حزب الله والسلاح وبناء الدولة (2)
على وقع توسّع الاحتلال الإسرائيلي، بإدارة أميركية مباشرة، في فلسطين وسوريا ولبنان، يتفاقم السجال لنزع سلاح المقاومة شرطاً في بناء الدولة. لكنّ المعضلة هي دولة الردع والقرار السياسي في الدفاع الوطني.
-
السياسة الدفاعية قرار سياسي في بناء دولة تتحمّل مسؤولية الردع والدفاع الوطني.
قبيل اغتيال الشهيد رفيق الحريري تحرّك المسترشدون بالثقافة السياسية الدولية الجديدة ، وخاصة الفرنسية في لبنان ( مروان حمادة، غسان سلامة، سمير فرنجية، جبران التويني، سمير قصير...إلخ) فعثروا على ضالتهم في بناء الدولة "ذات السيادة والاستقلال السياسي، اعتماداً على احتكارها السلاح واحتكار قرار الحرب والسلم".
وفي إثر الاغتيال واندلاع "ثورة الأرز" نشط المشبَّعون بتقديس ثقافة المركزية الأوروبية، مع العاملين السياسيين في أروقة الدول الغربية (14 آذار/مارس)، على ترويج هذه المقولة التي أنتجت على مرّ السنين ما لا يُحصى ولا يُعدّ من الابتذال والتضليل السياسي، كأحاديث سيطرة الدويلة على الدولة، وأحاديث مسؤولية سلاح المقاومة عن تفشّي الفقر والفساد وعن الخراب والانهيار المالي والاقتصادي والسياسي...
أقسى من النكبة وأشدّ من الانتداب
بعد عشرات السنين من زرع الأوهام والتضليل، حان موسم "المجتمع الدولي" ونشطاؤه المحليّون لقطف سنابل الزرع وحصاد نتائج زلزال التحوّلات الجيوسياسية الدولية والإقليمية، في اصطياد ثلاثة عصافير بحجر واحد: لبنان، سوريا، فلسطين المحتلة.
تدخّلت أميركا و"مجتمعها الدولي" بشكل مباشر في إدارة الإبادة والتدمير بأسلحة حرب عالمية بين الدول العظمى، في سياق استراتيجية الهيمنة على العالم أملاً بقرن أميركي جديد.
وفي إطار هذه الاستراتيجية، العمل على إنشاء "إسرائيل الكبرى" وتسييدها رأس حربة على شعوب ومجتمعات منطقة منزوعة من سلاح الدفاع والردع، فتشمل "دول الطوق" وتمتدّ إلى البحر الأحمر والخليج وإلى حيث يصل النفوذ الأميركي ـــــــ الغربي في آسيا وأفريقيا.
ولم تكفّ أميركا وحلفاؤها عن التدخّل المباشر لإدارة حرب جيوسياسية في منطقتنا منذ هزيمة 67 (النكسة) في سياق استراتيجيتها العالمية. فتجسّدت إدارتها بالعمل على استكمال نكبة 48 في تكريس احتلال الضفة الغربية وغزة والجولان، وفي إدارتها الحرب السياسية للقضاء على مقاومة الاحتلال والثورة الفلسطينية إيهاماً "بحلّ الدولتين" ( محادثات السلام، اتفاقيات أوسلو وكمب ديفيد، مبادرة السلام العربية، وادي عربة وشرم الشيخ... إلخ).
لكنّ إدارتها الحرب السياسية استهدفت تحقيق انتصار جيوسياسي في تغيير مواقع الخريطة الإقليمية من الشرق إلى الغرب في إثر حرب عام 73 التي كرّستها الأنظمة العربية هزيمة جيوسياسية ماحقة، في تسليمها بالسياسة "إسرائيل" والولايات المتحدة ما لم تأخذاه بحرب عسكرية شبه متكافئة.
ولم تكفّ أيضاً عن حروبها الأيديولوجية لاستكمال تفتيت المنطقة وإعادة الانتداب إلى مجتمعات لم تفلح دولها وجامعتها العربية ومنظّماتها الإسلامية بتحقيق استقلال إقليمي عن التبعيّة والإلحاق، على الرغم من عديد المحاولات والطموحات.
فمنذ تصعيد موجة تاتشر ــــــــ ريغان لتفكيك المعسكر الشرقي وإنشاء شرق أوسط جديد يلبّي مصالح صانعيه، خُتم بالشمع الأحمر على تابوت "موت الأيديولوجيا". وجرى إعلان "نهاية التاريخ" بسيادة الأيديولوجية الفائزة في الحرب الباردة، سيادة أبدية مطلقة "منزَّهة عن أيديولوجية توسّع النفوذ والمصالح".
