تخبّط إسرائيلي.. ما قبل الإقرار بالفشل
حتى اللحظة، لا يظهر أن "تل أبيب" لديها مخططات فعليّة لكيفية النجاة من ورطة الحرب في غزة، سوى سفك مزيد من الدماء. والمؤكد أن هذا السبيل الدموي لا يصنع نصراً.
يدرك بنيامين نتنياهو أن خطته داخل قطاع غزة باءت بالفشل، وأن "المجتمع" الإسرائيلي لم يسترد عافيته النفسية بعدُ. وعلى رغم كل الدماء التي سالت بسبب المجازر التي ارتكبها جنود الاحتلال وضباطه، فإن صفعة المقاومة، مُمثلةً بـ"طوفان الأقصى"، لا تزال تؤلم الوجه الإسرائيلي، ولا يجرؤ أحد على زعم خلاف ذلك.
أزمة حكومة الاحتلال الأساسية اليوم أنها لا تعرف كيف تخرج من الوضع الذي تورطت فيه داخل القطاع، فهناك رفض دولي يتصاعد بسبب الجرائم التي ارتُكبت، على مدار الأشهر التسعة الماضية. وهناك، من جانب آخر، رأي عام داخلي ساخِط، يريد أن يحقق له نتنياهو الثأر من المقاومة في كفة، واسترداد الأسرى الإسرائيليين في كفة أخرى.
سقط عشرات الآلاف من الفلسطينيين بين شهيد وجريح، منذ بدأ العدوان الإسرائيلي في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، لكن هذا الأمر، في حدّ ذاته، لم يحقق لـ"إسرائيل" النصر الذي كانت تصبو إليه. غاية ما حدث أن قادة الكيان الصهيوني تأكد أنهم من أعتى مجرمي الحرب في نظر كل شعوب العالم الغربية، قبل شعوبه الشرقية.
مُستندةً إلى الدعم، الذي حظيت به من ساحات محور المقاومة، أثبتت المقاومة الفلسطينية صلابتها، وأبت مجاراة العروض الإسرائيلية التي كانت تبغي استرداد الأسرى مع الإبقاء على "جيش" الاحتلال داخل القطاع. وبالتالي، صار السؤال الأبرز داخل "إسرائيل" اليوم، هو: ماذا بعد؟!
نتنياهو عاجز عن القضاء على المقاومة أو "استبدالها"
يدرك الخبراء الإسرائيليون أن حركات المقاومة ليست منفصلة، في أي حال، عن البيئة الشعبية داخل غزة، وأنّ الشبان والكهول المنخرطين في عز الدين القسام وسرايا القدس هم بدورهم أبناء العوائل والعشائر الغزّية. وبالتالي، فإن استئصال شأفة المقاومة، كما يتمنى بن غفير وسموتريتش، هو درب من دروب الخيال، وأمر غير قابل للتحقيق بصورة عملية، وفقاً للمعطيات الحالية.
حاول الإسرائيليون، على مدى الشهور الماضية، خلق كيان إداري (وربما أمني)، يمكن له أن يتولّى ترتيب الأمور داخل قطاع غزة لاحقاً، وكي يتم تفويت الفرصة على حركة حماس، التي لا تزال تحتفظ بحضورها، وتسيطر ببساطة على أي بقعة ينسحب منها الإسرائيلي في شمالي القطاع أو جنوبيه.
استغلّت حكومة نتنياهو حاجة الفلسطينيين من أبناء شمالي غزة إلى المعونات الغذائية، وسعت لعقد ترتيبات مع بعض العشائر لتولي مهمة توزيع المساعدات، على أن يكون ذلك نواة لظهور "كيان" يتولى إدارة الأمور داخل بعض المناطق في غزة، ثمّ يتصدى لحركات المقاومة.
فشل المُخطط، واعترف نتنياهو بذلك صراحةً في تصريحات متلفزة عبر القناة "الـ14" العبرية، يوم الأحد الماضي، مؤكداً أن خطة منح عائلات وعشائر فلسطينية في غزة السيطرة على القطاع فشلت، وأن الحكومة تعمل على خطة أخرى لن يُكشف عنها.
هذا التخبّط الإسرائيلي، والذي ترتّب عن فشل تلك المحاولات لترتيب البيت الغزّي بعد شطب دور المقاومة منه، يعود إلى سببين:
الأول: وعي الفصائل الفلسطينية المسلحة للمخططات الإسرائيلية، وتعطيل أي محاولة لاختراق البنية الاجتماعية داخل غزة، والتصدّي لضعيفي النفوس الذين تجاوبوا مع المساعي الإسرائيلية.
الثاني: إعلان العشائر الفلسطينية أنها رديف كفاحي للفصائل الفلسطينية، وليست بديلاً منها، وأنها تدرك أهداف المخططات الإسرائيلية، وستسعى لإفشالها.
