ليبيا بين الحسم الميداني والضوء الأخضر الخارجي: إلى أين تتجه الأزمة؟

اغتيال رئيس جهاز دعم الاستقرار عبد الغني الككلي يفتح الباب لتغييرات أمنية كبرى في طرابلس وسط إشارات دعم خارجي، وتحذيرات من تصعيد إقليمي يمتد نحو تونس والمنطقة المغاربية.

  • قوات ليبية في شوارع العاصمة طرابلس (وكالات)
    قوات ليبية في شوارع العاصمة طرابلس (وكالات)

تشهد ليبيا لحظة مفصلية تتقاطع فيها الحسابات الداخلية مع الضغوط الإقليمية والدولية، وسط تساؤلات ملحّة حول مستقبل الأزمة في طرابلس، بعد اغتيال رئيس جهاز دعم الاستقرار عبد الغني الككلي، المعروف بـ"غنيوة"، في عملية وُصفت بأنها دقيقة ومنسقة، وأعادت تشكيل المشهد الأمني والسياسي في العاصمة.

وتتزامن هذه التطورات مع تحرّكات سياسية وأمنية مكثفة على المستويين المحلي والدولي، وسط مؤشرات على تدخلات خارجية ترتب خريطة النفوذ من جديد، في طرابلس وبوابة الغرب الليبي.

اغتيال استراتيجي يعيد ترتيب المعادلة الأمنية

في أعقاب اشتباكات دامية، أعلنت السلطات الليبية عن اغتيال الككلي في مقرّه بمنطقة أبو سليم، في عملية نُفذت بواسطة وحدات أمنية تابعة لحكومة عبد الحميد الدبيبة.

ورغم غياب التفاصيل الرسمية، تشير المعطيات إلى أن العملية لم تكن ارتجالية، بل جاءت ضمن ترتيبات أمنية رفيعة المستوى وبتنسيق سياسي، وربما بدعم خارجي ضمني.

الككلي: من رجل الظل إلى عبء أمني وسياسي

أسّس الككلي جهاز دعم الاستقرار في 2021، ليعمل كذراع أمني موازٍ للمؤسسات الرسمية، ما أثار جدلاً داخلياً وخارجياً. وبرغم مساهمته في ضبط الأمن مؤقتاً، اتُّهم الجهاز بارتكاب انتهاكات موثقة، أبرزها الاعتقال التعسفي، والإخفاء القسري، والتعدي على مقار حكومية.

ومع توسّع نفوذه، بدأ يُنظر إلى الككلي كعقبة أمام حكومة الدبيبة ومساعيها لتقديم نفسها كشريك إصلاحي أمام المجتمع الدولي، ما مهّد لتصفيته كخطوة لإعادة ضبط المشهد الأمني في العاصمة.

خبراء: ما جرى يتجاوز التصفية.. ويمهد لتفاهمات أكبر

ويرى الخبير في الشأن الليبي، رافع الطبيب، في حديث لـ"الميادين نت"، أن ما جرى في طرابلس "يتجاوز مجرد تصفية جسدية"، ويعتبره "إعادة رسم لخريطة النفوذ في العاصمة"، في إطار تحولات جيوسياسية متسارعة.

ويربط الطبيب هذه التحوّلات بزيارات ليبية رفيعة إلى واشنطن – من بينها عبد السلام الزوبي، وكيل وزارة الدفاع – وكذلك، بزيارة مرتقبة لمسعد بولس مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بوصفها إشارات لوجود ضوء أخضر خارجي لإعادة ترتيب الداخل الليبي.

ويكشف الطبيب أن ما يجري في طرابلس ليس سوى واجهة لمشروع أكبر يجري ترتيبه "وراء الستار"، قائلاً: "ليست الميليشيات من تمثل الخطر الأكبر في ليبيا، بل من يحرك الفاعلين ويصدر الأوامر لإلغاء البعض، ووضع اليد على المصرف المركزي، وعقد اتفاقات ترحيل المجرمين، وإعادة صياغة التفاهمات حول عقود النفط وهندسة شكل الحكم في ظل سياسة افتراس الموارد".

ويحذّر الطبيب من أن "الأمور مرشّحة للارتقاء إلى مستويات جيوسياسية إقليمية، إذا ما حاول المحرّك الأساسي تفعيل روافع الضغط الأمني على الجوار الليبي، بعد تسرب الصين إلى مساحات الفراغ التي تركها الانسحاب الفرنسي المذل في الساحل والصحراء". ويختم محذّراً من تداعيات عميقة على تونس، معتبراً أنّ "وقت التنسيق الاستراتيجي مع الجوار قد حان، وإلا فإن الكارثة تقترب".

من جانبه، اعتبر الخبير غازي معلّى أنّ الاشتباكات الأخيرة لم تكن عشوائية، بل "تصفية ممنهجة" استهدفت الككلي وقيادات أخرى، عبر عملية نفذتها قوة تابعة لوزارة الدفاع أو الداخلية، بإشراف مباشر من رئيس الحكومة. ويؤكد أن "الصراع بدأ خفيّاً حول المصرف المركزي، ثم تطور ليشمل مؤسسات مالية ومرافق الاتصالات"، ما يعكس أن المعركة تتجاوز الجانب الأمني وتمس جوهر السلطة الاقتصادية.

ويتابع: "انهار جهاز دعم الاستقرار بالكامل، وتم الاستيلاء على جميع مقراته وعتاده"، مشيراً إلى حالة هدوء نسبي في طرابلس "بانتظار تموضع جديد لقوى السلطة".

طرابلس تُعاد صياغتها: من يتحكم في الغرب الليبي؟

تأتي هذه العملية ضمن سياق أوسع من محاولات "إعادة تدوير" النفوذ الأمني في طرابلس، مع تصاعد دور تيار مصراتة كممر لتفاهمات إقليمية ودولية.

وتشير تقارير متداولة إلى أنّ مجموعات محسوبة على مصراتة تتجه للتحالف مع حكومة الدبيبة، بدعم غير معلن من قوى خارجية تسعى لضبط المشهد الليبي، تحضيراً لمحطات حاسمة، أبرزها ملف الانتخابات واتفاقات الطاقة.

وتُرجّح تحليلات سياسية أن طرابلس تتجه نحو أن تكون منطقة "نفوذ مشترك" بين قوى داخلية متحالفة مع الدبيبة، وشبكات إقليمية ودولية تسعى لصياغة قواعد جديدة للعبة الليبية.

انعكاسات إقليمية: تونس في الواجهة

وشهدت الساعات التي تلت تصفية الككلي تدفّقاً ملحوظاً لليبيين نحو الأراضي التونسية عبر معبري رأس جدير ووازن، خشية اتساع رقعة التوترات.

وأكّد شهود عيان أن المعابر ظلّت مفتوحة، مع تزايد حركة الدخول نحو تونس، في مشهد يعيد إلى الأذهان لحظات التوتر السابقة.

وتعاملت السلطات التونسية مع الوضع بانفتاح وحذر، دون فرض قيود، وسط دعوات إلى تكثيف التنسيق الأمني مع الجانب الليبي.

وفي هذا السياق، يؤكد رافع الطبيب أن "تونس كانت وستظل ملاذًا آمنًا للأشقاء الليبيين"، محذرًا من مغبة التعامل مع الأزمة الليبية بمعزل عن رؤية مغاربية وإقليمية شاملة.

بين استقرار هش وفوضى محتملة: إلى أين تتجه طرابلس؟

وتشير تطورات العاصمة طرابلس  إلى تحوّل مفصلي في الأزمة الليبية. فقد تكون تصفية الككلي أولى خطوات إعادة تشكيل المشهد الأمني والسياسي، لكنها في الوقت ذاته تفتح الباب أمام سيناريوهات تصعيد جديدة.

يدرك الفاعلون الإقليميون والدوليون أن أي انفلات أمني في طرابلس ستكون له تداعيات تتجاوز حدود ليبيا، ما يجعل الحسم الميداني وسيلة لضبط الوضع مؤقتاً في انتظار تسوية سياسية شاملة تُوحّد المؤسسات وتُفضي إلى استحقاق انتخابي طال انتظاره. لكن في بلد تتعدّد فيه مراكز القوى وتتشابك فيه المصالح، يبقى السؤال مفتوحاً: هل دخلت طرابلس فعلاً مرحلة إعادة البناء.. أم أنها على أعتاب جولة صراع جديدة؟

اقرأ أيضاً: ليبيا وأزمة الصراع على الصلاحيات

اخترنا لك