معابد النزاع وألغام الداخل: ماذا يحدث عند حدود كمبوديا وتايلاند؟

اشتباكات دامية على حدود كمبوديا وتايلاند تعيد نزاع المعابد والخرائط الاستعمارية إلى الواجهة، وسط أزمات داخلية وتدخّلات إقليمية.

  • تايلاند وكمبوديا
    رئيس وزراء كمبوديا هون مانيت (يسار)، وورئيس وزراء تايلاند بالإنابة فومتام ويشاياتشاي يتصافحان بينما يضع رئيس وزراء ماليزيا أنور إبراهيم ذراعيه حولهما بعد محادثات وقف إطلاق النار بين بلديهما في ماليزيا (الميادين نت)

بعد اشتباكاتٍ دامت خمسة أيام على الحدود بين تايلاند وكمبوديا، أُعلن عن وقف إطلاق نار برعاية ماليزية ومراقبة دولية. النزاع، الذي أودى بحياة العشرات، يُعيد إلى الواجهة خلافاتٍ استعمارية قديمة، وصراعاتٍ على النفوذ الإقليمي، في ظلّ أزماتٍ داخلية متشابكة.

ما الذي حدث مؤخراً؟

لم يكن ما شهدته الحدود التايلاندية-الكمبودية في الأيام الأخيرة مجرّد اشتباكٍ عابر أو مناوشة محدودة، بل تطوّر سريعاً نحو مواجهة عسكرية واسعة النطاق، وُصفت بأنها الأعنف منذ عام 2011، أعادت إلى سطح المشهد الإقليمي واحدة من أقدم النزاعات السيادية وأكثرها استعصاءً على الحلحلة.

بين الرابع والعشرين والثامن والعشرين من تموز/يوليو 2025، انزلقت العلاقات الثنائية إلى حافة الهاوية، بعدما أدّى انفجار لغم أرضي بالقرب من دورية تايلاندية إلى مقتل جندي وإصابة اثنين، في منطقة "المثلّث الزمردي" المتنازع عليها، لتتدحرج بعدها كرة النار نحو سلسلة من المواجهات المتصاعدة، شاركت فيها المدفعية الثقيلة والطائرات المسيّرة، وامتدّت لتشمل بلدات حدودية ومراكز مدنية، لم تنجُ من تبعاتها لا المدارس ولا المراكز الصحية، ولا منازل المدنيين الذين اضطرّ عشرات الآلاف منهم للنزوح، تحت وابل من النيران.

وبينما تتضارب الروايات حول المسؤول الأول عن إشعال الفتيل، تتقاطع المعطيات الميدانية على أنّ أكثر من 35 شخصاً قُتلوا، معظمهم من المدنيين، فيما جرى إجلاء نحو 130 ألفاً. وتحدّثت مصادر حقوقية محلية عن تعتيمٍ إعلامي جزئي تُمارسه السلطات الكمبودية على حجم الخسائر الفعلية في صفوف قواتها وسكانها.

بانكوك وبنوم بنه، كلتاهما اختارتا تصعيد النبرة السياسية. استدعاء السفراء، رفع الجاهزية على طول الشريط الحدودي الممتد لنحو 800 كيلومتر، وفتح قنوات التعبئة الإعلامية بخطاب قومي حادّ، كلّها مؤشرات على انزلاق متسارع نحو سيناريو نزاعٍ مفتوح، لم تُفلح الآليات الإقليمية لرابطة "آسيان" في احتوائه، على غرار ما فشلت به مراراً في السابق.

لكن وفي لحظةٍ لافتة من التقدير السياسي، تمكّنت ماليزيا – التي بدت أكثر حيوية في دورها الإقليمي خلال الأشهر الأخيرة – من جمع الطرفين في العاصمة بوتراجايا، في محادثات ماراثونية قادها رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم، وحضرها مراقبون أميركيون وصينيون، أفضت إلى اتفاق هدنة فورية وغير مشروطة، أُعلن عنها مساء الأحد 28 تموز/يوليو الجاري.