تلخّصت هذه الأيديولوجية بأهزوجة "انتصار الديمقراطية (الأميركية) على الشمولية والاستبداد"، فنجحت بعولمة نموذج "اللوبيات والأوليغارشية" الأميركي، ما أدّى إلى تدهور الديمقراطية الاجتماعية والسياسية في الدول والمجتمعات الأوروبية، وإلى طحن دول ومجتمعات الشرق والجنوب. (كلفن بلَز، نظام العبودية الجديد، شركة قدموس، 2004).
لكن لم يصمد سلاح "القيَم الديمقراطية" الأميركية طويلاً في المجتمعات الأوروبية والشرقية والجنوبية وإن بقي متوهّجاً على السطح في ضجيج المُستلَبين. لكنه بات عملاً روتينياً في إدارات الدول والمؤسسات وشركات التوحّش، إلى أن توحّلت "قيَم المنظومة الدولية" في رمال غزة.
لقد حوّلت الإبادة "قيَم الديمقراطية الأميركية" إلى سلعة استهلاكية كاسدة لدرجة الاضطرار إلى سحبها من التداول حين دقت الساعة لتطبيق الوصفات الأميركية ــــــــ الدولية المصنّعة خصّيصاً لبلادنا ولعالم الجنوب طيلة نصف قرن.
من التبعيّة إلى الانتداب
الوصفات المصنّعة الأخرى أكثر تأثيراً في تزييف تاريخ الإنسانية والقيَم الحضارية وطبيعة البشر في الكون والوجود، في سبيل الخضوع إلى شرائع الوحوش الكاسرة.
تنظر في كلّ بلد من بلداننا مقطوعاً من شجرة التراث الثقافي والحضاري ومن إرثه الجغرافي والديموغرافي في حقله الإقليمي. وعليه التطلّع في أحشائه الداخلية بعيداً عن محيطه والعوالم الأخرى، والإصغاء صاغراً إلى أسياد المحيط الأطلسي.
استكمالاً، تأتي وصفة التنمية ومكافحة الفقر والانهيار الاقتصادي ـــــــ الاجتماعي والغذاء وو... إلخ، بالخضوع إلى وصاية البنك الدولي وصناديق الاستثمار وخبراء الدول "الراقية" وشركاتها المالية... في تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر ورساميل "سلاسل الإمداد" والتجارة الدولية... فكانت نتيجتها تدمير الثروات الطبيعية والبيئة الكونية إضافة إلى "تخريب البُنى الاجتماعية وتبديد الاستقرار الاجتماعي وحقوق رعاية الدولة".(جون بيركنز، اعترافات قاتل اقتصادي، أكثر من ثلاثين لغة،2004).
وبما أنّ "الرأسمال جبان"، تأتي ثالثة الأثافي بحاجته إلى "السلام" والأمن والاستقرار (ستاتيكو)، فتتسلّمهم "الشرعيّة الدولية" صاحبة الفضل في حماية المصالح الوطنية العليا في "الدول المتعثّرة"، ويتسلّم الانتداب سلطة احتكار السلاح وقرار الحرب والسلم.
الدفاع الوطني عمود فقري في بناء الدولة
تجتمع الوصفات السالفة (وغيرها) مرّة واحدة في لبنان (وسوريا بدبلجة سورية) "لبناء دولة مستقلّة ذات سيادة"، إذا نجحت الحكومة بنزع سلاح المقاومة وتسليم أمور الدولة إلى إدارة الانتداب في السياسة الخارجية، والسياسة الاقتصادية ـــــــ الاجتماعية، وفي الإقرار بانتفاء الحاجة إلى سياسة دفاعية في انتفاء القدرة على الدفاع والردع.
وكسابق عهدها تنشر دول ومؤسسات الانتداب وشركاؤها المحليون، أنّ "وضع اليد" على البلدان والشعوب "المتخلّفة"، مجرّد مساعدة نبيلة على حلّ الأزمات "منزّهة عن الغرَض والمصالح". لكن في المقابل على الحكومات والشعوب أن تساعد أنفسها وتُثبت جدارتها بحظوة صلة الصداقة "بالدول المتحضّرة":
أ ـــــــ يحتاج لبنان إلى قطع حبل الصرّة مع محيطه الإقليمي وخاصة القضية الفلسطينية وإيران التي يُصاب من يقترب منها بمسّ. فهو بذلك يساعد نفسه كي يساعده إخوانه العرب ويساعده أيضاً أصدقاؤه في "المجتمع الدولي"، على "التعافي" وعلى إجراء "إصلاحات دستورية واقتصادية ومالية"، يتكفّل بتنظيمها أعتى خبراء الدول والصناديق والمؤسسات والشركات الكبرى.
