منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية.. العملاق الاقتصادي القادم على العالم

اتفاقية التجارة الحرة الأفريقية من شأنها أن تغير قواعد اللعبة. ورغم التحديات التي تواجه المشروع، فقد شرع عدد من الدول الأفريقية بتطبيق بعض أهداف المنطقة الموضوعة، وبالتالي القفز فوق العوائق التي تعترض طرق التعاون في ما بينها.

  • منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية.. العملاق الاقتصادي القادم على العالم
    منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية.. العملاق الاقتصادي القادم على العالم

بعد سُبات قهري طويل فرضه الاستعمار الغربي على أفريقيا وما تلاه من تدخلات خارجية وحروب وأزمات واضطرابات وفتن داخلية عرقية وإثنية، فضلاً عن ضغوط المناخ وكوارثه، كالتصحر والجفاف، يبدو أن المارد الأفريقي استفاق من كبوته بهدف النهوض بالقارة السمراء اجتماعياً وتنموياً ومعيشياً.

ولهذه الغاية، توحدت دول الاتحاد الأفريقي لتشكيل حلف اقتصادي تجاري على غرار القارات الأخرى، لفرض نفسها لاعباً أساسياً في ساحة التكتلات الدولية التجارية وأخذ موقعها الريادي والطبيعي فيها، متسلحة بإمكانات وقدرات بشرية وطبيعية ومعدنية هائلة.

وشهد العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى وقتنا الحاضر ظهور عدة تكتلات اقتصادية وتجارية في عدة مناطق وقارات، لكن منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية، أو ما يعرف اصطلاحاً بـ AFCFTA، يرى خبراء أنها ستكون عملاق الاتفاقات التجارية الدولية عما قريب.

منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية

عام 2018، أُعلن عن اتفاق إنشاء منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية، تنفيذاً لقرارات مؤتمر رؤساء الدول والحكومات الأعضاء في الاتحاد الأفريقي، الذي كان قد عقد في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في الفترة الممتدة بين 29 و30 كانون الثاني 2012. هذه القرارات متعلقة بوضع خطة عمل وإطار وخارطة طريق وهيكل موحد للتعجيل بظهور هذا الحلف الهادف إلى تعزيز التجارة في القارة السمراء.

تتميز هذه المنطقة التجارية الناشئة بنطاق جغرافي هائل، إذ تمتد على مساحة تبلغ 3 أضعاف مساحة الولايات المتحدة، وهي كبيرة بما يكفي لتغطية كل من الولايات المتحدة والصين والهند وجزء كبير من أوروبا الغربية مجتمعة.

أكثر من ذلك، تضم المنطقة 54 دولة أفريقية، فيما يُقدر عدد سكانها بـ 1.3 مليار نسمة. أما الناتج المحلي الإجمالي لدولها مجتمعة، فيبلغ نحو 3.4 تريليون دولار.

أهداف منطقة التجارة الحرة الأفريقية

عند الاطلاع على نصوص الاتفاق لهذه المنطقة التي تم إطلاقها رسمياً عام 2021، نجد أن أهدافها كثيرة يمكن إيجازها بالآتي:

- انتشال ما بين 30 إلى 50 مليون أفريقي من الفقر المدقع.

- رفع مستوى الدخل الفردي في جميع أنحاء القارة بمقدار 450 مليار دولار، أي بزيادة قدرها 7%.

- خلق سوق موحدة للسلع والخدمات متبوعة بإجراءات تُسهل تنقل الأشخاص بغية تعميق التكامل الاقتصادي للقارة.

- إنشاء سوق حرّة للسلع والخدمات تُسهم في انتقال حركة رأس مال الأشخاص.

- تسهيل الاستثمارات المبنية على المبادرات الفردية والجماعية وتطورات العلاقة بين الدول الأطراف والمجموعات الاقتصادية الإقليمية.

- إرساء الأسس لإقامة اتحاد جمركي وسوق قارية مشتركة وموحدة في مرحلة لاحقة.

- تشجيع وتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة والشاملة والمساواة بين الجنسين.

- تحسين القدرات التنافسية لاقتصاديات الدول الأطراف داخل القارة وفي السوق العالمية.

- الحثّ على التنمية الصناعية والزراعية وتحقيق الأمن الغذائي.

التحديات التي تواجهها منطقة التجارة الحرة الأفريقية

في المناطق الناجحة اقتصادياً، مثل أميركا الشمالية وأوروبا وآسيا، تقوم الدول بالتبادل التجاري البيني، أي بين دول المنطقة مع بعضها البعض، لكن في أفريقيا ثمة عقبات وتحديات يجري العمل على تفكيكها، فنسبة التجارة القائمة بين بلدان القارة تقدر بـ13% فقط. في المقابل، تبلغ نسبة التجارة الداخلية في أوروبا نحو 60%. والمفارقة أن البلدان الأفريقية تحرص على رفع مستوى التجارة مع أوروبا، وعلى نحو متزايد، مع الصين.

وهنا يُطرح سؤال جوهري مفاده: هل يمكن لاتفاقية التجارة الجديدة في أفريقيا أن تُحدث حقاً تحولاً جذرياً بين بلدانها يؤدي في النهاية إلى تفعيل التعاون وزيادة التبادل التجاري بينها؟ الجواب مرهون بالتحديات التي تواجه منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية، وبقدرتها على تخطيها، وبالدروس المستخلصة من تجارب أخرى مفيدة - تثير الحذر والتفاؤل في آن - والتي يكمن اختصارها بالتالي:

1- الوقت الذي يتطلبه إبرام الاتفاقيات التجارية لتصبح جاهزة بالكامل وواضحة النتائج، فقد كانت أول محاولة للتكامل الاقتصادي في أوروبا تسمى "مجتمع الفحم والصلب" الذي تم إطلاقه في عام 1952. وبعد 50 عاماً، طرح "اليورو" بشكل نهائي ليحل محل العملات الوطنية. كما استغرقت المفاوضات المضنية لإقرار معاهدة نيس (في العام 2001) المدة ذاتها للسماح لدول أوروبا الشرقية بالانضمام الاتحاد الأوروبي. 

