حين يستذكر العراقيون انتصارهم الكبير على "داعش"

يقع في خطأ كبير - سواء كان طرفاً إقليمياً أو دولياً- من يعتقد أو يفترض أنه غير معني بإصلاح ما خربه "داعش" وخلفه، لأن التجربة أثبتت أن الجميع مستهدفون.

  • حين يستذكر العراقيون انتصارهم الكبير على
    حين يستذكر العراقيون انتصارهم الكبير على "داعش"

في مثل هذه الأيام من عام 2017، أعلن القائد العام للقوات المسلحة ورئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي عبر خطاب عام تحقيق الانتصار التاريخي على تنظيم "داعش" الإرهابي، بعد استكمال تحرير كل المدن والمناطق التي سقطت في قبضته عندما اجتاح الأراضي العراقية في شهر حزيران/يونيو 2014.

ومما قاله العبادي في ذلك الحين: "لقد أنجزنا المهمّة الصّعبة في الظروف الصعبة، وانتصرنا بعون الله. وبصمود شعبنا وبسالة قواتنا البطلة، وبدماء الشهداء والجرحى، أثمرت أرضنا نصراً تاريخياً مبيناً يفتخر به جميع العراقيين على مرّ الأجيال، ونعلن لأبناءِ شعبنا ولكل العالم أن الأبطال الغيارى وصلوا إلى آخرِ معاقل داعش وطهّروها، ورفعوا علم العراق فوق مناطق غربي الأنبار التي كانت آخر أرض عراقية مغتصبة، وأنَّ علم العراق يرفرف اليوم عالياً في جميع الأراضي العراقية، وعلى أبعد نقطة حدودية".

وبعد مرور 5 أعوام على تحقيق الانتصار والاحتفال بهذا الإنجاز التاريخي الكبير، قال رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني "إنَّ النصر على داعش ما كان ليتحقق لولا صلابة العراقيين وصبرهم وتكاتفهم. وقد صنعت قواتنا المسلحة هذا النصر بجميع صنوفها، من الجيش والحشد الشعبي والعشائري، وجهاز مكافحة الإرهاب، والشرطة الاتحادية، والرّد السريعِ في وزارةِ الداخلية، وقوات البيشمركة، وغيرها من الأجهزة الاستخبارية والقوات الساندة". 

وأضاف: "في تلك الملحمة، كانت كلمات المرجعية العليا الرشيدة في النجف الأشرف الضوء الذي سار خلفه العراقيون، وكانت فتوى الجهاد الكفائي نقطة الشروع لتحرير المدن والنواحي، الواحدة تلو الأخرى. ونفتخر اليوم بمن كان في ميدان المعركة يحمل في يد سلاحاً، وتمتد أخرى لإنقاذ أهله وشعبه، كما نفتخر بمن غادرنا وارتقى شهيداً من قادة النصر والانتصار الكبير، قادةً وآمرين وضبّاطاً ومراتب ومنتسبين، فلا نصر إلّا بذكر شهداء العراق وجرحى قواتنا المسلحة".

 لا شكّ في أنَّ رسائل مهمة، وبمضامين عميقة، تنطوي في هذه الكلمات والعبارات، وتؤشر إلى أن عموم المواجهة مع تنظيم "داعش" الإرهابي التكفيري لم تكن حدثاً عابراً شغل حيزاً من الاهتمام لبعض الوقت ليطويه النسيان فيما بعد، بل إنّ مجمل ما حصل بدءاً من 10 حزيران/يونيو 2014، وهو اليوم الذي اجتاحت فيه عصابات "داعش" مدينة الموصل ومدناً عراقية أخرى، ووصلت إلى تخوم العاصمة بغداد والمدن الدينية المقدسة، كربلاء والنجف والكاظمية وسامراء، وحتى إعلان الانتصار الناجز والشامل في 10كانون الأول/ديسمبر 2017، مثّل جملة أحداث ووقائع وتفاعلات استثنائية، لم يكن العراق وحده معنياً ومتأثراً بها، وإن كان ميدانها الرئيسي وساحتها المتقدمة.

إنّ مقدمات ظهور "داعش" في العراق كانت قد تشكَّلت وتبلورت في مساحات إقليمية مختلفة، مثلما هي الحال في أن الانتصار العسكري على ذلك التنظيم في العراق لم يعنِ نهايته إلى الأبد على المستويين الإقليمي والدولي، لأن الطبيعة التنظيمية الأخطبوطية الشائكة والمعقدة والمتداخلة تجعل من الصعب بمكان القضاء عليه وتجفيف منابعه بيسر وسهولة وخلال فترة زمنية قصيرة. 