ج ـــــــ غير أنه يحتاج لتحقيق معجزات هذه "الإصلاحات " في بناء الدولة، نزع سلاح الدفاع من المقاومة والقول شكلياً "بحصر السلاح في يد الدولة". أما فعلياً فهو يحتاج إلى العمل على إتلاف سلاح المقاومة وتخلّي دولة "اللادولة" نهائياً عن مسؤولية الردع وحقّ الدفاع في مواجهة احتلال أراضيها ومشاريع التوسّع والضمّ الأميركية ـــــــ الإسرائيلية. وبعدها "يتمّ حلّ أيّ خلاف بوجهات النظر بالدبلوماسية وعلى طاولة المفاوضات".
وعلى العكس من هذه الوصفة الخاصة بأمثال بلادنا، لا تتخلّى دول "أصدقاء لبنان" في قديمها وحاضرها عن مسؤولية الدفاع الوطني، إلى أصدقائها منذ صياغة مفهوم الدفاع الوطني للمرّة الأولى في فرنسا عام 1870. فمسؤولية الدفاع الوطني هي العمود الفقري في بناء الدولة، إضافة إلى عمود السياسة الخارجية لتعزيز المصالح الوطنية، وعمود السياسة الاقتصادية ـــــــ الاجتماعية لضمان الاستقرار الاجتماعي.
والحال تخوض دول "أصدقاء لبنان" الكبرى حروب التوسّع الخارجي لتعظيم "أمنها القومي ومصالحها الوطنية العليا"، وتتسلّح حتى العظم بأسلحة الدمار الشامل. فترصد زبدة ميزانياتها "للدفاع القومي"على الرغم من غرقها بالديون والأزمات الاقتصادية الخانقة. وما تقوم به من إبادة وتدمير، وأيضاً من "مساعدة" أصدقائها وشركائها، يندرج في أوجه "دفاعها القومي" لتعزيز النفوذ والمصالح.
ولا تشذّ الدول الصغرى عن قاعدة الدفاع الوطني في بناء الدولة والمصالح الوطنية العليا. فدولة سويسرا الحيادية تتمتّع بقدرة حربية برّية وجويّة وتصنّع وتصدّر الأسلحة. ولا تعتمد على جيش نظامي صغير، بل على قدرتها في تجنيد 3,6 ملايين من المجنّدين والمتطوّعين من أصل نحو 8 ملايين نسمة نصفهم شيَباً وأطفالاً.
وحين شعرت سويسرا بخطر دولي أبعد من حقلها الإقليمي في إثر قنبلة هيروشيما في اليابان، لجأت إلى برنامج تصنيع القنبلة النووية طيلة 43 سنة أثناء الحرب الباردة.
فنلندا الدولة الحيادية الأخرى، حرصت طويلاً على تعزيز دفاعها الحربي وقدرات الردع على حدود الاتحاد السوفياتي الإمبراطورية العظمى، قبل انضمامها مؤخّراً إلى الناتو. وعدد سكانها يقارب عدد سكان لبنان (5,6) ملايين نسمة.
أنشأت فنلندا تنظيماً عسكرياً خاصاً بحرب العصابات وحرب الخنادق مستقلاً عن الجيش النظامي (حرس الحدود). وزوّدته بقدرات دفاعية عالية وبميزانية دفاعية سنوية مستقلّة.
نحو حلول وبدائل عملية
السجال الدائر بشأن تسليم السلاح، سقيم يتوارى خلف أهداف دول الانتداب وشركائها في لبنان والمنطقة. وفي رؤيتهم الكاملة المقاربة والأبعاد، يسعون إلى بناء دولة تلبّي نفوذهم ومصالحهم الخاصة في السياسة الخارجية، والسياسة الاقتصادية ـ الاجتماعية، والسياسة اللادفاعية.
حزب الله المعني بسلاح المقاومة، يضع نفسه في الموقع الأضعف إذا اقتصر ردّه على مسألة السلاح وعلى مسألة الحوار المؤجّل في الاستراتيجية الدفاعية للدولة.