 2 - استغرقت كتلة جنوب شرق آسيا، المعروفة باسم "رابطة دول جنوب شرق آسيا"، أكثر من عقد من الزمان ليكتمل تشكيلها وتُحدّد وظائفها. ومع ذلك، لا يزال العمل قيد التقدم.

3- أي من اتفاقيات التجارة العالمية القائمة لا تلغي التعريفات الجمركية بالكامل أو تغطي 100% من المنتجات. ولهذا، تكافح البلدان دائماً للحفاظ على الإعفاءات للمنتجات الوطنية التي تريد حمايتها أو تعتبرها "حساسة". على سبيل المثال، الفواكه الاستوائية والقهوة والأرز في جنوب شرق آسيا.

علاوة على ذلك، إن فرض قواعد التجارة المفتوحة يعتبر تحدياً آخر، كونه يتطلب ضوابط جمركية مشددة وأنظمة تفتيش صارمة على الحدود التي يسهل اختراقها، حيث ينتشر التهريب.

وإلى جانب التفاوت في مستويات التنمية بين البلدان الأفريقية، لعل أكبر عقبة أمام البلدان الأفريقية هي الإرث الاستعماري الذي يرتبط ببنيتها التحتية الرديئة، فالقوى الاستعمارية لم تهتم إلا لمصالحها. لذلك، امتنعت عن تطوير وسائل النقل في أفريقيا باختلاف أنواعها، بل اكتفت ببناء ما يساعدها على شحن الموارد الطبيعية المنهوبة من القارة من أقرب ميناء محلي، والتوجه بها إلى لندن أو باريس أو بروكسل أو لشبونة. والأسوأ أن الدول الاستعمارية نادراً ما بنت الطرق أو السكك الحديدية أو الجسور أو المرافئ البرية والموانئ البحرية لربط البلدان الأفريقية ببعضها البعض.

تغيير قواعد اللعبة

اتفاقية التجارة الحرة الأفريقية من شأنها أن تغير قواعد اللعبة. بالرغم من التحديات أعلاه، شرع عدد من الدول الأفريقية بتطبيق بعض أهداف المنطقة الموضوعة، وبالتالي القفز فوق العوائق التي تعترض طرق التعاون في ما بينها. ولهذا، يسير إنشاء منطقة تجارة حرة في أفريقيا حالياً جنباً إلى جنب مع تخفيف قيود السفر، إذ يحتاج رجال الأعمال إلى التحرك بحرية عبر الحدود. والأهم أن هذا بدأ يحدث بالفعل على أرض الواقع.

وتبعاً لذلك، تسمح كينيا ورواندا وغامبيا وبنين وسيشيل حالياً بدخول جميع الأفارقة من دون تأشيرة. وبالمثل، أسقطت جنوب أفريقيا متطلبات التأشيرة لمجموعة من الدول الأفريقية. كذلك، تتيح "مجموعة شرق أفريقيا" المكونة من 8 دول السفر بلا حدود لأعضائها. وليس بعيداً عن ذلك، تشهد جنوب أفريقيا تدفقاً للمهاجرين الأفارقة من نيجيريا ومالاوي وزيمبابوي والصومال.

كما أدت سهولة حركة الناس إلى تحويل حي إيستلي المتهالك في نيروبي إلى مركز تجاري نابض بالحياة يعج بالتجار الصوماليين الذين يبيعون بضائع تشمل الملابس الرخيصة والهواتف المحمولة صينية الصنع والمجوهرات الذهبية، فيما يمتلئ مركز BBS Mall الجديد اللامع في إيستلي بالمحال التجارية المملوكة للصوماليين. وفي كانون الثاني/يناير الماضي، دشنت جنوب أفريقيا أول شحنة تجارية مع دولة أفريقية بموجب الاتفاقية، وأرسلت ثلاجات وغرف تبريد كبيرة إلى كينيا.

صحيح أن الأمر قد يستغرق سنوات، إن لم يكن عقوداً، حتى يتم تنفيذ منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية بالكامل. ومع ذلك، بمجرد بدء التنفيذ الجماعي للأهداف، يمكن أن يزيد تدفق التجارة الداخلية وتنظم المعايير واللوائح في جميع أنحاء القارة، ما يسهل على الغرباء، بما في ذلك الشركات الأميركية والأجنبية، القيام بالأعمال التجارية في أفريقيا. ومن الممكن أيضاً أن يمنح القارة السمراء صوتاً موحداً في التفاوض على الساحة العالمية.

تبدو منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية بعيدة كل البعد عن نماذج التكتلات التي جلبت الرخاء للمنضمين إليها والشرور لغيرها كنموذج "الولايات المتحدة الأميركية"، ولكن هذا المشروع يظهر أنه قادر على وضع أفريقيا على الطريق نحو المزيد من الرخاء والازدهار. وفي قارة مليئة بالأخبار السيئة والكوارث، يعد هذا أمراً يدعو إلى البهجة والتفاؤل.

 

علي دربج - أستاذ جامعي