التضليل المُوجّه في الإعلام الإسرائيلي.. هل السؤال مشروع؟ (2-5)

مشروعية السؤال تتعزز في ضوء سماح الرقابة العسكرية بنشر آراء سلبية مُتطرفة حول واقع "إسرائيل" في وقت تظهر البيانات أرقاماً قياسية في الحجب منذ "طوفان الأقصى".

  • تضليل تحت مظلة الرقابة العسكرية.
    تضليل تحت مظلة الرقابة العسكرية.

في سياق تتبّع سؤال التضليل الموجّه ذي البعد الأمني في الإعلام الإسرائيلي، يجب عدم إغفال أن فحوى ما أدلى به مفوّض شكاوى العسكريين سابقاً في "الجيش" الإسرائيلي إسحاق بريك حول ضعف جاهزية "جيش" الاحتلال والجبهة الداخلية الإسرائيلية في مواجهة أي حرب مع لبنان، سبق أن عبّر عنه بأكثر من طريقة عشرات الباحثين والصحافيين، فضلاً عن جهات أمنية وعسكرية موزونة في أوساط العدو، لكن هذا كلّه لا يعطّل السؤال عن وجود تضليل محتمل بين هؤلاء أو لدى بعضهم، خصوصاً أن مثل هذا الاحتمال، نظرياً على الأقل، يدعمه ما سوف يأتي لاحقاً.

قبل ذلك، ربما من المفيد المرور على بعض الإشارات التي تقاطعت مع آراء بريك قبل العدوان الموسع على لبنان في أيلول/سبتمبر الماضي. تقرير صادر عن معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (أحد أكثر مراكز الدراسات رصانة في الكيان) أوضح في شهر آب/ أغسطس من العام الماضي، أنه من الصعب التنبؤ بكيفية تطور الحملة المكثفة ضد حزب الله، وأنه يجدر الأخذ في الاعتبار الظروف القاسية التي قد تنجم عن الحرب مع لبنان. العبارة الأهم التي ترد في التقرير مفادها أنه ليس من المؤكد أن الفوائد الاستراتيجية للحرب مع لبنان سوف تفوق الضرر الناجم عنها، وهنا مربط الفرس.

خلاصة مشابهة عبّر عنها رئيس حكومة الاحتلال الأسبق، إيهود باراك، في شهر أيلول/ سبتمبر 2024 في ما يتعلق بالحرب مع لبنان، إذ قال إنّ حرباً شاملة مقابل حزب الله "يمكن لها أن تتوسّع إلى حرب إقليمية"، مؤكّداً أنّ "ذلك خطأ استراتيجي كبير سيكون له ثمن مؤلم وثقيل". كذلك، شدّد على ضرورة "القيام بكل ما يلزم لمنع حصول حرب في الشمال، لأن الثمن الذي سندفعه لن يؤدي إلى نتيجة أفضل مما يمكن لأيّ اتفاق تحقيقه".

مؤشرات إلى كوابح الحرب

الشواهد على صعوبة العمل العسكري تجاه لبنان خلال الفترة السابقة لعدوان أيلول/سبتمبر يصعب حصرها، إذ جرى تسريب مجموعة أخبار إلى وسائل الإعلام الإسرائيلية تعزز هذا الانطباع.

أحد هذه الأخبار أفاد نقلاً عن "الجيش" الإسرائيلي بأن الأخير "لا يوجد لديه ما يكفي من القوات للانجرار إلى حرب متعددة الساحات لا نعرف كيف تنتهي"، كما نسبت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" إلى "مسؤول أميركي كبير" قوله إنه في نهاية الحرب مع لبنان، قد تدفع "إسرائيل" ثمناً باهظاً ولا تحقق أهدافها.

ومن الأخبار المسربة أيضاً أنه تقرر "التصعيد التدريجي من دون دخول حرب شاملة"، فيما نقلت القناة 12 الإسرائيلية أن الهدف الإسرائيلي ليس بالضرورة حرباً إنما محاولة لتغيير الوضع من أجل الدفع قدماً إلى تسوية.

