دور الحسن الثاني في هجرة اليهود المغاربة إلى "إسرائيل"

كان عدد اليهود في المغرب يزيد على 250 ألفاً، ومثّلوا أكبر تجمع لليهود في البلاد العربية على الإطلاق.

  • لم تحصل الهجرة اليهودية المغربية دفعة واحدة، مثلما حصل مع يهود اليمن والعراق.
    لم تحصل الهجرة اليهودية المغربية دفعة واحدة، مثلما حصل مع يهود اليمن والعراق.

لم يتعرّض يهود المغرب لهجمات جماعية أو لمذابح أو لأحداث عنف من أيّ نوع من جانب المغاربة المسلمين، وحتى أشد المصادر الصهيونية تطرّفاً لا يذكر أيّ شيء من ذلك[1]. تاريخ وجود اليهود في المغرب قديم، وخصوصاً أن عدداً كبيراً من يهود الأندلس قد لجأوا إلى المغرب واستقروا فيه، بعد سقوطها في أيدي الإسبان سنة 1492. ومنذ سيطرة الأسرة العلوية (التي لا تزال تحكم إلى اليوم) في المغرب على يد مولاي رشيد عام 1668، حظي اليهود بعطفٍ خاص من قبل سلاطينها الذين أتاحوا لهم الفرصة للعيش بأمان، والعمل بحرية واطمئنان. وقبل تأسيس "إسرائيل" سنة 1948، كان عدد اليهود في المغرب يزيد على 250 ألفاً، أي نحو 2.5% من السكان، وهو أكبر تجمع لليهود في البلاد العربية على الإطلاق.

عاملان اثنان، خارجيان، كان لهما أكبر الأثر في هجرة يهود المغرب: الاستعمار الفرنسي والحرب في فلسطين.

مع دخول الفرنسيين سنة 1912 وسيطرتهم على المغرب، انحاز اليهود في أغلبيتهم الساحقة إلى اللغة والثقافة الفرنسيّتين، وصاروا يعتبرون فرنسا نموذجاً للحضارة والمدنية، وأخذوا في تبنّي عاداتها، حتى في الملبس وطريقة الأكل. هذا الارتباط والولاء لفرنسا بدآ يُحدثان خللاً في مكانة اليهود ووضعيّتهم في المغرب، خصوصاً مع التزايد المطّرد في مشاعر الوطنية المغربية والانتماء القومي العربي – الإسلامي لدى المسلمين المغاربة. 

صحيح أن اليهود بقوا على ولائهم وإخلاصهم للسلطان، ولكنّ الأوساط الوطنية الساعية إلى التحرر من الاستعمار لم تنظر بارتياح إلى موقف اليهود الشديد الولاء لفرنسا. 

وكان لافتاً أن البيان المطالب بالاستقلال سنة 1944، والذي وقّعت عليه أبرز شخصيات المغرب، خلا من توقيع أيّ من زعامات اليهود وقادتهم. لم يكن اليهود راغبين بخروج الفرنسيين، وشعروا بالتوجّس والإحباط عندما رأوا الأمور تسير في ذلك الاتجاه. وكان توجّه الوطنية المغربية نحو الانتماء إلى الأمة العربية والإسلامية والارتباط بقضاياها يزيد من قلق اليهود.

ألقت الحرب في فلسطين بثقلها على يهود المغرب. فرغم البعد الجغرافي، كانت مشاعر الأخوّة والتضامن مع عرب فلسطين قوية للغاية في أوساط المسلمين المغاربة. والأحداث التي وقعت في القدس عام 1929 عند حائط البراق (المبكى)، جعلت مسلمين كثُراً ينظرون إلى اليهود بسلبية، ويشتبهون في تضامن هؤلاء مع الصهاينة في فلسطين. ومع صدور قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين وما تلاه من حرب عربية – صهيونية عام 1948 أدّت إلى إعلان "دولة إسرائيل"، ازدادت حدّة الاحتقان في المغرب، وصار اليهود يلمسون التغيّر الملحوظ في التعامل معهم على المستوى الشعبي، ما أدّى إلى زيادة تمسّكهم بفرنسا كحامية وضامنة لهم في هذه الأجواء السلبية. ولكن فرنسا خيّبت أملهم، ومنحت في النهاية الاستقلال للمغرب عام 1956. 

بداية الهجرة اليهودية

لم تحصل الهجرة اليهودية المغربية دفعة واحدة، مثلما حصل مع يهود اليمن والعراق. المرحلة الأولى من الهجرة كانت ما بين 1948 و1956، وتمّت برعاية وتسهيل من سلطة الاستعمار الفرنسي. وخلالها هاجر نحو110 آلاف يهودي[2] إلى "إسرائيل". ويلاحظ أن أكثر من نصفهم، 61 ألفاً، هاجروا في الأشهر الـ 18 الأخيرة قبل إعلان الاستقلال عام 1956، ما يشير إلى تزايد قلق اليهود مع قرب الرحيل الفرنسي عن البلد.

بعد الاستقلال قرّر السلطان (الملك) محمد الخامس وقف هجرة اليهود إلى "إسرائيل". كان الملك حريصاً على تقوية علاقات بلاده مع العالم العربي، وقرّر الانضمام إلى جامعة الدول العربية سنة 1959، كما زار مصر والتقى رمز القومية العربية الرئيس جمال عبد الناصر عام 1960. لم تنقطع هجرة اليهود تماماً، بل استمرت، ولكن على نطاق ضيّق، وبشكل غير شرعي[3].