ولكن ما لا يمكن إنكاره هو أنَّ الهزيمة العسكرية التي لحقت به في العراق أفقدته كثيراً من الحضور والتأثير والدعم والإسناد والتمويل المالي والإعلامي والاستخباراتي والسياسي والمجتمعي، وهذا ما عكسه الكثير من الحقائق والأرقام والمعطيات على أرض الواقع، سواء ضمن حدود الجغرافيا العراقية أو خارجها.

ومما لا اختلاف عليه أنَّ إلحاق الهزيمة بتنظيم "داعش" الإرهابي كان أمراً مهماً جداً؛ فمن جانب، حافظ على وجود الدولة العراقية. ومن جانب آخر، أثبت أن العراقيين بكل عناوينهم وتوجهاتهم وانتماءاتهم قادرون على الدفاع عن مقدساتهم وحرماتهم. 

هذه الحقيقة لا يجادل فيها أحد، ولم يبتعد عن الواقع من وصف ذلك الانتصار بأنه نقطة تحول تاريخية وانعطافة حاسمة جاءت بعد 3 أعوام ونصف عام من اجتياح عصابات "داعش" مساحات غير قليلة من الجغرافيا العراقية، بدعم وإسناد من قوى إقليمية ودولية كانت قد خططت لمشاريع تخريبية وتدميرية خطرة للعراق ولعموم دول المنطقة.

 ولم يخطئ من قال إنَّ المخططات والأجندات التي أريد من ورائها دفع العراق نحو الهاوية وإغراقه في دوامة الصراعات الدموية الداخلية في صيف عام 2014 وما قبل ذلك هي المخططات والأجندات ذاتها التي نُفذت عام 2006، بعدما استهدف تنظيم "القاعدة" الإرهابي مرقد الإمامين العسكريين (ع) في مدينة سامراء المقدسة، بهدف دفع العراق والعراقيين إلى أتون الحرب الأهلية تحت غطاء "الطائفية".

من الطبيعي جداً أن هناك عوامل وظروفاً وأطرافاً كان لها دور محوري وحاسم في تحقيق الانتصار التاريخي الكبير، فالمرجعية الدينية في النجف الأشرف اضطلعت من خلال فتوى "الجهاد الكفائي" بدور مهم ومؤثر للغاية في درء خطر الإرهاب الداعشي. 

تلك الفتوى دفعت عشرات الآلاف من أبناء الشعب العراقي إلى أن يهبّوا للدفاع عن الحرمات والمقدسات والأعراض، ويقدموا الكثير من التضحيات التي عكست الروح الثورية الحسينية بأبهى صورها وأوضحها.

 إلى جانب ذلك، فإنَّ هناك أطرافاً إقليمية ساندت العراق ودعمته بكل الوسائل والأساليب في حربه ضد "داعش". ولعل الجمهورية الإسلامية الإيرانية مثلت النموذج الإيجابي الداعم والمساند الذي ساهم في تسريع تحقيق الانتصار، على الرغم من الكثير من العراقيل والمعوقات والحملات السياسية والإعلامية التي شنتها دوائر إقليمية ودولية لم يرُق لها أن يتحقق ما تحقق، ولم تكن تستوعب حقيقة أدوار إيران ومواقفها في تلك المواجهة.

ويقع في خطأ كبير - سواء كان طرفاً إقليمياً أو دولياً- من يعتقد أو يفترض أنه غير معني بإصلاح ما خربه "داعش" وخلفه، لأن التجربة أثبتت أن الجميع مستهدفون، ولو لم يكن العراقيون قد واجهوا ذلك التنظيم الإرهابي بشجاعة وبسالة، وقدموا الكثير من التضحيات، لكان قد اجتاح دولاً ومجتمعات قريبة إلى العراق وبعيدة عنه، ولكان قد قتل ودمّر وخرّب ما يمكن أن تطاله أيديه من أناس ومؤسسات وعمران.

وما العمليات الإرهابية الممتدة من باكستان وأفغانستان، مروراً بسوريا ولبنان والأردن والسعودية ومصر وتونس، وصولاً إلى أوروبا وأميركا، إلا مصاديق ودلائل دامغة على طبيعة نهج "داعش"، الذي لو أتيح الأمر له لاستباح كلّ مدن العالم، كما استباح من قبل مدينتي الموصل العراقية والرقة السورية.