نائب رئيس الأركان الإسرائيلي السابق يائير غولان أعرب عن أمر مماثل، لكن أشد وضوحاً، حينما قال: "أقول للمواطنين بكل شجاعة إن إسرائيل لا تستطيع اليوم أن تفتح حرباً في الشمال".

وزير الأمن الإسرائيلي السابق يوآف غالانت، الذي غيّر رأيه في الفترة الأخيرة التي سبقت العدوان، قال في هذا السياق: نحن جاهزون في أي لحظة لحرب في الشمال، ولكن ليس هذا ما نفضّله، وما زلنا نعطي فرصة لاحتمال التوصّل إلى اتفاق. كما رأى في مناسبة أخرى أنه يجب التوصل إلى صفقة مخطوفين تؤدي إلى تسوية في الشمال وتهدئة في المنطقة.

ولم تقتصر الإشارات الكابحة للحرب على الجانب الإسرائيلي بل أسهم فيها أيضاً الجانب الأميركي، إذ أعلن رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة أن واشنطن لن تكون قادرة على الأرجح على مساعدة "إسرائيل" بالدفاع عن نفسها في حرب أوسع نطاقاً.

أما المبعوث الأميركي في عهد إدارة بايدن آموس هوكستين فقد أوضح أن "المعركة الواسعة ضد لبنان لن تعيد الأسرى بل ستعرّض إسرائيل للخطر"، محذّراً من أن "صراعاً أوسع في لبنان يمكن أن يتطوّر إلى صراع إقليمي أوسع وأطول بكثير"، ومن أن "العملية العسكرية وحدها لن تعيد سكان الشمال إلى منازلهم".

تضليل تحت مظلة الرقابة العسكرية

في خلاصة هذا العرض يُطرح السؤال من جديد حول ما إذا كان سؤال التضليل المتعمّد مسألة يُعتدّ بها في الحرب التي حصلت، من دون إغفال وجود معطيات تدعم الاحتمالات الأخرى في المقابل، مثل التهديدات العلنية بالحرب التي وردت صراحة على ألسنة المسؤولين الإسرائيليين، إضافة إلى رسائل نقلت إلى حزب الله قبل الحرب، فهل تدحض مثل هذه المواقف الفرضية الأولى؟ 

ليس بالضرورة، على اعتبار أن هذه التهديدات والتهويل بالحرب رافقت المواقف الرسمية الإسرائيلية منذ اليوم التالي لعملية "طوفان الأقصى". وعليه، يبقى السؤال معلّقاً بحيث يحتاج جلاؤه إلى المزيد من القرائن، لكن ما يجعل احتمال التضليل وارداً هو أن "إسرائيل" لديها سوابق في هذا التوجّه، الأمر الذي يحتاج إلى مزيد من التفصيل في الجزء الأخير من هذا المسعى.

ما يمكن إيراده قبل الوصول إلى ذلك، أن عمليات التضليل تقودها أحياناً السلطات الإسرائيلية لأغراض تتعلق بمصالح سياسية وحزبية، ولا تنطلق دائماً من خلفية الأمن القومي. المسألة تتعدى أحياناً عنوان التضليل إلى التزييف والفبركة، ويكون الهدف في كثير من الأحيان هو الجبهة الداخلية الإسرائيلية والرأي العام الإسرائيلي.

في نيسان/أبريل الماضي، أثار تصريح وزير الأمن الإسرائيلي السابق يوآف غالانت جدالاً داخل الساحتين السياسية والإعلامية الإسرائيليتين حينما صرّح بأن إحدى الصور التي نشرها "جيش" الاحتلال في آب/أغسطس الماضي كانت "كاذبة"، واستُخدمت حينها لتسويق وجود أنفاق في محور فيلادلفيا من أجل المبالغة في أهميته، ومن أجل تأخير صفقة تبادل الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في قطاع غزة.

الصورة المذكورة نشرتها وسائل إعلام إسرائيلية على نطاق واسع حينها، وزعمت أن "إسرائيل" اكتشفت نفقاً ضخماً للمقاومة الفلسطينية عند الحدود مع مصر يبلغ عمقه عشرات الأمتار تحت الأرض، مروّجة لـ"إنجاز كبير" يتمثل في اكتشاف نفق ضخم مكوّن من 3 طبقات أدهش الجنود الإسرائيليين، ليتبيّن لاحقاً باعتراف غالانت أن الخبر عار تماماً من الصحة.

