باتريس لومومبا.. البطل  القومي لجمهورية الكونغو الديمقراطية

شخصية استثنائية طبعت تاريخ الكونغو الديمقراطية الحديث، وبطل شعبي دفع حياته ثمناً لنضاله ضد الاستعمار. من هو باتريس لومومبا؟

  • الزعيم الكونغولي باتريس لومومبا
    الزعيم الكونغولي باتريس لومومبا

وُلِدَ باتريس لومومبا في 2 تموز/يوليو 1925، والتحق بالمدرسة التبشيرية الكاثوليكية، ثم بالمدرسة البروتستانتية. عمل في شركة تعدين، وصحافياً، وموظفاً في مكتب البريد. تزوج من بولين أوبانجا، ورزقا بستة أطفال، عاشوا بعد اغتياله تحت رعاية الرئيس المصري جمال عبد الناصر عند لجوئهم إلى مصر.

شيء من تاريخ الكونغو

في 1 آب/أغسطس 1885 أصبحت الكونغو مِلكاً خاصاً لعاهل بلجيكا، ليوبولد الثاني، وطيلة 23 سنة تعامل التاج البلجيكي بوحشية مع الكونغوليين وارتكب الفظاعات في حقهم، خصوصاً العاملين منهم في المناجم التي كان يستغلها، وفي العام 1908، أصبحت الكونغو تابعةً للدولة البلجيكية.

وتشير الإحصائيات إلى أن جرائم القوات الاستعمارية، والأوبئة، حصدت بين العامين 1880 و1926، نصف سكان الكونغو، إلى حد أن بعض المؤرخين يشيرون إلى هذه الفترة على أنها "محرقة منسية".

في أواخر أربعينيات القرن العشرين، وخلال الخمسينيات، ظهر في الكونغو البلجيكية، وتحديداً في العاصمة ليوبولدفيل، اتجاهان رئيسان  يطالبان بالاستقلال:

- اتجاه يريد استقلالاً في إطار  فيدرالي، وقد  شكل في عام 1949 "جمعية  تحالف باكونغو" (ABAKO)، التي  أصبح جوزيف كاسا فوبو رئيساً لها عام 1954.

- اتجاه يريد استقلالاً يحافظ على الكونغو موحّدة، وقد أغرتهم "خطة الـ30 عاماً لتحرير أفريقيا" التي اقترحتها بلجيكا، وتتحدث عن استقلال تدريجي، وكان باتريس لومومبا من زعماء هذا الاتجاه.

أنشأ لومومبا في 5 تشرين الأول/أكتوبر 1958 الحركة الوطنية الكونغولية (MNC) في ليوبولدفيل، مع غاستون ديومي ندونغالا، وجوزيف إليو، وغيرهم. كما حضر في كانون الأول/ديسمبر 1958، مؤتمر الشعوب الأفريقية في أكرا، والذي شكل نقطة تحول سياسية بالنسبة له، إذ أصبح وحدوياً يطالب بالاستقلال الفوري للكونغو، ومقتنعاً بأن الوحدة الأفريقية هي السبيل لتحرير أفريقيا من الاستعمار والتخلف.

واشترك لومومبا في هذه الرؤية مع زعماء التقى بهم في هذا المؤتمر كفرانتز فانون، وكوامي نكروما، وفيليكس - رولان مومييه، الذين كانوا يرون أن الإثنية والقبلية تقوض الوحدة الوطنية وتسهل تغلغل الاستعمار. وقد عُيّن لومومبا في نهاية المؤتمر، عضواً دائماً في لجنة التنسيق.

في كانون الثاني/يناير عام 1959، تسبّب حل "جمعية تحالف باكونغو" ABAKO، وترحيل زعيمها جوزيف كاسا فوبو إلى بلجيكا، في مقتل المئات من الأشخاص. كما أطلق رجال الدرك النار على حشد من المؤتمر الوطني في ستانليفيل في تشرين الأول/أكتوبر، أسفر عن مقتل 30 شخصاً وجرح المئات. ألقي القبض على لومومبا وحكم عليه بالسجن لمدة 6 أشهر، ما أدى إلى تظاهرات وأعمال شغب طالبت بإطلاق سراحه.

