوري الراحل.
بعيداً عن أي تصوّر مُتخيّل، يمكن الاستناد إلى ما حدث فعلاً والبناء عليه. بعيد ساعات على بدء "الطوفان"، سارع قائد كتائب القسام، محمد الضيف، إلى دعوة جبهة المقاومة في المنطقة إلى "الالتحام إلى جانب المقاومة في فلسطين". وقال: "يا إخوتنا في المقاومة في لبنان وسوريا والعراق وإيران، هذا هو اليوم الذي ستلتحم فيه الجبهات".
على رغم أن حزب الله لم يتوانَ عن أداء واجبه، فإنه لم يَسْلَم، لا من بعض الدوائر القريبة من الأوساط الإسلامية، ولا من جانب الحسابات المُوجَّهة، الحقيقية منها والمزيفة، في مواقع التواصل الاجتماعي، ولاسيما منها التي تديرها الاستخبارات الإسرائيلية والوحدة 8200. يحضر، في هذا الإطار، الضخّ الإعلامي غير البريء لما أُطلق عليه حينها "حرب العواميد"، بهدف توهين مشاركة حزب الله والتقليل من شأنها، ورد الفعل الشاجب لمضمون الخطاب الأول للسيد نصر الله، بعد أسابيع على بداية "الطوفان".
الآن، يمكن أن نتصور المشهد، عبر أبعاد مختلفة، لو كان حزب الله تذّرع بألف سبب، وحصر إسناده لغزة في منطقة مزارع شبعا وتلال كفر شوبا. يمكن تصوّر حالة التعبئة، النفسية الإسلامية والمعنوية الفلسطينية، وما كان سينجم عنها لو تجنّب حزب الله مساندة غزة، وخصوصاً في ضوء التطورات، التي أفضت لاحقاً إلى سقوط النظام السوري.
النتيجة الثانية
في ظل انكفاء حزب الله الافتراضي عن نصرة غزة، فإن شهوراً طويلة من قصف الوعي الفلسطيني و الوعي الغزي و الوعي الإسلامي بشأن "خذلان" الحزب وضرب صدقيته، معطوفة على استدعاء التاريخ القريب في سوريا، كانت ستشكّل أرضية خصبة لفتنة كبرى سنية – شيعية، ولإحداث شرخ لا يندمل على مستوى القواعد الشعبية بين حماس وحزب الله.
آلة الدعاية، التي تم تكريسها على مدى شهور لتحقيق هذه النتيجة، على رغم التضحيات الجسام التي قدمّها حزب الله على طريق القدس، كانت ستعمل بأريحية وظروف أكثر نضجاً لو انكفأ الحزب عن خيار المساندة. هل كان الانكفاء، على رغم ذلك، سيجنّب لبنان الحرب الإسرائيلية؟
قد يكون العكس هو الصحيح، بمعنى أن مباغتة حزب الله بحرب إسرائيلية، وفق المعطيات والظروف السابقة، تُعَدّ مواتية أكثر لإضعافه، لا عسكرياً فحسب، وإنما أيضاً إعلامياً وسياسياً ونفسياً، على مستوى كل من الدائرة اللبنانية والدائرة الإقليمية الإسلامية والقومية.
إذا كان هناك خطة إسرائيلية وأميركية مُبيَّتة للانقضاض على حزب الله، بعد الانتهاء من غزة، وفق فرضية المقال السابق، فإنها تصبح أكثر خطورة مع ابتعاد شرائح إسلامية وازنة عنه بعد تجريده من بعده القومي والعربي الجامع، وعزله إسلامياً، على نحو يمهّد إخضاعه وإضعافه لاحقاً من خلال مسارين:
حرب إسرائيلية يواكبها تَشَفٍّ بدلاً من تعاطف، وشماتة بدلاً من تأييد، وحرب داعشية وقودها الفتنة الطائفية.
النتيجة الثالثة
من منظورَين، تاريخي وأخلاقي، يختلف الأمر تمام الاختلاف بين أن يُباغَت حزب الله بحرب في ظل الانكفاء عن نصرة غزة، وبين أن يقدّم خيرة شبانه وصفوة قادته على طريق القدس، في موازاة تخاذل عربي وإسلامي. هل هذا مهم؟
هذا معطى شديد الأهمية من منظور ثوري أيضاً، بحيث أرسى موقفاً أخلاقياً تاريخياً يفترض أن يحفر عميقاً في وجدان المنطقة وضمير العالم.
عدا عن ذلك، ما كان لمجموعة إنجازات أن تتحقق، سواء خلال معركة الإسناد أو معركة "أُولي البأس"، على الرغم من انحسار هذه الإنجازات إعلامياً بفعل الضربات الكبيرة، التي نجمت لاحقاً عن الخروقات الإسرائيلية غير المسبوقة لجسم المقاومة.
النتيجة الرابعة
تحت سيل حملات التشويه وطوفان الدعاية الموجهة عالية الاحترافية، لو انكفأ حزب الله عن نصرة غزة، لكان جزء كبير من الرأي العام العربي والإسلامي سينسى دعوة قادة حماس "كل الأمة، وكل الداخل الفلسطيني، وكل أبناء الضفة وأراضي الـ48"، وينهال جَلداً لحزب الله.
كان سيُنسى نداء رئيس المكتب السياسي السابق لحماس، الشهيد إسماعيل هنية، لـ"كل مسلم في كل مكان وأحرار العالم جميعاً إلى الوقوف في هذه المعركة… كل بما يستطيع، فهذا ليس وقت الانتظار والمشاهدة، وليس وقت النصرة بالقلب فقط، وإنما النصرة بالفعل".
في ظل الدعاية الموجَّهة، كان جزءٌ من الشرائح المستهدَفة سيتذكر أمراً فقط: أن حزب الله ترك غزة وحيدة. هل يتذكّر أحد اليوم أن نداء محمد الضيف لم يقتصر على جبهات المقاومة في المنطقة، حينما قال: "يا أهلنا في الأردن ولبنان ومصر والجزائر والمغرب العربي، في باكستان وماليزيا وإندونيسيا وفي كل أنحاء العالمين العربي والإسلامي، ابدأوا الزحف اليوم، الآن وليس غداً، نحو فلسطين"؟
النتيجة الخامسة
استشهاد السيد نصر الله، ومعه صفوة من القادة على طريق القدس، يفترض أن يكون لَجَم، أو أضعف على الأقل، زخم الفتنة السنية الشيعية، وهو هدف استراتيجي عمل عليه الأميركيون، إضافة إلى الإسرائيليين، من أجل إضعاف المنطقة.
لو انكفأ حزب الله (ومعه جبهات الإسناد الأخرى) لكانت "إسرائيل" حققت هدفاً استراتيجياً في الوعي العربي، نتيجته النكوص نحو التجزئة والتفتيت وأكل "الثور الأبيض"، ثم الانقضاض تباعاً على ما تبقى من حصون، بعد الاستفراد بغزة.
نموذج الشرف والتضحية والنخوة كان سيتراجع أمام نموذج الأنانية واللامبالاة والطائفية، وما كان كل ذلك كفيلاً بوقف حملات الطعن ضد حزب الله، بل كان خصومه وأعداؤه في الداخل والخارج سيجدون ألف عنوان لمهاجمته وتحميله لاحقاً مسؤولية العدوان المؤجَّل عليه، عندما تحين ساعة الصفر الإسرائيلية.