عودة علاقات مصر وإيران.. تقاطع الضرورة

مع زيارة عراقتشي إلى مصر، ولقائه السيسي وعبد العاطي وغروسي، يطرح السياق الحالي عدة حقائق ومحدّدات تحكم هذه المحطة في مسار إعادة العلاقات بين طهران والقاهرة.

  • من لقاء الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ووزير الخارجية الإيراني، عباس عراقتشي، خلال زيارة الأخير إلى القاهرة، في الـ2 من حزيران/يونيو 2025
    من لقاء الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ووزير الخارجية الإيراني، عباس عراقتشي، خلال زيارة الأخير إلى القاهرة، في الـ2 من حزيران/يونيو 2025

بعد نحو عامين من انطلاق الإبادة في غزة، لم تزل أسباب وعوامل كثيرة تؤدّي بمصر وإيران إلى تقارب يبدو تدريجياً وعلى درجة من الثبات، وهو تقارب بدأ بلقاء وزير الخارجية المصري مع نائب الرئيس الإيراني في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2022، على هامش مؤتمر قمة المناخ في شرم الشيخ. ثم التقى الرئيس عبد الفتاح السيسي وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان في الشهر التالي من العام نفسه، في قمة "بغداد 2" في الأردن، التي عُقدت امتداداً لمؤتمر بغداد للتعاون والشراكة. وأخيراً، تُوِّج مسار إعادة العلاقات بلقاء رئيسي البلدين، بعد أسابيع من انطلاق "طوفان الأقصى"، على هامش القمة العربية الإسلامية في الرياض، في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2023، في لقاء كان الأول من نوعه منذ 46 عاماً.

مع زيارة وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقتشي، إلى مصر، ولقائه نظيره المصري، بدر عبد العاطي، والرئيس السيسي ومدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافاييل غروسي، في القاهرة، يطرح السياق الحالي عدة حقائق ومحدّدات تحكم المحطة الحالية في مسار إعادة العلاقات، وتجعل تقاطع مصالح، وبعض توجّهات، الطرفين منطقياً بامتياز، بل ربما جاء متأخّراً نسبياً:

- العربدة الإسرائيلية التي تمتد لكلّ الاتجاهات الاستراتيجية حول فلسطين المحتلة، نحو لبنان وسوريا وفي الضفة الغربية وقطاع غزة، بغطاء أميركي يبدو مطلقاً، على الرغم من أي تناقضات ثانوية بين الطرفين. ويمكن القول إن مصر وإيران، منذ الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر عام 2023، وبحكم دواعي الأمن القومي للأولى وموقعها الجغرافي بالنسبة لغزة، ودعم الثانية المقاومة بالسلاح واعترافها بحق الفلسطينيين في الإسناد بالقوة، كانتا صاحبتي المصلحة الأكبر في تشكيل أوسع تحالف إقليمي ممكن لوقف الإبادة، وردع العربدة، وانتزاع مكسب حقيقي للفلسطينيين في غزة والضفة.

- انكماش دور مصر الإقليمي في الأعوام الأخيرة، وافتقادها الفعّالية الكافية لقيادة تشكيل المشهد الإقليمي، أو ضمان مصالحها جنوباً في السودان وغرباً في ليبيا. وتعمِّق هذه الحالةَ مؤخراً ضغوطٌ سياسية واستراتيجية كبيرة، تفرضها "إسرائيل" (عبر إبادة سكان غزة وحصارهم) والولايات المتحدة، لفرض التهجير، وضغوطٌ اقتصادية بفعل الديون، تبدو في خلفيّتها عقوبات أميركية محتملة لفرض توطين الفلسطينيين في مصر وإخلاء غزة. وكان أحد أبرز أسباب ومفردات الانكماش اعتماد مصر على الفوائض المالية السعودية والإماراتية، ما مثّل انفراداً للقوى الخليجية بالتأثير في الواقع العربي، بالتوازي مع الفعّالية القطرية (بشراكة تركية) في سوريا. 

- فتور علاقة مصر بالسعودية والإمارات مؤخراً، بفعل تعارض المصالح في ملفات عديدة، أبرزها اليمن والسودان، إذ رفضت مصر طلب الطرفين منذ أعوام المشاركة في الحرب على اليمن، ورفضت قطعياً منذ شهرين طلباً أميركياً مشابهاً، وتهدّدها تداعيات انتشار "قوات الدعم السريع" (المدعومة إماراتياً) في السودان على أمنها القومي. وكذلك تتلكأ في تسليم جزيرتي تيران وصنافير في مدخل خليج العقبة إلى السعودية، وسط معلومات عن نيّة الأخيرة السماح بحضور الجيش الأميركي هناك. توّج هذا الفتور غياب مصر عن القمة الخليجية الأميركية منذ أسابيع، بخلاف حضورها قمة ترامب في الرياض عام 2017، القمة العربية الإسلامية الأميركية التي طرحت فكرة "حلف إبراهام"، وقت الترويج لمشروع صفقة القرن. 