أما عندما يجري الحديث عن الرقابة العسكرية الرسمية من منطلق الأمن القومي، فإن مشروعية السؤال حول التضليل تتعزز في ضوء المعطيات المعروفة التي تُصنّف الكيان الإسرائيلي باعتباره إحدى أكثر الدول حول العالم التي تمارس أنواعاً مختلفة من الضبط في الرسائل الإعلامية، لا سيما خلال الحروب، من دون أن ينفي ذلك الهوامش المتاحة أمام الصحافة ومحاولات التملّص من الرقابة.

الحديث حول هذا الأمر واسع ومتشعّب ويخضع لمجموعة من القوانين التي تهدف في المحصلة إلى التحّكم في الرسائل الموجهة إلى الرأي العام الداخلي وحجب المعلومات التي قد يضرّ نشرها بالأمن القومي، من قبيل التسبّب بأضرار نفسية وعسكرية وقانونية.

في عام 2024، احتلت "إسرائيل" المرتبة 101 من أصل 180 في مؤشر حرية الصحافة الخاص بمنظمة "مراسلون بلا حدود"، وقد تراجع هذا التصنيف حالياً إلى المركز 112. 

بات شائعاً، ومع ذلك خارج نطاق موضوعنا الحالي، أمر التكتّم الإسرائيلي على الخسائر، وكذلك محاولة السيطرة على وسائل التواصل الاجتماعي وضبط الرسائل الموجهة ليس فقط إلى الرأي العام الإسرائيلي، ولكن أيضاً إلى الجمهور العالمي. لكن، ما يعنينا في إطار مقاربة علاقة الرقابة العسكرية بالتضليل هو سبب امتناع سلطات الرقابة عن نشر آراء قد تقوّض الروح المعنوية للمستوطنين، مثل مقالات إسحاق بريك وغيره، في وقت تظهر الوقائع أرقاماً قياسية وغير مسبوقة في الرقابة على الإعلام الإسرائيلي منذ "طوفان الأقصى".

معظم أنشطة الرقابة تبقى مخفية

خلال الأسبوع الأول من مايو/أيار الما    ضي، نشرت مجلة "972+" الإسرائيلية تقريراً يتناول تصاعد الرقابة العسكرية في "إسرائيل"، وأشارت إلى أن عام 2024 شهد أعلى مستوى من الرقابة منذ بدأت المجلة جمع البيانات في عام 2011. 

وتوضح المعطيات التي حصلت عليها المجلة أنه على مدار العام، حظر الرقيب نشر 1635 مقالاً بالكامل وفرض رقابة جزئية على 6265 مقالاً آخر. أما في المتوسط، فقد تدخلت الرقابة في نحو 21 تقريراً إخبارياً يومياً عام 2024، أي أكثر من ضعف الذروة السابقة التي بلغت نحو 10 تدخلات يومية سُجلت خلال الحرب على قطاع غزة في عام 2014، وأكثر من 3 أضعاف المتوسط في غير أوقات الحرب البالغ 6.2 تدخّلات يومياً. 

وبموجب القانون الإسرائيلي، فإنّ أي مقال يتناول فئة محددة من "القضايا الأمنية" على نطاق واسع يجب أن يخضع لمراجعة الرقابة العسكرية، وتقع على عاتق فرق التحرير مسؤولية تحديد المقالة التي سيتم تقديمها بناءً على حكمهم الخاص. وعندما يتدخل الرقيب، يُمنع الإعلام من الإشارة إلى وجود رقابة، ما يعني أن معظم أنشطته تبقى مخفية عن الرأي العام. 

في عام 2024، قدمت المؤسسات الإعلامية الإسرائيلية 20770 مادة إخبارية إلى الرقيب العسكري لمراجعتها، أي ما يقرب من ضعف إجمالي العام السابق، و4 أضعاف العدد في عام 2022. وتدخّل الرقيب في 38% من هذه المواد، وبلغت حالات الرفض الشامل لمقالات إخبارية بأكملها 20% من إجمالي التدخلات، وفق المجلة.