عقدت السلطات البلجيكية - مستغلةً غياب لومومبا - اجتماعاً مع الزعماء الاستقلاليين الكونغوليين في بروكسل، ولكنهم  رفضوا بالإجماع الحضور في غياب لومومبا. فأطلق سراحه على عجل في 26 كانون الثاني/يناير 1960 للمشاركة، وقد أسفر اللقاء عن الاتفاق على استقلال الكونغو  يوم 30 حزيران/يونيو 1960 . وفي 19 أيار/مايو 1960 صدر القانون الأساسي بمثابة دستور نص على إنشاء دولة الكونغو المركزية.

أجريت انتخابات تشريعية في أيار/مايو 1960، وبناءً على نتائجها تم التوافق على أن يصبح جوزيف كاسا فوبو رئيساً للكونغو، وباتريس لومومبا رئيساً لحكومتها، وأعلن الملك البلجيكي استقلال الكونغو في الموعد المتفق عليه.

لومومبا في مواجهة بلجيكا والانفصاليين

حضر ملك بلجيكا بودوان ورئيس وزرائها، حفل إعلان استقلال الكونغو في 30 حزيران/يونيو 1960، فألقى كلمة  استفزت الكونغوليين حينما أشاد بعبقرية وشجاعة الملك ليوبولد الثاني، ووصف ما قام به بـ"العمل العظيم" الذي واصلته بلجيكا بمثابرة على مدى 80 عاماً، حيث أرسلت  أفضل أبنائها إلى الكونغو، أولاً لتخليص حوض الكونغو من تجارة الرقيق، ثم لتوحيد الكونغوليين لتشكيل أكبر الدول المستقلة في أفريقيا، ولتدعو  إلى حياة أكثر سعادة لمختلف مناطق الكونغو، وختم كلمته بالقول إن ليوبولد الثاني "لم يقدّم نفسه للكونغوليين كفاتحٍ بل كمُحَضر". 

رد لومومبا بخطاب قوي، جاء فيه: "أيها المناضلون وأنتم اليوم منتصرون، أتذكرون السخرة والعبودية التي فرضها علينا المستعمر؟ أتذكرون إهانتنا وصفعنا طويلاً لمجرد أننا زنوج في نظره؟ لقد استغلوا أرضنا، ونهبوا ثرواتنا، لقد تعرضنا للرصاص والسجون لمجرد أننا نسعى للحفاظ على كرامتنا كبشر".. "أيها المناضلون من أجل الاستقلال المنتصرين اليوم، لن يسمح لأي  كونغولي جدير بهذا الاسم أن ينسى أن الاستقلال  تحقق من خلال نضال يومي وكفاح حارق ومثالي، كفاح لم ندخر فيه لا قوتنا، ولا معاناتنا ولا دمائنا. هذا الكفاح من دموع ونار ودماء، نعتز به من أعماقنا، لأنه كان كفاحاً نبيلاً ومشروعاً، كفاح ضروري للحد من حقارة العبودية التي فرضت علينا بالقوة.

كان هذا مصيرنا خلال 80 عاماً من الحكم الاستعماري، ولا تزال جراحنا مفتوحة ومؤلمة جداً بحيث لا يمكننا أن نحذفها من ذاكرتنا. قمنا مرغمين بالعمل مقابل أجور لم تطعمنا من جوع، ولم تكسِنا أو تسمح لنا باقتناء السكن اللائق، أو تربية أطفالنا بحب. تلقينا الشتائم والضربات التي كان علينا تحملها في الصباح والظهيرة والليل، لأننا كنا زنوجاً. لقد سلبوا أراضينا باسم نصوص مفترض أنها قانونية لا تعترف إلا بحق الأقوى. لقد عرفنا المعاناة الفظيعة لمن تم إبعادهم، بسبب آرائهم السياسية أو معتقداتهم الدينية، بعد نفيهم داخل وطنهم، كان مصيرهم أسوأ حتى من الموت نفسه. من سينسى أخيراً إطلاق النار الذي قتل فيه العديد من إخواننا، والزنازين العقابية الانفرادية التي ألقي فيها بوحشية أولئك الذين لم يعودوا يقبلون بالخضوع لنظام عدالة قمعية استغلالية؟".