الاتفاق، الذي وُصف بـ"الهشّ"، نصّ على وقف إطلاق النار، وتشكيل لجنة عسكرية مشتركة لمراقبة تطبيق التهدئة، إلا أنّ التقارير الأولى بعد دخوله حيّز التنفيذ، لم تكن مشجّعة: اتهامات متبادلة بخرق الهدنة، مناوشات محدودة في بعض نقاط التماس، ونبرة إعلامية لم تهدأ بعد، ما يُنذر بأنّ الطريق إلى استقرارٍ دائم لا تزال محفوفةً بتعقيدات سياسية وميدانية، لا تكفي هدنة اضطرارية لإزالتها.

خلفيّة النزاع الحدودي: جغرافيا مشتبكة وخرائط استعمارية مشوّشة

لا يُفهم التصعيد الأخير بين تايلاند وكمبوديا بمعزل عن تاريخ طويل من النزاع الحدودي، الممتد على مدى قرنٍ من الزمن، والمثقل بإرث استعمار معقّد واتفاقيات غامضة لم تُحسم تفسيراتها حتى اليوم.

تعود جذور الخلاف إلى أوائل القرن العشرين، حين وقّعت فرنسا – بوصفها سلطة استعمارية على كمبوديا – اتفاقيتي ترسيم حدود مع مملكة سيام (تايلاند الحالية) في عامي 1904 و1907. وعلى الرغم من أنّ الاتفاقيتين حاولتا رسم الحدود وفق معايير جغرافية طبيعية، إلّا أنّ تنفيذها على الأرض بقي ملتبساً، ما فتح الباب أمام نزاعٍ طويل حول "الخطّ الدقيق" للفصل بين أراضي البلدين.

أبرز بؤر التوتر تقع على طول القطاع الشمالي الشرقي من الحدود، وتحديداً في مناطق معبد "برياه فيهير" (Preah Vihear) الأثري الذي يقع في شمال كمبوديا، بمحاذاة سلسلة جبال دانغرك عند الحدود مع تايلاند، وهذا المعبد كان موضع نزاع عُرض على محكمة العدل الدولية التي أقرّت سيادة كمبوديا عليه في حكمها لعام 1962، بالإضافة إلى عدّة معابد أبرزها: معبد تا موان ثوم (Ta Moan Thom) عند الحدود بين محافظة أودار ميانتشي الكمبودية ومحافظة سورين التايلاندية، ومعبد تا موان توتش (Ta Moan Toch) شمال غرب كمبوديا ومحافظة سورين التايلاندية.

وأيضاً، هناك بؤرة توتر أخرى هي منطقة جبل دانغريك المعروفة بـ"المثلّث الزمردي"، إلى جانب عشرات النقاط الصغيرة التي لم يُحسم وضعها الرسمي، نتيجة تضارب الخرائط بين الجانبين، إذ تعتمد كمبوديا على خرائط فرنسية قديمة، فيما تستند تايلاند إلى خرائط رسمية أُعدّت لاحقاً بمعايير مختلفة.

وقد وصل النزاع إلى ذروته القانونية في ستينيات القرن الماضي، حين لجأت كمبوديا إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، التي حكمت عام 1962 لصالح السيادة الكمبودية على معبد "برياه فيهير"، من دون البتّ الكامل في محيطه الجغرافي، وهو ما أبقى النزاع مفتوحاً ومثيراً للتأويل المتضاد.

عاد التوتر إلى الواجهة بين عامي 2008 و2011، حين وقعت اشتباكات مسلّحة دامية بين قوات البلدين في محيط المعبد، أسفرت عن مقتل العشرات، ونزوح آلاف المدنيين، في ظل موجات من التحريض الإعلامي والتعبئة القومية. وعلى الرغم من تدخّل الأمم المتحدة و"آسيان" حينها، فشلت محاولات ترسيم نهائي للحدود، وبقيت التفاهمات هشّة وسريعة الانهيار عند كلّ حادثٍ حدودي.

