محمد عبد الكريم الخطابي.. رمز النضال المغربي وملهم حركات التحرّر العالمية

محمد عبد الكريم الخطابي، واحد من أبرز المناضلين المغاربة ضد الاحتلالين الإسباني والفرنسي لبلاده. قاد معارك عصابات كثيرة وأرهق الاحتلال الإسباني، ليتم نفيه لاحقاً ويمكل نضاله من منفاه حتى وفاته في القاهرة.

  • محمد عبد الكريم الخطابي: رمز النضال المغربي وملهم حركات التحرّر العالمية
    محمد عبد الكريم الخطابي: رمز النضال المغربي وملهم حركات التحرّر العالمية

"الظاهرة الاستعمارية المقيتة.. ستنحسر كلما حقّق شعب من الشعوب حُلمه في الحرية. في أي مكان تعرّض فيه الاستعمار لضربة من الضربات إلا وينعكس صداها إيجابياً في مكان آخر يخوض الشعب فيه المعركة نفسها". محمد عبد الكريم الخطابي

"يسرّني أن أحيي إخواننا مجاهدي فلسطين الشقيقة، داعياً لهم بالفوز والنصر، ومؤكداً لهم تضامن الأقطار المغربية معهم، وعزمها اتخاذ جميع الوسائل الممكنة للاشتراك في إنقاذ بلادهم والمحافظة على عروبتها ووحدتها".

مقتطف من البيان التأسيسي للجنة تحرير المغرب العربي الذي صاغه الخطابي في كانون الثاني/يناير 1948.

قال غيفارا للزعيم الخطابي: "إن الثورة الكوبية مدينة لك". (عن موقع THE FREDOOM FIRST)

بعد مؤتمر "الجزيرة الخضراء" المنعقد في 16 كانون الثاني/يناير 1906 الذي أطلق عملية تقسيم المغرب بين فرنسا وإسبانيا، حيث احتلت إسبانيا الشمال والجنوب، بما فيه الأقاليم الصحراوية واحتلت فرنسا الوسط، شهد المغرب احتجاجات كبيرة خصوصاً من طرف علماء الدين، كما عرفت حركات مقاومة مسلحة استمرت من 1909 إلى 1934. وكان الريف في الشمال من المناطق التي وجد فيها الاستعمار الإسباني مقاومة شديدة على مرحلتين بين 1909 و 1926.

حركة المقاومة الأولى، قادها الشريف محمد أمزيان ضد الاستعمار الإسباني ما بين 09 تموز/يوليو 1909 و15 أيار/مايو 1912، خاض خلالها ما يناهز 275 معركة.

وتبقى هزيمة "وادي الذئاب" من أكبر الهزائم التي مُنيت بها إسبانيا، ولا تضاهيها إلا هزيمة "أنوال".

استشهد الشريف محمد أمزيان في 15 أيار/مايو 1912 على يد قوات إسبانية وعملاء متواطئين معها، بعد أن استطاع ولمدة ثلاث سنوات توقيف المد الاستعماري الإسباني.

أما حركة المقاومة الثانية، فقادها المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي بين 1920 و1926.

الخطابي.. النشأة والنشاط السياسي

ولد الخطابي في بلدة أجدير بالمغرب سنة 1882 في أسرة عريقة لها مكانة متميّزة في الريف، وخصوصاً في قبيلة بني ورياغل. درس في جامعة القرويين العلوم الشرعية واللغوية. فاشتغل بداية كمعلم في مدينة مليلية التي كانت تحت الاحتلال الإسباني قبل أن يتولى فيها منصب القاضي الشرعي الأول عام 1914، لكنه ونتيجة لنشاطه السياسي المناهض للاستعمار أعفي من مهامه حين اعتقل يوم 6 أيلول/سبتمبر 1915، حيث أمضى 11 شهراً في السجن.

بعد خروجه من السجن عاد إلى عمله. كما عمل محرّراً في جريدة "تيليغراما ديل ريف" اليومية.

عاد إلى بلدته أجدير في كانون الثاني/يناير 1919، وقد اقتنع بأن الطريق الوحيد للتخلّص من الاستعمار الإسباني هو الكفاح المسلّح، فصمّم رفقة والده وأخيه على مقاومته. فأعلن محمد بن عبد الكريم الخطابي الجهاد وكانت أولى عملياته في صيف 1920.

ذاع صيت الخطابي بين القبائل في الريف، فعمل على توحيدها ودعا إلى عقد مؤتمر شعبي لتأسيس نظام سياسي ووضع دستور "ميثاق وطني" لإدارة شؤون الإقليم، وقد عقدت الجمعية الوطنية الريفية اجتماعها الأول في 19 أيلول/سبتمبر 1921، وكان من قراراتها تأسيس جمهورية في الريف عاصمتها "أجدير" وتشكيل حكومة دستورية يرأسها المجاهد الخطابي.