أثار خطاب لومومبا حماس الكونغوليين، وتسبب في تمرد جنود بعض الثكنات التي كانت تحت إمرة ضباط بلجيكيين، ووقعت أعمال شغب طالت الأوروبيين وشركات أجنبية خاصة في العاصمة ليوبولدفيل، وقد استغل لومومبا حالة الفوضى ليتخلص من الضباط البلجيكيين، وردت بلجيكا بإرسال قواتها إلى ليوبولدفيل بذريعة حماية مواطنيها.

انقطع حبل الود بين لومومبا وبلجيكا، وفي هذا الصدد، يقول هارولد داسبريمونت ليندن، Harold d'Aspremont Lynden، آخر وزير للشؤون الأفريقية البلجيكية بين 1960 و1961، في رسالة وجهها إلى الملك بودوان في 5 تشرين الأول/أكتوبر 1960: "إن الهدف الرئيسي الذي يجب السعي لتحقيقه لصالح الكونغو وكاتانغا وبلجيكا هو القضاء النهائي على لومومبا".

بعد  إعلان الاستقلال بأيام، أعلن كابيندا مويس تشومبي انفصال إقليم كاتانغا في 11 تموز/يوليو 1960، بدعم من بلجيكا، التي أرسلت  9000 من قواتها تم نقلهم إلى الكونغو في عشرة أيام، بمساعدة  حلف  الناتو بزعم حماية إقليم كاتانغا. وفي 12 آب/أغسطس وقعت بلجيكا اتفاقا مع تشومبي، تعترف فيه  باستقلال كاتانغا، فحمّلها لومومبا مسؤولية هذا الانفصال وقام بقطع العلاقات الدبلوماسية معها.

بعد أسبوعين من انفصال إقليم كاتانغا،أعلنت مقاطعة كازائي بقيادة ألبير كالونغي استقلالها عن الكونغو، وأعلن زعيما الانفصال في كاتنغا وكازائي عن إقامة اتحاد بين المقاطعتين، وبدآ العمل على  إسقاط لومومبا بدعم من شركات المناجم البلجيكية في الكونغو. فقرر لومومبا إرسال قوات  كونغولية لاستعادة المنطقة وطلب من الأمم المتحدة مساعدته في إنجاز هذه المهمة. وفعلاً تم التصويت في المنظمة الدولية في 14 تموز/يوليو 1960 على قرار يسمح بتدخلٍ عسكري للقبعات الزرق لصالح لومومبا، كما أمر بلجيكا بسحب قواتها. لكن الأمم المتحدة غيرت موقفها وفرضت وقف إطلاق النار عسكرياً مما منع دخول القوات الكونغولية إلى كاتانغا.

بعد  انقلاب الأمم المتحدة عليه، أصر لومومبا على مقاومة الأطماع الوحشية الإمبريالية في الكونغو، فدعا إلى التضامن الأفريقي، في 2 أيلول/سبتمبر 1960، كما طالب الاتحاد السوفيتي بمساعدته على مواجهة انفصال كاتانغا، وهو ما أثار حفيظة الولايات المتحدة فقررت التخلص منه. وهذا ما تؤكده برقية مؤرخة في 26 آب/أغسطس 1960 مرسلة من مدير المخابرات المركزية الأميركية ألين دولس Allen Dulles إلى عملائه في ليوبولدفيل، يخبرهم فيها أن الولايات المتحدة الأميركية قررت الإطاحة بلومومبا الذي أصبح "أهم هدف لها يجب أن يحظى بالأولوية  في العمل السري لوكالة المخابرات المركزية  الأميركية".