- إعادة إيران صياغة سياستها نحو فعّالية دبلوماسية وسياسية أعلى، تعوّض المواجهة بالقوة العسكرية (التي لم تُستبعد بعد) مع "إسرائيل"، وتنسج شبكة علاقات إقليمية إيجابية تسند موقفها في مواجهة الولايات المتحدة، مع تأكيدها حقها في رد مزلزل في حال تعرّضها لضربة إسرائيلية أو أميركية. وهذا يمثّل - في المحصّلة - استجابةً لتداعيات "طوفان الأقصى". 

يبدو أنّ المحدّدَين الأول والرابع ترتّبت عليهما مواقف مثل: طرح مصر الخطة الواقعية الشاملة الوحيدة لإعادة إعمار غزة، والإجماع الرسمي العربي على ضرورة قيام دولة فلسطينية، ورفض دول الخليج استهداف الولايات المتحدة لإيران من أراضيها، ما دفع واشنطن إلى تجهيز قاعدتها في جزيرة دييجو جارسيا في المحيط الهندي للتلويح بالضربة، وتعاطي إيران مع النظام القائم في سوريا، التي يعكس واقعها الحالي نفوذاً تركياً وإسرائيلياً وسعودياً أعلى على الحدود الإيرانية. 

كذلك، ينتج المحددان الثاني والثالث سعياً مصرياً إلى فعّالية إقليمية بديلة، مفارقة للمنطق التقليدي لـ"محور الاعتدال" قبل الاتفاق الإيراني - السعودي، في آذار/مارس عام 2023، خصوصاً أنّ الإمارات مثلاً لم تقطع العلاقات مع إيران يوماً، حتى خلال ذروة تعارض سياسات الطرفين، بينما امتنعت مصر عن إعادة العلاقات، ودأب إعلام مصري شبه رسمي على مهاجمة إيران. ومن هنا تمثّل إعادة العلاقات لجوء مصر إلى توسيع هامش حركتها، وتلويحاً بحجمها وما يترتّب عليه من تأثير "محتمل"، إن غيّرت تموضعها الإقليمي، وهو ما عكسته استضافة غروسي، في أثناء زيارة عراقتشي، وعقد اجتماع ثلاثيّ، في توجّه إلى طرح وترويج قضية نزع الأسلحة النووية في المنطقة، لكبح الضغط الإسرائيلي من زاوية تضمن تعاطفاً دولياً، وتُعدّ محل إجماع إقليمي.

تعايشت مصر بالفعل مع تسرّب السلاح ومكوّناته إلى غزة من لبنان وسوريا، قبل عام 2011، من دون تأثير سلبي على أمنها، وعلى الرغم من الهجوم الإعلامي، لم تتهم إيران أو سلاحها باستهدافها، إنما كشفت وثائق القضاء وأجهزة الدولة المصرية اتصال الإرهاب الذي استهدفها بالأطراف الداعمة لظاهرة السلفية الجهادية المسلحة، في سوريا وعبر الحدود التركية، التي واجهتها إيران وحلفاؤها من قبل بالسلاح في سوريا والعراق، وفي الخلفية تعاون حماس المطرد مع مصر في ملفات أمنية بداية من عام 2014، بصورة تجعلها شريكاً موثوقاً، وقد واجهت الظاهرة نفسها في غزة عام 2009 وقت استهداف تنظيم "جند أنصار الله" للحركة، ودخوله سيناء، وتشكيله مع "أكناف بيت المقدس" و"جيش الإسلام" النواة المبكرة لـ"داعش" سيناء. 

في الإطار نفسه، تشير مواقف مصر منذ انطلاق "طوفان الأقصى"، تجاه سلاح المقاومة في غزة وتجاه العدوان الأخير على لبنان، إلى تقبّل ظاهرة المقاومة، ومحور المقاومة وفعّاليته، إذ مثّل وجوده عامل توازن للقوة مع "إسرائيل"، ورافعة حقيقية وإسناداً للدور المصري "المتفرّد" المحتمل في الدفاع عن غزة لا العكس، مع جذرية موقفها الرافض للتهجير، الذي بات محتملاً أكثر من أيّ وقت مضى، وقرارها بالامتناع عن تعميق التطبيع مع "إسرائيل"، بفعل العدوانية الصهيونية المطلقة. وقد سعت إلى تطوير علاقتها بالعراق في الأعوام الماضية - من قبل "طوفان الأقصى" - مع علاقتها المميّزة بسلطنة عمان، وسيط مفاوضات الولايات المتحدة مع إيران واليمن. والمحصّلة أرضية مشتركة جاهزة لتفاهم مصري إيراني أعمق.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك