السيدة الحرة.. أميرة الجهاد البحري "البرباروسة التطوانية"

واحدة من النساء القلائل اللواتي يذكرهن التاريخ المغاربي كمؤثّرات كان لهن دور في تاريخ هذه البلاد وحاضرها، هي الأميرة التي حاربت البرتغاليين وقوّضت احتلالهم للمدن المغربية، وتآمر عليها أبناء جلدتها.

  • السيدة الحرة.. أميرة الجهاد البحري
    السيدة الحرة.. أميرة الجهاد البحري "البرباروسة التطوانية"

السيدة الحرة، امرأة مسلمة، مغربية - أندلسية، عربية وأفريقية، سجلها الجهادي حافل بالأمجاد والبطولات. دافعت عن ثغور الغرب الإسلامي، براً وبحراً، انتصاراً للدين والأمة والوطن. لم ينصفها التاريخ، ليس لأنها امرأة ومجتمعاتنا العربية والإسلامية والأفريقية "تبخس حقوق المرأة"، كما يحلو لبعضهم القول، ولكن لأنّ الذين أصبح في يدهم القرار بعد خروج المستعمر من أوطاننا حرصوا على إتمام ما بدأه الاستعمار،أي إلغاء ذاكرة أمّة وتغييب القدوة والنموذج الأجدر بأن يقتدى به.

السيدة الحرّة، ابنة الأمير علي بن موسى بن رشيد العلمي مؤسس مدينة شفشاون، وأمها هي كاترينا فيرنانديز، المسيحية التي أسلمت وسمّيت بـ "للا زهرة". شقيقها هو الصدر الأعظم (كبير الوزراء) وقائد أركان حرب الدولة الوطاسية، الأمير إبراهيم بن علي بن راشد.

هناك من يقول إنها ولدت في غرناطة عام 1485 وهاجرت مع عائلتها من إسبانيا قبيل سقوطها عام 1492، وهناك من يقول إنها ولدت في مدينة شفشاون (شمال المغرب) في حدود عام 1494.

تلقّت تعليماً جيداً على يد أشهر العلماء ورجال الدين، منهم العلّامة سيدي عبد الله الغزواني. وقد عرفت بذكائها وسرعة بديهتها وقوة شخصيتها، نالت حنكة سياسية في ظروف تاريخية معقّدة تميّزت من جهة بتفكّك الدولة المركزية المغربية (الدولة الوطاسية)، نتيجة تنامي الصراع مع السعديين الزاحفين من الجنوب نحو العاصمة فاس للإطاحة بالوطاسيين، ومن جهة ثانية نتيجة تهديدات الصليبيين القادمين من إسبانيا والبرتغال.

كانت تدير جيشاً وأسطولاً بحرياً، وقد تحالفت مع خير الدين بارباروس لمنع الصليبيين من السيطرة على البحر الأبيض المتوسط. وإلى جانب اهتمامها بالسياسة، أظهرت أيضاً مهارة كبيرة في التدبير الاقتصادي. كانت تتحدّث العربية والإسبانية والبرتغالية.

زواجان سياسيان

تزوجت السيدة الحرة مرتين، وكان ارتباطها الأول وهي في سن الـ16 عام 1510 بقائد مدينة تطوان، الأمير علي المنظري، المنحدر من عائلة أندلسية، نزحت إلى المغرب مع سقوط غرناطة واستقرت في تطوان التي أعاد علي المنظري تحصينها، وأصبح أميراً عليها. ويمكن القول إن هذا الزواج قد فتح المجال أمام تحالف سياسي بين إمارة شفشاون وإمارة تطوان، مما قوّى جبهة مقاومة الاحتلال البرتغالي للموانئ المغربية الشمالية. 

بعد زواجها، انتقلت السيدة الحرة من شفشاون إلى تطوان. وبفضل ذكائها وثقافتها استطاعت أن تبرز موهبتها في شؤون الحكم، إذ كانت تقدّم المشورة لزوجها في مجال الحوكمة والدبلوماسية. وتنوب عنه في بعض القضايا، كما كانت تتولى أمور الحكم في فترات غيابه للجهاد، وبعد وفاته عام 1519 أصبحت حاكمة تطوان. وبحسب بعض الروايات فإنّ أخاها الصدر الأعظم إبراهيم بن علي هو من قام بتنصيبها حاكمة على تطوان، فأدارت الاقتصاد والسياسة بحنكة وقادت إمارة البحار بكفاءة عالية.