طيلة 5 سنوات، أبدع الخطابي في فنون حرب العصابات واعتمد بنجاح على الخنادق الممتدة تحت الأرض حتى ثكنات العدو. وقد ألهم بإبداعاته الكثير من حركات التحرّر العربية والعالمية، حيث كان له تأثير على ثورة عمر المختار في ليبيا والثورة الكوبية بقيادة فيديل كاسترو وتشي غيفارا، وعلى قائد الثورة الفيتنامية، هو شي منه، الذي تعرّف إليه بعد أن قرأ قصيدة "الملهم" التي كتبها الشاعر الفرنسي الكبير لويس أراغون عن الأمير الخطابي.

ويحكى أن "هو شي منه" قد طلب من الأمير المجاهد أن يوجّه رسالة بالعربية عبر راديو الثورة الفيتنامية إلى الجنود المغاربة والعرب والمسلمين الذين كانوا يقاتلون في صفوف الجيش الفرنسي من أجل رفض القتال ضدّ الثوّار الفيتناميين.

كما يروي سعيد السبع، مدير دائرة التنظيم الشعبي في منظمة التحرير الفلسطينية وأحد مؤسسيها البارزين، أن الزعيم الصيني ماوتسي تونغ، وأثناء استقباله لوفد فلسطيني في بكين (1971)، سألوه عن استراتيجية عملية ينصحهم بها لخوض ثورتهم التحريرية، فأجاب: "رفاقي الأعزاء، جئتم تريدون أن أحدّثكم عن حرب التحرير الشعبية، في حين أنه يوجد في تاريخكم القريب عبد الكريم الخطابي، الذي هو أحد المصادر الأساسية التي منها تعلّمت هذه الحرب".

معركة أنوال.. هزيمة مذلة للإسبان

بين 1921 - 1926 خاض الخطابي أزيد من 200 معركة، وأدت سلسلة الانتصارات المتتالية التي حقّقها ضدّ الاستعمار الإسباني إلى استرجاع أكثر من 186 موقعاً من الإسبان. وكانت ذروة انتصاراته معركة "أنوال" يوم 21/22 تموز/يوليو 1921 التي استطاع فيها قهر القوات الإسبانية بقيادة الجنرال سيلفستري.

وقد كانت نتائج هذه المعركة مذهلة، إذ أدت إلى مقتل بين 13 - 15 ألفاً من الإسبان والمجنّدين المحليّين يتقدّمهم الجنرال سيلفستري، ووقع في الأسر 700 شخص، وجرت غنيمة 200 مدفع من عيارات مختلفة، وأزيد من 20 ألف بندقية، ومقادير لا تُحصى من القذائف، وملايين الخراطيش، وسيارات وشاحنات، وتَموين كثير وأدوية، وأجهزة للتخييم، أي ما يكفي لتجهيز جيش، كما قال الزعيم الخطابي.

وقد أدت هزيمة "أنوال" إلى أزمة سياسية في إسبانيا وصفها بانداليسيو برييتو بالقول في مجلس النواب: "نحن في أشدّ فترة من فترات الانحطاط الإسباني. فالحملة في أفريقيا هي ومن دون مجاملة، فشل تام ومطلق للجيش الإسباني". وكان من أثرها وقوع انقلاب عسكري بقيادة بريمودي ريفيرا.

كانت فرنسا المحتلة لوسط المغرب تترقّب بحذر ما يجري في الريف، وانزعجت عندما اندفعت القبائل في المناطق التي تسيطر عليها والمتاخمة للمناطق المحرّرة في الشمال في نيسان/أبريل سنة 1925 لتلبية نداء الجهاد، وهو ما دفعها للتحالف مع إسبانيا فجنّدتا جيشاً قوامه 800 ألف مقاتل لهزم جيش الخطابي المؤلف من 20 ألف مقاتل، ودارت معارك طاحنة استُخدمت فيها أسلحة حديثة والأسلحة الكيميائية (غاز الخردل ) التي زوّدت بها ألمانيا الإسبان والتي ما زال سكان الريف يعانون من آثارها، حيث ينتشر السرطان بشكل ملموس في الأماكن التي استخدمت فيها.

في 23 أيار/مايو 1926 تمكّنت القوات الإسبانية والفرنسية من الاستيلاء على حصن ترجيست الذي اتخذه الأمير مقراً له بعد سقوط أجدير من قبل، فاستسلم الخطابي في 27 أيار/مايو 1926 للفرنسيين وتمّ نفيه إلى جزيرة ريونيون في المحيط الهندي، وظلّ فيها حتى لجوئه إلى القاهرة أثناء إعادته لفرنسا في 31 أيار/مايو 1947. 

