المسكوت عنه في تفسير السلوك التفاوضي الأميركي في محرقة غزة

صحيح أن ترامب كان بدوره يفاخر بدعمه وتأييده الكيان الإسرائيلي كحال كلّ الرؤساء الأميركيين منذ ترومان حتى جو بايدن، بيد أن  بايدن لم يكتفِ بهذا فقط بل إنه قد اختار جلّ معاونيه في البيت الأبيض وبقية المناصب المفصلية في الإدارة الأميركية من ذوي أصول يهودية.

  • السياق الانتخابي الأميركي وتأثير الجاليات اليهودية الصهيونية.
    السياق الانتخابي الأميركي وتأثير الجاليات اليهودية الصهيونية.

المتابع عن كثب لخطاب المحلّلين والمراقبين العرب في محاولات فهم وتفسير السلوك التفاوضي الأميركي تجاه المحرقة وحرب الإبادة التي ترتكبها "إسرائيل" طوال تسعة أشهر أو يزيد ـــــ سواء في غزة أو في الضفة الغربية ـــــ يندهش من طبيعة هذا الخطاب ودرجة قصوره في تفسير وفهم هذا السلوك والأداء التفاوضي الأميركي، بدءاً من البيت الأبيض ورئيسه "جو باديدن"، مروراً بوزارة الخارجية ووزيرها "أنتوني بلينكن"، انتهاء بمستشار الأمن القومي "جاك سوليفان"، ومن بعده وزير الدفاع "جون أوستن" وكلّ العناصر المعاونة لهم.

صحيح أنه قد وصف الولايات المتحدة بأنها شريك في هذه الحرب الإجرامية، ومتواطئة ومتفقة مع أهداف العدوان وحرب الإبادة الصهيونية في غزة، ولكنه في محاولة تفسير الأداء التفاوضي الأميركي طوال فترة الحرب ـــــ وخصوصاً حينما بدأت جهود تبادل الأسرى، وإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين والغربيين معهم ـــــ غلب على هذا الخطاب "التحليلي" العربي وصف هذا الأداء التفاوضي الأميركي بأنه "ضعيف" و"متردّد"، و"غير قادر على الضغط على إسرائيل ورئيس وزرائها" و"يفتقر إلى الجرأة والشجاعة، ويتسم بالتردّد".. وهكذا من قبيل هذه الألفاظ والتعبيرات. 

والحقيقة أنّ هناك عنصراً حيوياً من عناصر التفسير والفهم لم يرغب العقل التحليلي العربي والمحللون والمعلّقون العرب بالتعرّض له، أو ربما حاولوا تجاهله، ألا وهو "الطبيعة الصهيونية واليهودية المشتركة" للطرفين: الإسرائيلي والأميركي معاً، وذلك: إما تحرّجاً من تناول وعرض هذا العامل في التحليل خشية من اتهامهم "بمعاداة السامية"، أو تجنّباً لغضب هؤلاء المسؤولين الأميركيين وفي طليعتهم الرئيس "جو بادين" ووزير خارجيته "بلينكن" ومستشاره للأمن القومي "سوليفان" وبقية الطاقم المسؤول. 

وهكذا سقط عنصر هام قادر على تفسير منطقي ومتماسك لهذا الأداء البائس للإدارة الأميركية في ظلّ أزمة لم تشهد لها الإنسانية مثيلاً منذ قرون طويلة. 

وهنا ينبغي أن نتوقّف عند العناصر المؤثّرة في الأداء التفاوضي الأميركي البائس في المحرقة الفلسطينية وخصوصاً في قطاع غزة. 

أوّلاً: طبيعة التوجّهات الفكرية والأيديولوجية للرئيس جو بايدن والطاقم المعاون له  

فالرجل لم يُخفِ أبداً صهيونيته وتأييده المطلق لـ "إسرائيل"، بل وذهب إلى أبعد من غيره صراحة ووقاحة حينما قال إنه إذا لم تكن هناك "إسرائيل" لوجب علينا إنشاء وخلق "إسرائيل".

صحيح أن سلفه الرئيس "دونالد ترامب" كان بدوره يفاخر بدعمه وتأييده الكيان الإسرائيلي كحال كلّ الرؤساء الأميركيين منذ ترومان حتى جو بايدن، بيد أن "جو بايدن" لم يكتفِ بهذا فقط بل إنه قد اختار جلّ معاونيه في البيت الأبيض وبقية المناصب المفصلية في الإدارة الأميركية من ذوي أصول يهودية وانتماءات صهيونية أكثر من أي رئيس آخر. 

ومثلما نجحت بعض القوى التكفيرية والإرهابية في عالمنا العربي والإسلامي في اختطاف الإسلام؛ فظهرت منظّمات إجرامية من أمثال "داعش" و"النصرة" و"تنظيم القاعدة" وغيرها، نجحت بالمقابل الحركة الصهيونية في اختطاف قطاع واسع من يهود العالم في دعاويها ومشروعها الاستعماري في فلسطين والشرق العربي، كما نجحت في اختراق تيار من المسيحية الإنجيلية في الولايات المتحدة لمناصرة هذا المشروع تحت شعار "معركة هرمجدون" و"عهد الألفية السعيدة" لتجد نصيراً لها وداعماً لبعض مرشّحي الرئاسة الأميركية. 