الانقلاب على لومومبا واغتياله

في 4 أيلول/سبتمبر 1960، أصدر الرئيس جوزيف كاسا فوبو - في تناقض تام مع الدستور - أمراً بعزل لومومبا وإقالة حكومته، وشكل حكومة مؤقتة برئاسة جوزيف إليو، فرفض لومومبا القرار واتهم الرئيس بالخيانة.

استغل رئيس هيئة الأركان، العقيد موبوتو سسي سيكو، الصراع بين كاسا فوبو ولومومبا فقاد انقلاباً عسكرياً في 10 تشرين الأول/أكتوبر 1960 لقي دعماً من الأمم المتحدة والدول الاستعمارية.

دام حكم موبوتو ثلاثة أشهر، قبل أن يعيده إلى كاسا فوبو الذي شكل حكومة جديدة برئاسة سيريل أدولا. أما لومومبا، الذي اتهمه موبوتو بأنه مؤيد للشيوعية، فقد  وضع مع وزرائه قيد الإقامة الجبرية.

هرب لومومبا نحو ستانليفيل في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 1960، لكن ألقي عليه القبض وأعيد إلى ليوبولدفيل، حيث نقل إلى معسكر هاردي العسكري في ثيسفيل، وفي 17 كانون الثاني/يناير 1961، رُحِّل مع موريس مبولو وجوزيف أوكيتو، إلى إليزابيث فيل في كاتانغا، حيث عُذِّبوا على أيدي المسؤولين الكاتانغيين، بمن فيهم مويس تشومبي، وضباط بلجيكيين، وأُعدِموا في مساء اليوم ذاته، وتم تذويبهم في الحمض. وفي اليوم التالي أُعدِمَ العديد من أنصار لومومبا، بمشاركة جنود بلجيكيين ومرتزقة.

تمرّد الفلاحون وحملوا السلاح، تحت قيادة وزير التعليم السابق في حكومة لومومبا، بيير موليلي، واستطاعوا السيطرة على العديد من المناطق في الكونغو قبل أن يسحقهم جيش موبوتو، بدعم من بلجيكا ومرتزقة جنوب أفريقيا.

في 18 أيلول/سبتمبر 1961، قُتِلَ الأمين العام للأمم المتحدة، السويدي داغ همرشولد، في تحطم طائرته أثناء قيامه بمهمة سلام في الكونغو. وكان همرشولد من داعمي عملية إنهاء الاستعمار في الكونغو، ويسجّل له أنه استجاب لطلب المساعدة الذي وجّهه لومومبا، بإرسال الخوذ الزرق لوضع حد للتمرد، ما يعزز الاستنتاج بأنّ سياساته الكونغولية قد أزعجت الأميركيين والبريطانيين والبلجيكيين وكانت سبباً في وفاته.

في عام 1962، شرعت القوات الحكومية بقيادة موبوتو، وبالتنسيق مع قوات الأمم المتحدة، في استعادة المقاطعتين المتمردتين: كاتانغا (أصبحت تسمى شابا عام 1971)، وجنوب كاساي. وفي كانون الثاني/يناير 1963، انتهى انفصال كاتانغا.

إعادة الاعتبار للومومبا

بعد تحقيق أجراه المدعي العام الفيدرالي البلجيكي في وفاة باتريس لومومبا، صدر في العام 2001 تقرير مفصل أكد أن قرار اغتيال لومومبا  جاء مباشرة من مويس تشومبي وحكومته، كما لاحظ مشاركة قوية من قبل الحكومة البلجيكية التي دعمت انفصال كاتانغا، وشارك ضباطها في إعدام لومومبا . وسجل التقرير تدخل الملك بودوان لدى الرئيس الأميركي جون كينيدي، لمعارضة إطلاق سراح لومومبا.

وفي العام 2002، اعترفت الحكومة البلجيكية بمسؤوليتها الأخلاقية عن الأحداث التي أدت إلى وفاة لومومبا، وأعربت لأسرته وللشعب الكونغولي عن أسفها واعتذارها عن الألم الذي ألحق بهم. 

وفي العام 2016، عُثِرَ على ضرس هو كل ما تبقى من باتريس لومومبا، وهو موجود في ضريح بُنِيَ لهذا الغرض في كينشاسا.