حتى اللحظة، لا يظهر أن "تل أبيب" لديها مخططات فعليّة لكيفية النجاة من ورطة الحرب في غزة، سوى سفك مزيد من الدماء.
والمؤكد أن هذا السبيل الدموي لا يصنع نصراً، بل يصنع سمعة ملطخة في جميع الأروقة الدولية، لا أكثر ولا أقل.
اتضح طوال الشهور الماضية أن "جيش" الاحتلال غير قادر ببساطة على المحافظة على وجوده العسكري في المناطق الحضرية، بل إنه يعجز حتى عن فرض سيطرته الكاملة على تلك المناطق، التي تعرضت للتطهير العرقي، أو ذات الكثافة السكانية المحدودة.
في المقابل، يؤكد وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف غالانت، ومعه قائد "الجيش" هرتسي هاليفي، أن احتفاظ حركة حماس بالسيطرة على الحياة المدنية في غزة سيسمح لها باستعادة قوتها وتعزيز حضورها، الأمر الذي يتطلب العودة والقتال في المناطق التي تم العمل فيها سابقاً، وهو أمر مرهق، بطبيعة الحال، للقوات الإسرائيلية، ويعني دخولها حرب استنزاف بلا نهاية!
هذه المعضلة، التي تواجه حكومة نتنياهو، تضعه بين فكّي الكماشة، فلا هو قادر على الخروج من قطاع غزة، وقبول تبادل الأسرى، ولا هو يستطيع مواصلة الحرب داخل المحافظات الغزّية إلى الأبد، وخصوصاً أن "الجيش" الإسرائيلي تم إنهاكه بالفعل، بسبب حرب الشوارع التي تحترفها الفصائل الفلسطينية، وبسبب تعددّ ساحات محور المقاومة، والتي توجّه سلاحها نحو قلب "إسرائيل".
يطالب اليمين الإسرائيلي بإخضاع غزة أمنياً، وهو الهدف الذي يبدو مستحيلاً اليوم، كما أن "إسرائيل" حاولت فرض مثل هذه السيطرة بين عامي 1967 و2005، وما كان منها إلا أن انسحبت بسبب المقاومة الشعبية خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
أمّا أحلام وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، والتي كانت لا تكتفي بالاحتلال العسكري لغزة، بل كانت تطمح أيضاً إلى الاستيطان الواسع، فباتت أوهاماً بالكليّة، فقوات الاحتلال فاشلة في حصار المقاومة، أو حتى منعها من الاستمرار في تنفيذ عملياتها.
من جهة أخرى، فإن مخطط التطهير العرقي الجزئي أو الكلي للفلسطينيين، عبر دفعهم إلى الهجرة إلى مصر، انتهى عملياً، ذلك بعد رفض الجانبين المصري والفلسطيني للتهجير، وبعد أن قامت العملية الإسرائيلية الأخيرة في رفح بدفع عدد من الفلسطينيين إلى النزوح مجدَّداً من المناطق الحدودية في اتجاه وسط القطاع.
بالإضافة إلى ذلك، يرفض نتنياهو أي تدخل للسلطة الفلسطينية في غزة. ويبدو أن هذا الموقف ينبع من خشية نتنياهو من أن يمنحها هذا التدخل صدقية أكبر، وبالتالي تزداد أسهم محمود عباس الذي يتشبث بـ"المسار التفاوضي" الذي تدعمه واشنطن وعدد من العواصم الأوروبية.
فالقيادة الإسرائيلية الحالية لا تضع فقط حاجزاً أمام العودة إلى المفاوضات مع الهيئات الفلسطينية، بل إنها تجاوزت ذلك بصورة عملية، بحيث نقلت سياستها إلى مرحلة أخرى، أصبحت تشمل مفردات مغايرة، مثل "الضمّ الكامل للضفة الغربية"، بل حتى "إعادة احتلال غزة".
المؤكد حالياً، لدى حلفاء "تل أبيب" قبل خصومها، أن حكومة الاحتلال باتت لا تملك رؤية فعلية لكيفية التعامل مع الأوضاع داخل قطاع غزة، لا اليوم ولا بعد أن تتوقف الحرب. وبالتالي، يصرّ نتنياهو على إطالة أمد الحرب، وهذا بالطبع له عواقبه السلبية على القدرات والمعنويات لـ"الجيش" الإسرائيلي، الذي أصابه الإعياء، وصار قادته يلهثون إلى متابعة القتال في الجبهات المتعددة.
هل تنتحر "إسرائيل" بالهجوم على جنوب لبنان؟!