ثانياً: السياق الانتخابي الأميركي وتأثير الجاليات اليهودية الصهيونية  

نأتي إلى عنصر إضافي من عناصر التحيّز والمشاركة والتواطؤ الكامل والمطلق مع "إسرائيل" في القيام بمذبحة غزة شهوراً وراء شهور وسط صمت مخزٍ ومشاركة إجرامية من حكومات الغرب من دون استثناء تقريباً، حتى خرجت عن هذا الإجماع الإجرامي حكومات ديمقراطية حقيقية خضعت لتأثيرات الرأي العام في مجتمعاتها، وهزّها هزّاً ما تعرضه كلّ لحظة وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لحجم الجرائم الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية، فكان الموقف المشرّف لحكومات إيرلندا وإسبانيا وسلوفينيا والنرويج، بل وذهبت إسبانيا إلى حد إعلان الانضمام إلى الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي. 

فالرئيس الأميركي جو بايدن يقترب من موعد الاستحقاق الانتخابي خلال الأسابيع والشهور القليلة المقبلة، والصوت اليهودي الصهيوني ـــــ فليس كلّ يهودي صهيونياً ـــــ والمال الذي تموّل به الحملات الانتخابية تؤدي فيه المنظّمات اليهودية الصهيونية والكنائس الإنجيلية الصهيونية دوراً هائلاً وخطيراً، ومن هنا فعلاوة على قناعته الأيديولوجيّة الذاتية فإنّ عنصر المصلحة السياسية والتمويلية حاضر ومؤثّر.  

ثالثاً: طبيعة المواقف العربية المتواطئة مع العدوان الإسرائيلي الأميركي

والعنصر الإضافي الخطير والخفي على كثير من الناس ـــــ وإن كان حاضراً بقوة لدى الطرفين: الإسرائيلي والأميركي ـــــ أنّ موقف معظم الحكومات العربية: إما صامت خوفاً، أو متواطئ فعلاً، أو ضعيف ومتداعٍ، وكذا مؤسسات العمل الجماعي العربي والإسلامي مثل جامعة الدول العربية ومؤسسة التعاون الإسلامي وغيرها من أمة المليار ونصف المليار نسمة، وباستثناء دول وحكومات إيران والجزائر وسوريا وحكومة اليمن الوطنية في صنعاء، ومواقف سياسية مؤيّدة من دون تأثير كبير مثل باكستان وماليزيا والعراق فلا نسمع للبقيّة صوتاً أو موقفاً فعّالاً. 

وكلّ هذا تعلمه تماماً الحكومة العنصرية الإجرامية في "إسرائيل" وفي إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، ولن نذهب بعيداً حينما أكد عدد من المصادر الموثوقة والإعلامية أنّ بعض الحكومات "العربية" كانت تناصر سرّاً وعلناً جرائم "إسرائيل" وتدعمها بالصادرات الغذائية وغير الغذائية سواء أكانوا من دول ما يسمّى الاتفاقيات الإبراهيمية، أم دول التطبيع والاستسلام "العربي" الأخرى. 

بل لقد ذهبت بعض الحكومات العربية إلى حد إصدار الأوامر لجيوشها بالتعامل مع الصواريخ والمسيّرات المنطلقة من إيران أو اليمن أو العراق المتجهة لضرب أهداف داخل الكيان المحتل بإسقاطها..!! 

ولهذا تشجّعت الحكومة النازية والعنصرية في الكيان الإسرائيلي للذهاب إلى هذا المدى الإجرامي   وكذلك الولايات المتحدة وبريطانيا، وعلى عكس المواقف العربية في أثناء حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 التي ساندت بقوة مناسبة موقف الجيشين المصري والسوري، فإنّ الموقف العربي الراهن كان قد جرى اختراقه منذ ذلك التاريخ فبات على هذه الشاكلة الحزينة المكلّلة بالعار. 

رابعاً: انهيار قيم وتأثير القانون الدولي وقانون الحروب واتفاقيات جنيف الأربع: 

مع انهيار القوة الأخلاقية والمعنوية للقانون الدولي عموماً والقانون الدولي الإنساني طوال الثلاثين عاماً الأخيرة ـــــ وتحديداً منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي وانفراد الولايات المتحدة وتحالفها الأطلسي بشؤون العالم وبالقرارات الدولية الهامة، وسيطرة هذا التحالف الغربي الاستعماري على مؤسسة الأمم المتحدة ووكالاتها ومنظّماتها المتخصصة، والإفراط في استخدام سياسات الحصار والمقاطعة والعقوبات خارج النطاق القانوني الذي حدّدته الأمم المتحدة وميثاقها ـــــ تغوّلت الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي في استخدام وسائل القوة والعدوان العسكري؛ لذا شاهدنا هذا السلوك في تكرار العدوان والتدخّل العسكري الغربي والأطلسي عموماً والولايات المتحدة خصوصاً في العراق وسوريا والسودان واليمن وليبيا وكثير من دول العالم المخالف للسياسات الأميركية والغربية، وها هي "إسرائيل" على الدرب الأميركي نفسه تمارس العدوان المتكرّر على قطاع غزة منذ عام 2006 ثماني مرات خلال أقل من ستة عشر عاماً، وصولاً إلى مذبحة ومحرقة غزة منذ الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023 حتى يومنا في مشهد لم يرَ العالم كلّه مثيلاً له منذ قرون عديدة. ومن هنا يأتي التواطؤ الأميركي والمشاركة وممارسة الدبلوماسية الأميركية لعبة الخداع المقصود. 