من الناحية الجغرافية، يُشار إلى أنّ الحدود بين تايلاند وكمبوديا تمتدّ لأكثر من 800 كيلومتر، معظمها يمرّ عبر مناطق جبلية تكسوها أحراج كثيفة، ما يزيد من صعوبة المراقبة والسيطرة، ويجعلها عرضة للتسلّل، أو لزرع الألغام، أو لاندلاع اشتباكات عفوية سرعان ما تتحوّل إلى مواجهات متعدّدة الأطراف.

ويعزو مراقبون فشل الطرفين في التوصّل إلى اتفاق دائم إلى تداخل الأبعاد السيادية مع حسابات السياسة الداخلية، إذ يوظّف كلّ طرف خطاب "الدفاع عن الأرض" لتعزيز شرعيّته الشعبية، خاصة في فترات الأزمات أو التغييرات في السلطة، ما يجعل ملف الحدود ورقة قابلة للاشتعال في أيّ وقتٍ، أكثر منها قضية قابلة للحسم الهادئ.

ويرى رئيس مركز آسيا، أرنود ليفو، أنّ استعادة الهدوء عند الحدود لا تكفيها هدنة هشّة أو وقفٌ مؤقتٌ لإطلاق النار، بل تقتضي تجديداً عميقاً للالتزام بالحوار المؤسسي، وتفعيل الآليات الإقليمية القائمة على سيادة القانون.

وإذا كانت "آسيان" تطمح للاحتفاظ بدورها كمظلّة توازن في جنوب شرق آسيا، فإنّ عليها أن تتعامل مع الأزمة الراهنة لا كحادثة عابرة، بل كعرضٍ صريح لهشاشة أمنية بنيوية تُهدّد الإقليم بأكمله.

اللاعبون الإقليميون: الصين تراقب.. وماليزيا تتقدّم للواجهة

في المشهد المعقّد للنزاع الحدودي بين تايلاند وكمبوديا، برزت ماليزيا والصين كلاعبَين إقليميين، وإن بتباين واضح في الدور والموقع. فبينما اختارت بكين التموضع في مقعد "المراقب الصامت" حرصاً على توازن دقيق بين شركائها، اندفعت كوالالمبور إلى قلب المشهد، متجاوزة تحفّظات "آسيان" (رابطة دول جنوب شرق آسيا) التقليدية، ساعيةً إلى إعادة ترسيم دورها في معادلات جنوب شرق آسيا المتقلّبة.

الصين، التي تُعدّ الداعم العسكري الأبرز للجيش الكمبودي – عبر تزويده بطائرات مسيّرة وأنظمة مراقبة متطوّرة – لم تكن بعيدة عن تفاصيل التصعيد الأخير. استثماراتها الضخمة في مشاريع الكازينوهات، والبنية التحتية الكمبودية خصوصاً قرب الحدود المتنازع عليها، منحتها نفوذاً اقتصادياً وأمنياً يتجاوز الصمت الدبلوماسي.

ومع ذلك، فضّلت بكين البقاء في الظل، مكتفيةً بإيفاد دبلوماسييها إلى محادثات بوتراجايا بصفة "مراقب حريص"، في محاولة لضبط التوتر ومنع انزلاق حليفها نحو مواجهة مكلفة مع تايلاند، الشريك التجاري الأول للصين منذ عام 2013.

في المقابل، دخلت ماليزيا على خطّ الأزمة من موقع المبادِر، لا المتلقّي. فبخطوة مفاجئة، قاد رئيس وزرائها أنور إبراهيم وساطة مباشرة جمعت الطرفين في العاصمة الإدارية بوتراجايا، بحضور ممثّلين عن الولايات المتحدة والصين و"آسيان". وساطة أثمرت هدنة فورية وغير مشروطة، أعادت لمشهد جنوب شرق آسيا شيئاً من الفعّالية الإقليمية المفقودة.