غير أنّ حزب الله يمكن أن يضع نفسه في موقع متكافئ بين طرفين متقابلين، متسلّحاً برؤية أخرى في بناء الدولة. ولا بدّ أن تلبّي رؤية هذه الدولة احتياجات غالبية اللبنانيين غير المطمئنين على المدى الآجل، إلى رؤية دولة الانتداب وشركائه في السياسة الدفاعية، والسياسة الخارجية، والسياسة الاقتصادية ــ الاجتماعية.
فالسياسة الدفاعية قرار سياسي في بناء دولة تتحمّل مسؤولية الردع والدفاع الوطني، ولا تحيلها إلى "الأصدقاء" والعلاقات الدبلوماسية.
وعلى هذا الأساس يجري العمل والحوار في مسار تزويد القرار السياسي بالقدرات المتوفّرة، والقدرات التي يمكن توفيرها عاجلاً وآجلاً في إطار استراتيجية دفاعية متطوّرة باستمرار.
والسياسة الخارجية بعلاقات تعزيز المصالح المتبادلَة والمنفعة المشتركَة والتضامن الأخوي، بعيداً عن التسوّل والارتزاق وبعيداً عن دهونة "التعاون والمساعدة".
والاتجاه نحو مسار التكامل الإقليمي حلّاً لأزمات انهيار المنطقة، في العمل على التكامل المشترك الأكثر إلحاحاً بين لبنان وسوريا.
أما السياسة الاقتصادية ـــــــ الاجتماعية فهي في حالة الظروف الدولية والإقليمية القاتلة، لا ينبغي أن تقتصر على وصفات الوصاية والانتداب في تخليع أبواب الأسواق وحرّية التجارة الدولية والرساميل العملاقة... إلخ بل ينبغي تطوير سياسات التعدّد الاقتصادي في توطين إنتاج الثروة المحلية وتنظيم إدارتها.
قدرات وتجارب حزب الله على سبيل المثال، تتعدّى قدرات السلاح في تجارب "جهاد البناء" وتجارب "القرض الحسن" وغيرها. وقدرات اللبنانيين غنيّة أيضاً في التجارب الزراعية العضوية، والغذاء الصحي النظيف، وفي الإنتاج الحرفي الصغير والمتوسّط، وفي السياحة البيئية... ويمكن تعميم كلّ هذه التجارب وتعزيزها في اقتصاد تعدّدي.
حزب الله ليس المعني الوحيد في رؤية مقابل رؤية. فالقوى السياسية والاجتماعية المكبّلَة بحجب ضوء الأفق، معنية كحزب الله في بلورة رؤية بناء الدولة مقابل الرؤية الأخرى، والإدلاء بدلوها بحثاً عن سياسات الحلول والبدائل.
المسؤولية الأولية يمكن أن تتحمّلها حفنة من الباحثين القادرين على البحث في مشروع سياسي مقابل مشروع سياسي، متفلّتين من وصية التطلّع في الأحشاء الداخلية إلى التحرّك والعمل المشترك على مستوى المشروع المقابل الممتد على مستوى المنطقة والإقليم.
هذه الحفنة البحثية يمكنها الاستعانة والتفاعل مع خيرة الباحثين والمفكّرين في العالم، المهتمين أكثر منّا بألّا تسقط آخر قلاع الدفاع عن الإنسانية في منطقتنا بمواجهة الهمجية. ويمكنها المساعدة في العمل على توحيد الجهود المشتركة مع الشباب والأساتذة والطلاب والقوى الاجتماعية... لإطلاق المبادرات والتحرّكات العملية.
يمكنها أن تكون محطة من محطات التقارب والتنسيق بين مختلف حركات أحرار العالم الذين يتطلّعون عبثاً إلى صدى في منطقتنا يشدّ من عزيمتهم ويفتح أعين شباب منطقتنا ونخبها على أول الطريق الذي سلكه الأحرار في أرجاء المعمورة.
التكاتف مع المحامين الأحرار في الدول الأوروبية لمحاسبة مرتكبي الإبادة والتدمير في فلسطين ولبنان أيضاً، ونزع الشرعية عن الدولة المارقة وعن أسطورة "معاداة السامية" حيث عصب الاحتلال في الدول الغربية.
في عالم ينقسم أفقياً إلى ضفتين متقابلتين، لسنا ضعفاء ولسنا وحدنا في هرم دولي مهزوز تتربّع على قمّته الحكومات وكبار التماسيح المفترسة، ويحتشد الأحرار مع الناس في قاعدته العريضة الصلبة.
لكنّ هذا الهرم يقف على رأسه في غفلة عن قوانين الطبيعة، ولا يحتاج إلى أكثر من جهود في متناول اليد لقلبه رأساً على عقب.