ومما لا شك فيه أنَّ النظرة الشاملة والعميقة تؤكد أن إلحاق الهزيمة العسكرية بـ"داعش" كان الخطوة الأساسية والانطلاقة الصحيحة للعمل على الخطوات الأخرى التي لم تقل أهمية عنها، بل إنّ كلّاً منها أكمل الآخر وتممه، من قبيل إزالة المخلفات والآثار التدميرية والتخريبية التي تسبب بها الاجتياح الداعشي على الصعيدين النفسي والمادي، وإعادة تأهيل وتمكين آلاف أو ملايين الناس الذين تضرروا بدرجات ومستويات وأشكال مختلفة ومتفاوتة، فضلاً عن إعادة النظر ومراجعة البناءات والسياقات القائمة في منظومات عمل وأداء المؤسسات الأمنية والعسكرية التي ربما كان البعض منها سبباً فيما حصل صيف عام 2014. وقد مثَّل تأسيس الحشد الشعبي وتحوّله إلى مفصل مهم وأساسي من مفاصل المنظومة الأمنية الحكومية، والخدمية فيما بعد، واحدة من أبرز الخطوات في هذا السياق.

وثمة حقيقة مهمة ينبغي الالتفات إليها، هي أن الإطار المرجعي، المتمثل بـ"فتوى الجهاد الكفائي" الذي تأسس الحشد في ضوئه، هو ذاته الذي حدد طبيعة الحشد ودوره ومكانته وموقعه بعد التخلص من عصابات "داعش"، مع الأخذ بعين الاعتبار أن إقرار مجلس النواب العراقي قانون الحشد الشعبي في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2016 وضع النقاط على الحروف، وأجاب عن تساؤلات واستفهامات عديدة، وبدد قدراً غير قليل من المخاوف والهواجس المثارة.

وربما لا يخفى عن الكثيرين أنّ 3 عوامل ساهمت في أن يضطلع الحشد الشعبي بدور مهم وفاعل ويتنامى حضوره الميداني من خلال إنجازات وانتصارات عسكرية كبيرة ومشرفة، إلى جانب دوره في الجوانب الإنسانية والخدمية. هذه العوامل الثلاثة هي فتوى المرجعية الدينية، ودعم الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والتفاعل الجماهيري الواسع من مختلف فئات المجتمع العراقي وشرائحه، من دون اقتصارها على عنوان ديني أو مذهبي أو قومي أو مناطقي واحد.

إنَّ أجواء الانتصار واستذكار وقائعه واستحضار ما حفل به من مواقف ومآثر وتضحيات هو أفضل فرصة للانطلاق إلى الأمام ومعالجة أخطاء الماضي وسلبياته بأبعادها السياسية والأمنية والاقتصادية والمجتمعية. وحين تكون الحلول والمعالجات منتجة، وتبرز انعكاساتها الإيجابية على الواقع العام للبلاد، فإنّها ستمهد الطريق تلقائياً للشروع في إصلاحات شاملة.

ومن بين أبرز عناوين الإصلاح الحدّ من مظاهر الفساد الإداري والمالي المستشري في مفاصل الدولة ومؤسساتها كافةً، وإعادة إعمار المدن والمناطق المحررة من عصابات "داعش"، أو ما يدعو إليه البعض من "إعادة إعمار وبناء مدن الضحية والتضحية"، وتسريع عودة عشرات الآلاف من النازحين الذين تركوا بيوتهم وفقدوا ممتلكاتهم هرباً من بطش "داعش" وإجرامه، ووضع وتنفيذ الخطط والتصورات الملائمة لتعزيز قيم التعايش السلمي وتكريسه في المدن والمناطق ذات التركيبة السكانية المختلطة قومياً ودينياً ومذهبياً.

إنّ استذكار الانتصار في سنويته الخامسة لا ينبغي أن يقتصر على المظاهر الاحتفالية والشعاراتية، إنما لا بدّ من أن يمتد إلى الحرص والسعي والتخطيط العملي الجاد لتحقيق الإصلاح والبناء والعمل على منع تكرار صور الماضي المأساوية والمؤلمة.

ويبدو أن الوضع السياسي الراهن في ظل الحكومة العراقية الجديدة برئاسة محمد شياع السوداني، وبرنامجها الوزاري الواقعي، ومساحات التأييد والدعم السياسي والمجتمعي لها، الداخلي والخارجي، يعدّ من مفاتيح الحفاظ على جوهر الانتصار التاريخي الكبير على "داعش" وقيمته، ولا سيما إذا أقررنا واتفقنا على أنَّ الفساد والتناحر السياسي والتشظي المجتمعي وانعدام الاستقرار وغياب السيادة الحقيقية هو ما تسبّب بشكل أو بآخر بظهور الإرهاب التكفيري واستباحته العراق في غفلة من الزمن.