بعد أن تأكد فشل القوات الإسرائيلية في مهمتها داخل قطاع غزة، وإخفاق قادة الاحتلال في الوصول إلى مسار داخلي للتسوية، يُخفف الأعباء الأمنية الملقاة على عاتق تلك القوات، فإن التفكير، مجرد التفكير، في شنّ حرب ضد حزب الله، هو بمنزلة انتحار حقيقي.
تريد "تل أبيب" أن تتوقف صواريخ المقاومة اللبنانية الموجهة ضد المناطق الشمالية في "إسرائيل"، وأن يصمت الصهاينة الذين يشتكون من جراء تلك المقذوفات التي تصل إلى كريات شمونة وغيرها. والحل يكمن ببساطة في التوقف عن العدوان على قطاع غزة، وليس إشعال مزيد من النيران التي ستأكل الإسرائيلي، وليس أحداً سواه.
منذ اليوم الأول لعملياته، اشترط حزب الله أن تتوقف آلة الحرب الإسرائيلية عن حصد مزيد من الأرواح داخل قطاع غزة، كي تتوقف الصواريخ التي تنطلق من جنوبي لبنان في اتجاه المستوطنات والمواقع العسكرية الإسرائيلية، وهو شرط إنساني وغاية في العقلانية والوضوح، لكن العقلية المتطرفة التي تحكم "إسرائيل"، اليوم، عازمة على العِناد وتوسيع دائرة الحرب.
عندما يقول الأمين العام للأمم المتحدة إن الحرب الشاملة بين "إسرائيل" وحزب الله ستكون "كارثة"، فإنه صادقٌ في قوله، لكن عملياً يمكن لنا أن نتحمّل "كوارثنا"، على رغم المعاناة والألم، لكن كوارث الكيان الإسرائيلي الهشّ، الذي تأسس برعاية الاستعمار، والذي يشعر مستوطنوه بغربتهم عن المنطقة حتى الساعة، لا يمكن تحمّلها.
على مدار الأشهر الماضية، قامت السلطات الإسرائيلية بإجلاء معظم سكان المستوطنات القريبة من الحدود اللبنانية، نتيجة إطلاق حزب الله الصواريخ من أجل تخفيف الضغط الإسرائيلي على المقاومة الفلسطينية، وردّ "جيش" الاحتلال بعدد من العمليات التي نجم عنها استشهاد قادة كبار في الحزب، بالإضافة إلى ضرب أهداف داخل لبنان.
خلال تلك المعارك استخدمت المقاومة اللبنانية كميات كبيرة من الطائرات من دون طيار والصواريخ. وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، نشر الحزب لقطات، عبر طائرة من دون طيار، لمنشآت عسكرية وبنية تحتية مدنية في مدينة حيفا وغيرها، ليؤكد قدرته على اختراق "الأجواء الإسرائيلية"، والحصول على المعلومات العسكرية المطلوبة، وكجزء من الحرب النفسية التي يشنّها محور المقاومة عموما ضد الإسرائيليين.
يدرك العالم أجمع أن الموقف عند الحدود بين لبنان و"إسرائيل" مرتبط بالحرب التي تجري على بعد أكثر من 160 كيلومترا إلى الجنوب في غزة، لكن نتنياهو لا يزال متشبثاً بخيار مواصلة العدوان، مثقَلاً بوعوده لحلفائه من اليمين المتطرف بتدمير فصائل المقاومة قبل إنهاء الحرب.
الإشكال هنا، أن الجميع بات يعلم بأن تلك الوعود غير قابلة للتحقق. حتى المتحدث العسكري الإسرائيلي، دانيال هاغاري، أكّد أنّ فكرة تدمير المقاومة أو جعل حماس تختفي، "هي فكرة مضلِّلة للجمهور".
على رغم كل ما سبق، يفكّر نتنياهو في إشعال الحرب ضد جنوبي لبنان، فيما يبدو أنه جزء من التخبّط الإسرائيلي العام، أو فيما يشبه حالة الدوّار التي تصيب الذبيحة قبل أن تسقط غارقة في دمائها.
فالدخول في صدام اليوم مع حزب الله هو، بالنسبة إلى "تل أبيب"، درب من الجنون. فالحزب هو جيش فريد التسليح ومُدرَّب بصورة ممتازة، ويتلقى دعماً من محور كامل، يشتد عوده كلما مرّ الوقت، ويكتسب أنصاراً جُدداً كل ساعة.
وأكّد الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، هذا الأسبوع، "أنه لن يستثني أي مكان أو بقعة في إسرائيل، إذا اشتعلت حرب شاملة". وعندما يصرّح السيّد بمثل هذا، فإنه يعني ما يقوله، وعلى "إسرائيل" حقاً، أن تُسارع إلى الاعتراف بفشلها، عسكرياً وسياسياً، وتُوقف عدوانها على قطاع غزة، هذا إن أرادت أن تؤجل ميعاد زوالها!