عام 1541، تزوجت ثانية من سلطان المغرب أحمد الوطاسي، لكنه لم يصحبها معه إلى مدينة فاس، بل أبقاها في تطوان ملكة عليها. لقد كان هذا الزواج أيضاً سياسياً بامتياز لأن السلطان كان يريد، من جهة، تعزيز تحالفاته الداخلية في مواجهة السعديين الذين كانوا يوسّعون نفوذهم في المغرب، ومن جهة ثانية لمواجهة تهديدات الإسبان والبرتغاليين لشمال المغرب بالاستعانة بجيش وأسطول السيدة الحرة. أما الحرة فقد كانت في حاجة إلى دعم السلطان لحكمها، وهي المشتغلة بشكل شبه يومي بتسيير حملات الجهاد البري والبحري ضد الصليبيين، إضافة إلى تدبير شؤون المدينة ومحيطها.

التحالف مع خير الدين بارباروس العثماني

عرف النصف الثاني من القرن الـ 15 حدثين مهمين سيسمان تاريخ حوض البحر الأبيض المتوسط، إذ فتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية عام 1453 وسقطت الأندلس سنة 1492 ومورست بحقّ المسلمين فيها أبشع صور التعذيب، مما دفع الكثير منهم إلى الهجرة خاصة نحو المغرب ومناطق نفوذ الدولة العثمانية: الجزائر وتونس وتركيا.

كانت الدولتان الإيبيريتان، إسبانيا والبرتغال، تنظران بقلق إلى تمركز الأندلسيين في شمال المغرب، خشية أن يتحوّلوا إلى قوة سياسية وعسكرية، تطمح إلى استرداد الأندلس خصوصاً في حالة تحالفهم مع العثمانيين، فبادروا إلى ملاحقتهم واحتلال المدن والثغور في شمال وغرب المغرب.

احتلت البرتغال موانئ 6 مدن مغربية، منها 3 في البحر الأبيض المتوسط، هي: سبتة (1415-1668)، القصر الصغير (1458-1550)، طنجة (1471-1661)، وثلاثة في شواطئ المحيط الأطلسي هي: أصيلة (1471-1549)، آسفي (1488-1541)، وأزمور (1513-1541).

وحدة الهدف المتمثّل في محاربة الجيوش الصليبية والرغبة في الانتقام لما حدث للمسلمين في الأندلس والأمل في استردادها، دفع السيدة الحرة إلى الاتصال بالقائد العثماني خير الدين بارباروس والتحالف معه، باعتباره ممثّلاً للإمبراطورية العثمانية التي كانت تسيطر على شمال أفريقيا إلى حدود الجزائر، في حين تمتّع المغرب بالسيادة على أراضيه.

فتولّى خير الدين بارباروس السيطرة على الجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط بينما تولّت الحرة مسؤولية النشاط البحري في غربه وتحديداً في مضيق جبل طارق، وهذا هو السر في إطلاق الإسبان لقب "البرباروسة التطوانية" عليها. 

هذا التحالف كان من آثاره نمو جيش وأسطول السيدة الحرة فاستطاعت إيقاف توغّل البرتغاليين برياً في شمال المغرب، كما استطاع أسطولها أن يؤمّن القسم الغربي من سواحل البحر الأبيض المتوسط والحد من أنشطة الأساطيل الصليبية في البحر الأبيض المتوسط.

على المستوى الاقتصادي ساعدت أموال الغنائم والفدية المستمدّة من المعارك والغارات على توفير ما يكفي من الثروة للسماح لتطوان بالازدهار، ولتصبح مدينة رئيسية في شمال أفريقيا.

الانقلاب على السيدة الحرة

بعد زواج السيدة الحرة من السلطان الوطاسي، وجدت عائلة المنظري نفسها خارج دائرة الحكم، فقام كبار رجال هذه العائلة بانقلابٍ قاده محمد الحسن المنظري الذي كان يقطن مدينة فاس، وفرّ منها في تشرين الأول/أكتوبر 1542 هارباً من سلطان المغرب أحمد الوطاسي. توجّه إلى تطوان رفقة أفراد عائلته وجماعة من الفرسان، وفور وصوله أطاح بالحرة وطردها بعد أن استولى على ممتلكاتها وأعلن نفسه حاكماً على المدينة، مستقوياً ببيعته للسعديين وخروجه على الوطاسيين.

لجأت الحرة إلى الشفشاون عند أخيها غير الشقيق محمد بن راشد الذي تولى حكم المدينة بعد وفاة والده، وكان ولاؤه هو أيضاً للسعديين، على عكس أخيه الوزير إبراهيم الذي كان ولاؤه للوطاسيين.

تصوّفها

في شفشاون أسست السيدة الحرة رباطاً صوفياً ومكّنته من ذراع عسكرية موجّهة أساساً ضد التوغّلات الصليبية. توفيت عام 1562 لتدفن في مقر الزاوية الريسونية في شفشاون.