خامساً: ضعف تأثير الموقفين الروسي والصيني

ساهم ضعف الموقفين الروسي والصيني عملياً (في مواجهة هذه الجريمة غير المسبوقة والمحرقة التي تجري أمام العالم وكاميراته لحظة بلحظة، وساعة بعد ساعة) ليس في الاندفاع الإجرامي الإسرائيلي في المذبحة فحسب، بل إنه ساهم أيضاً في توغّل وتغوّل الموقف الأميركي المساند سياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً وإعلامياً. 

صحيح أن الإدارة الروسية حاولت عبر مواقفها المؤيّدة للحقّ الفلسطيني في مجلس الأمن والمحافل الدولية والحقوقية إدانة العدوان الإسرائيلي الوحشي على غزة خصوصاً وفلسطين عموماً، بيد أنّ هذا الموقف قد ظلّ في دائرة "الكلام" من دون أن يتحرّك إلى ما هو أبعد من ذلك، وربما كان خذلان المواقف العربية الرسمية وموقف سلطة محمود عباس (التي أعلنت إدانتها أكثر من مرة لما أسمته انفراد "حماس" بقرارات السابع من تشرين الأول/أكتوبر) قد أثّر ضعفاً على الموقف الروسي والموقف الصيني فظلّا في دائرة إدانة المحرقة الفلسطينية في غزة والسلوك الإسرائيلي. 

سادساً: تأثير مواقف الشعوب والحركات الطالبيّة في الغرب 

وسط هذا الركام والحريق والمذابح الصهيونية في غزة ـــــ وإلى حد ما في الضفة الغربية ـــــ برزت ظاهرة تستحقّ كلّ العناية والاهتمام العربي والعالمي. لقد تحرّك مئات الآلاف في شوارع المدن الغربية جميعاً دون استثناء، كما تحرّك عشرات الآلاف من الطلاب في الجامعات الكبرى في الغرب تأييداً لنضال الشعب الفلسطيني وإدانة لهذه المحرقة غير المسبوقة في التاريخ الحديث للشعوب؛ فدشّنت بذلك تحوّلاً تاريخياً بكلّ معنى الكلمة في ضمير ووعي القطاع الأوسع من القوة الحيّة في تلك البلدان، وأسقطت عن الكيان الإسرائيلي كلّ "المشروعيّات" الأخلاقية والسياسية والتاريخية. 

وكان من أبرز ما في تلك الظاهرة أن تشارك هذه الجموع مجموعات يهودية (شبابية وغير شبابية) تعلن بجرأة وشجاعة أنّ ما يجري في غزة "ليس باسمنا"، فأسقطت هيمنة السردية الصهيونية التي نجحت لعقود طويلة في اختطاف القطاع الأوسع من الجاليات اليهودية لمشروعها الاستعماري في فلسطين.

ونظنّ أنّ هذه التحرّكات الشبابية والشعبية في أوروبا والولايات المتحدة وكندا ـــــ ناهيك عن تحرّكات شعوب كثيرة من دول أميركا الجنوبية ـــــ كان لها تأثير قويّ على موقف بعض الحكومات الأوروبية؛ فأعلنت عدة حكومات (وعلى رأسها إسبانيا والنرويج وأيرلندا وسلوفينيا) اعترافها بمشروع الدولة الفلسطينية، بل وذهبت الحكومة الاشتراكية في إسبانيا إلى حدّ إعلان انضمامها إلى دعوى جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية ضد "إسرائيل" من أجل وقف حرب الإبادة الجماعية التي ترتكبها طوال تسعة شهور أمام العالم كلّه. 

وإذا كان لهذه المواقف تأثير على تفتيت وحدة الموقف الأوروبي المؤيّد لـ "إسرائيل" في بداية الحرب، فإنّ ما جرى في الجامعات الأميركية (من اعتصامات واحتجاجات ومواجهتها بالقسوة والعنف وإجراءات فصل كثير من الطلاب من هذه الجامعات) قد عرّت سياسة الرئيس جو بايدن وحزبه الديمقراطي، وكذا الحزب الجمهوري ونوابهما في الكونغرس الأميركي. 

نحن بقدر الجريمة التاريخية بقدر ما نحن أمام تحوّل تاريخي سوف يترتّب عليه الكثير في المستقبل. 

 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.