في عهد الملك الحسن الثاني

عام 1961 حصل تطور مهم وقفزة نوعية في العلاقات المغربية – الإسرائيلية، وذلك حين تولى الحكم في المغرب الملك الحسن الثاني إثر وفاة والده. وجد الملك الشاب نفسه في محيطٍ هائجٍ مضطرب، حيث الثورات الشيوعية والاشتراكية تغزو أنحاء كثيرة من العالم، وحركات التحرر الوطني تتواصل من دون توقف في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية لتطرد الاستعمار القديم وتطرد معه توابعه من أنظمةٍ ملكية ومحميّاتٍ قبليّة ووكلاء. 

وبجواره في الجزائر كانت الثورة الكبرى في أوجها، والتي كانت تحظى بدعمٍ غير محدود من نظام عبد الناصر في مصر.

التهديد كان كبيراً والشعب المغربي لم يكن في منأى عن "العدوى الثورية" التي تهبّ رياحها وتشتدّ مع توالي سقوط الملكيات العربية، من مصر إلى العراق إلى اليمن. توجّه الحسن الثاني ببصره إلى الشرق ليجد "إسرائيل" الدولة المنبوذة اللقيطة المزروعة في المنطقة قسراً، والتي تعادي جميع الحركات الثورية والأنظمة التقدمية والأحزاب القومية العربية، والمنظمات اليسارية في المنطقة، عن بكرة أبيها. 

رأى الحسن الثاني في "إسرائيل" حليفاً محتملاً يمكن الوثوق به والركون إليه عند الحاجة. وكان الإغراء الإسرائيلي كبيراً، وخصوصاً مع معرفة الملك الشاب بما للدولة اليهودية من حظوةٍ لدى الدول الكبرى في الغرب، ما ييسّر له الأمور ويفتح له الأبواب المغلقة للوصول إلى مراكز صنع القرار في باريس ولندن وواشنطن، التي هي، في نظره، أقوى وأفضل ضمان لحُكمِه وعرشِه. 

لم يضع الحسن الثاني وقتاً. وما بين 1961 و1964 بدأ العمل مع "إسرائيل" سراً، فساعدها على تهجير ونقل 100 ألف من اليهود[4] المغاربة – عبر أوروبا – بعد أن عقد صفقة مع الموساد الإسرائيلي يتقاضى بموجبها مبلغاً يراوح بين 50 و100 دولار[5] أميركي نظير كل يهودي مهاجر. وفي المقابل قدّم الموساد للملك والجيش والأمن المغربي خدمات استخبارية وأمنية مهمة.

عام 1967، وعقب الحرب العربية الإسرائيلية، هاجر نحو 30 ألفاً من يهود المغرب إلى "إسرائيل"، بسبب شعورهم بالخوف والخشية من الانتقام العربي. وفي السبعينيات والثمانينيات استمرت هجرة اليهود، ولكن بوتيرة بطيئة، وعلى أساس فرديّ. وحالياً، فإن أكثر التقديرات تفيد بأنه لم يبقَ من يهود المغرب سوى نحو خمسة آلاف.

وختاماً، نشير الى أن الجنسية المغربية لم تسقط عن اليهود الذين هاجروا إلى "إسرائيل"، كما لم تصادر أموالهم ولا ممتلكاتهم في المغرب. 



[1] فقط حادثة عنف واحدة تذكرها المصادر وهي حصلت في حزيران/يونيو 1948 في بلدتيّ وجدة وجرادة على حدود الجزائر، حين أدّت هجمات لمسلمين غاضبين إلى مقتل 41 يهودياً. ولكن هذه الحادثة حصلت في سياق حرب فلسطين المشتعلة بين العرب واليهود آنذاك، وقيام مجموعات يهودية صهيونية بالهجرة للانضمام إلى يهود فلسطين، وكانت بلدتا وجدة وجرادة الحدوديتان هما المعبر إلى الجزائر لمواصلة الرحلة، ما ولّد غضباً في أوساط المغاربة المسلمين. أي إن هذه الحادثة الفريدة من نوعها لم تكن وليدة ظروف وأوضاع داخل المغرب. 

[2] المصدر السابق.

[3] الإسرائيلي ييغال بن نون يعترف في بحثه الطويل  The Reasons for the Departure of the Jews from Morocco 1956–1957: The Historiographical Problems إن الفكرة الإسرائيلية التي تقول إن اليهود كانوا معرّضين لمخاطر جدية تهدّدهم ما يستدعي "إنقاذهم" ليس لها أساس من الصحة، وإن المغاربة فعلوا كل ما في وسعهم لاستبقاء اليهود.

[4] الأوساط الإسرائيلية تطلق عليها اسم "عملية ياخين". 

[5] المصدر: بحث للبروفيسورة في جامعة فينيسيا الإيطالية إيمانويلا تريفيسان سيمي، المتخصّصة في الدراسات العبرية واليهودية المعاصرة، تحت عنوان

 Double Trauma: Jews’ and Muslims’ Representations of the Departure of Moroccan Jews in the 1950’s and 1960’s 

ضمن كتاب صنّفته غليندا ابرامسون اسمه Sites of Jewish Memory - Jews In and From Islamic Lands in Modern Times ويمكن قراءته عبر هذا الرابط: 

https://books.google.jo/books?id=4Hp0DwAAQBAJ&pg=PT4&lpg=PT4&dq=yigal+bin-nun+reasons+for+the+departure+of+jews&source=bl&ots=iaCTqY7DYa&sig=ACfU3U0adSDj9hJcvsZGrz8QrTqxkjqzTQ&hl=en&sa=X&ved=2ahUKEwjf3Map9aT1AhWJ5OAKHeNMBvkQ6AF6BAgZEAM#v=onepage&q=yigal%20bin-nun%20reasons%20for%20the%20departure%20of%20jews&f=false