النضال من المنفى

بعد الحرب العالمية الثانية كانت الدول الخاضعة للاستعمار الفرنسي تأمل في نيل استقلالها بشكل ودّي وهو ما لم يحدث، فلجأت الشعوب إلى المقاومة وحروب التحرير للتخلّص من الاستعمار. فتأسست في المغرب العربي فرق للمقاومة وجيوش تحرير (خاصة في المغرب والجزائر). وكان محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي عاد إلى واجهة الأحداث في إثر لجوئه إلى مصر سبّاقاً إلى الانخراط في التفاعلات التي عرفتها الساحات المغاربية، فأسس في القاهرة مع أبناء المغرب العربي من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب "لجنة تحرير المغرب العربي"، التي تولّى رئاستها في 9 كانون الأول/ديسمبر 1947 وأعلن عن تأسيسها يوم 6 كانون الثاني/يناير 1948.

بعد الهزيمة النكراء التي تعرّضت لها فرنسا في معركة "ديان بيان فو" في فيتنام، وأمام تنامي ضربات جيش التحرير المغربي وجبهة التحرير الجزائرية، سارعت فرنسا إلى فتح مفاوضات حول الاستقلال مع القيادات السياسية المغربية والقصر، لكنها تعمّدت إقصاء زعماء وازنين كعبد الكريم الخطابي وعلال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني من المشاركة في مفاوضات "إيكس ليبان" في آب/أغسطس 1955، والتي توّجت بإصدار تصريح "لاسيل سان كلو" المشترك بين الوفد المغربي وفرنسا يوم 2 آذار/مارس 1956، أعلن فيه استقلال المغرب.

ولعل فرنسا كانت متأكّدة أن حضور هؤلاء الزعماء قد يعرقل مسعاها في منح المغرب استقلالاً على مقاسها يحفظ مصالحها ونفوذها في المغرب، كما كانت ترغب في عرقلة الأهداف التي من أجلها أسست لجنة تحرير المغرب العربي. هذا ما تنبّه إليه الخطابي فوجّه نداء إلى الشعب المغربي نشر يوم 7 كانون الثاني/يناير 1956 في صحيفة "كفاح المغرب العربي"، الصادرة باسم أنصار جيش التحرير في المغرب العربي من دمشق، تحت عنوان: "عبد الكريم الخطابي إلى الشعب المغربي: إكس ليبان فخّ منصوب".

الخطابي والعلاقة مع فلسطين

أما بخصوص فلسطين، فإن العلاقة بين زعماء فلسطين ومحمد عبد الكريم الخطابي تعود إلى أيام ثورة الريف ضد الاستعمار، حيث سُجّلت حملات تضامنية في فلسطين مع هذه الثورة على شاكلة تظاهرات وجمع تبرّعات قادها زعماء فلسطينيون في مقدمتهم الشهيد عز الدين القسام ومفتي يافا الشيخ توفيق الدجاني.

حظيت القضية الفلسطينية بالأولوية عند الزعيم الخطابي، وتجلّى هذا بعد صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 181 القاضي بتقسيم فلسطين في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947، إذ وبناءً على طلب المجاهد أمين الحسيني أصدر الزعيم الخطابي نداءً حثّ فيه على الجهاد لتحرير فلسطين، ومما جاء فيه: "ما دام هذا العصر يضيع فيه الحق إذا لم تسانده قوة، ويظاهره سلاح وعتاد، ويتكتّل فيه الرجال شيباً وشباباً (…)، فالواجب يفرض أن نتكلّم بالسيف لندفع عنا الظلم والحيف".

كما عاد وأكد أولوية القضية الفلسطينية في تصريح له للصحافة بعد لقاء جمع بينه وبين الأمين العام للجامعة العربية يوم 9 تشرين الثاني/نوفمبر 1947 حيث قال: "القضية الفلسطينية تحتلّ المكان الأول، والأعمال الآن أَوْلى من الأقوال، وإنّ الأيام المقبلة ستُظهر أعمالنا".

وهكذا كان، إذ لبّى نداءه متطوّعون من العالم العربي والإسلامي بينهم 5 آلاف متطوّع من المغرب العربي (ليبيا والمغرب والجزائر وتونس)، كما أكد ذلك الأستاذ علال الفاسي، يقودهم العقيد المغربي المقرّب من الخطابي الهاشمي الطود، شكلّوا الكتيبة 13 التي أبلت البلاء الحسن في حرب 1948. 

في يوم 6 شباط/فبراير 1963 وافت المنية المجاهد محمد عبد الكريم الخطابي في القاهرة، فدفن فيها بناءً على وصيته.