المفارقة هي أنّ كوالالمبور، التي بدت لسنوات غائبة عن معارك الوساطة الإقليمية، وجدت في هذا النزاع فرصةً سانحة لاستعادة ثقلها الدبلوماسي، وتقديم نفسها كقوّة توازن ناعمة، في مواجهةِ تمدّد النفوذ الفيتنامي والإندونيسي داخل "آسيان".

الأزمة الداخلية: حين يُستدعى الخطر الخارجي لتثبيت الداخل المهتزّ

ليست الأزمة الحدودية بين كمبوديا وتايلاند معزولة عن السياق الداخلي المتفجّر في كلا البلدين؛ بل تبدو، في توقيتها وتضخّمها، انعكاساً لانكشاف الداخل، لا استفحال الخارج.

في كمبوديا، حيث لم يجفّ بعد حبر "الانتقال الموروث" للسلطة من هون سين إلى نجله هون مانيه، تعيش النخبة الحاكمة حالة قلق مشروع على تماسك الجبهة الداخلية، وسط تشكيكٍ في قدرة الابن على وراثة الكاريزما الحديدية للأب. في هذا المناخ، يظهر النزاع الحدودي كفرصة لا تُقدّر بثمن: يجري تعليب "التهديد التايلاندي" وتصديره إلى الرأي العامّ بوصفه اختباراً للقيادة الجديدة، ومحكّاً للوطنية والشرعية معاً.

أما في تايلاند، فالصورة أشدّ تشظّياً: صراع مزمن بين المؤسسة العسكرية وورثة عائلة شينواترا، يعود للواجهة مع تسريبات تُظهر بايتونغتارن شينواترا في حوار خاص مع مسؤولين كمبوديين، فتُفجّر حملة تخوين منظّمة، وتُستنهض ذاكرة الصراع الأهلي، وتُعاد هندسة المشهد السياسي بخيوط القومية الحادّة.

هنا أيضاً، يُستحضر "العدو الكمبودي" لتلميع المؤسسة العسكرية، وتجديد رصيدها في بورصة الشعبية، بعد تراجع تأثيرها أمام تحوّلات الداخل المدني.

في البلدين، يبدو النزاع الحدودي أقرب إلى رافعة إنقاذ للأنظمة المتعثّرة، يُوظّف كـ"عقيدة خلاص مؤقتة"، حين تضيق خيارات الداخل وتتعثّر أوراق الحكم.

"الرقميات القومية" تتقدّم على الدبلوماسية

خارج قاعات المفاوضات، وفي ظلال الخطاب الرسمي، تدور معركة من نوع آخر: معركة الهويّات المتنازعة التي لا تهدأ في الفضاء الرقمي.

إنّها معركة الهويّات المتنازعة، حيث تتحوّل منصات التواصل الاجتماعي إلى جبهاتٍ مفتوحة، تتبادل فيها الجموع التايلاندية والكمبودية اتهامات "السطو على التراث"، من الرقص الكلاسيكي إلى المعابد القديمة، ومن الأزياء التقليدية إلى المأكولات وغيرها.

تُعيد هذه "النزاعات القومية" عبر مواقع التواصل إنتاج سرديات الكراهية التاريخية، وتصوغها بوسائل حديثة، أكثر انتشاراً وتأثيراً. تُطلَق الوسوم، تُروَّج مقاطع فيديو تحريضية، وتُعاد كتابة الوقائع بعيون قومية ضيّقة، فيما يتصدّر المشهد خطاب شعبوي متوتّر، لا يتورّع عن التخوين والتشهير، حتى بحقّ الأصوات التي تدعو للاعتدال أو الاعتراف بتراثٍ مشترك.

في مثل هذا المناخ، تُصبح المصالحة أشبه بالسير على الحبال المشدودة؛ فحتى لو توافق السياسيون والعسكريون، يبقى الشارع أسيراً لمزاج قومي تعبوي، يصعب تفكيكه بقرار أو بيان.

اقرأ أيضاً: بلينكن في تايلاند لتعزيز تحالف في مواجهة الصين

اخترنا لك